هكذا أسهمت سياسات الدولة العامة في صياغة البرلمانات والتأثير على الانتخابات النيابية:

* كانت الدولة وما زالت الراعي الأكبر للمصالح والأعمال والخدمات والأسواق والمؤسسات، وفي ظلها نشأت القيادات السياسية والاجتماعية

* كسرت عملية الفصل بين النيابة والوزارة التي ابتدأت عام 1997 حلقة رئيسية في تطور وتشكل القيادات والنخب السياسي

* التشكيل الاجتماعي الأردني جاء بشكل رئيسي نتاجاً لمؤسستي التعليم والجيش، وكانت القيادات الاجتماعية وملاكي الأرض شريكاً ثانوياً

* أصبحت العلاقات التي تحكم الانتخابات وتنظمها تقوم على منافع فاسدة أو روابط قرابية ودينية لا تصلح لتشكيل حياة سياسية وحكومات برلمانية!

* نمرُّ بمرحلة عبور إلى مرحلة جديدة مختلفة عن الحاضر والماضي، وربما لن يكون بمقدرونا تخمينها إلا حين يبدأ مواليد الألفية في تولي الوظائف والقيادة

* كانت التيارات الإسلامية واليسارية والقومية تمدّ النخبة السياسية بتجارب مميزة وإضافية وكانوا غالباً مصدر حيوية للحياة السياسية

* مازال قطاع المال ورجال الأعمال محدود المشاركة السياسية والاجتماعية

* لم يعد الوزير قائدا اجتماعيا أو وطنيا أو حتى سياسيا، لم يعد المواطنون يعرفون الوزراء ولا يتذكرونهم في ملاحظة وتحليل المشهد السياسي

* الأصل أن النائب قائد سياسي واجتماعي يجب أن يشق طريقه نحو السلطة التنفيذية أو التأثير فيها

نخبة بوست – إبراهيم غرايبة

بخلاف حركة التاريخ، فإن المجتمعات الأردنية وقادتها الاجتماعيين نتاج الدولة وليس العكس؛ ففي حين أنشأت المجتمعات في التاريخ والجغرافيا الدول والنخب السياسية، فإن التشكيل الاجتماعي الأردني جاء بشكل رئيسي نتاجا لمؤسستي التعليم والجيش، وكانت القيادات الاجتماعية وملاكي الأرض شريكا ثانويا مع الدولة والجيش والمدارس والمعاهد ثم الجامعة الأردنية. يمكن أن نقول إن مؤسسي المجتمع الأردني الحديث هم الجنود والمعلمون.

ثم جاء الأطباء والمهندسون والمحامون والقضاة، ومازال قطاع المال ورجال الأعمال محدود المشاركة السياسية والاجتماعية.
كسرت عملية الفصل بين النيابة والوزارة التي ابتدأت عام 1997 حلقة رئيسية في تطور وتشكل القيادات والنخب السياسية، فقد كان النائب القادم من تجربة مهنية أو اجتماعية (رؤساء البلديات بخاصة) إضافة حيوية للنخب السياسية، لكنه حين لا يكون في مقدور النائب أن يكون وزيرا تتشكل نخبتان سياسيتان منفصلتان عن بعضهما (النواب والوزراء) ولا يعود الوزراء بالضرورة ينتمون إلى تجربة اجتماعية أو وطنية.

هكذا لم يعد الوزير قائدا اجتماعيا أو وطنيا أو حتى سياسيا، لم يعد المواطنون يعرفون الوزراء ولا يتذكرونهم في ملاحظة وتحليل المشهد السياسي. والنخبة النيابية أيضا يصيبها الركود والإحباط حين لا يكون في مقدور النائب أن يتحول إلى قائد سياسي تنفيذي ومؤثر. الأصل أن النائب قائد سياسي واجتماعي يجب أن يشق طريقه نحو السلطة التنفيذية أو التأثير فيها، فهذا هو السبيل المتبع في دول العالم لتطبيق البرامج واختيار القيادات السياسية.

ليس لدى البشرية برامج وأفكار تخلو من العيوب والسيئات. يجب أن تؤخذ هذه الحقيقة بالاعتبار في السياسية وفي الحياة أيضا. فأن يكون للجمع بين النيابة والوزارة سيئات كثيرة لا يعني التخلي عنها. المسألة هي موازنة بين الأضرار والمنافع، فليس ثمة ضرر لا نفع فيه، ولا نفع لا ضرر فيه. هكذا نستخدم السيارات على سبيل المثال ونحن ندرك أن الإبل والخيل والحمير أقل ضررا وخطرا. لكن يبدو أمرا رومانسيا مأساويا أن نتبع الشاعر ادوين موير في قصيدته “الخيول” التي تلاقي منذ نشرها في عام 1952 إقبالا وإعجابا كبيرين والتي يحذر فيها من تأثير التكنولوجيا على الحضارة وأن المخرج في الاستغناء عنها.

“تربض الجرارات حول حقولنا
وفي المساء
تبدو كوحوش بجرية رطبة، رابطة ومنتظرة
نهجرها حيث هي ونتركها لتصدأ
ستبلى وتصبح كغيرها هباء”

الغرايبة يكتب : الانتخابات النيابية حصيلة سياسات عامة؛ طويلة ومتراكمة


لم يصدق أحد موير على نحو عملي سوى بضعة آلاف من طائفة الأميش، والواقع أنهم يفعلون ما يحلم به موير قبل أن يولد وتظهر قصيدته.

العملية السياسية تؤخذ سلسلة متصلة من التنافس والتداول والتأثير والضمانات، ولا يمكن فصلها عن بعضها، فما نملكه إزاء مساوئها وسلبياتها هو ابتداع ضمانات وسياسات تجعلها إلى أقرب إلى الصواب والعدالة، لكن يكاد يكون مستحيلا على الأقل في مدى الخبرة والتجربة الإنسانية القائمة أن ننتج عملية سياسية ديمقراطية تتضمن تغييرات في البنية والمتواليات التقليدية، بل يجب أن تؤخذ جملة واحدة مع الإدراك والوعي المسبق بحسناتها وسيئاتها والعمل على تطويرها وتحسينها ضمن نسيجها المتكامل! ففي متناقضاتها وجدلها المعقد تأتي محصلة من العدالة النسبية!

كيف ستشكل الأحزاب أو الكتل السياسية الحكومات بناء على أغلبية برلمانية؟ أظنه صعبا إلى درجة الاستحالة أن يكون في مقدور حزب أن يشكل حكومة في ظل قاعدة الفصل بين النيابة والوزارة حتى لو حصل على أغلبية برلمانية. كيف يتحمس النواب القادمون بمجهودهم وإمكانياتهم وموارهم المتراكمة للثقة بحكومة لا يكونون وزراء فيها حتى لو كان الوزراء والنواب ينتمون إلى حزب واحد؟ من هو النائب الذي يقبل أن يحصد ويدرس لأجل عمه الوزير؟ النائب يصير نائبا بثقة الشعب التي حصل عليها بعمل وخبرة وتجارب طويلة، وهو الذي يصنع الإنجازات والمكاسب السياسية لحزبه.

هل يعقل أن نطلب منه بعد ذلك أن يتنحى سياسيا وأن يدعم وزراء يختارهم الحزب من غير النواب (من وجهة نظر النواب: الله أعلم من يكونون!) إننا بذلك نحول النواب إلى عمال سخرة لأجل قيادة الحزب، إن ذلك يشبه عملية فداء لا يحتملها من البشر إلا قديسون يفعلون ذلك حبا لله والعالم وليس لأجل أن يصير أحد من الناس وزيرا. هذا مخالف لطبيعة البشر ومعاكس للحياة السياسية إلى درجة المستحيل.

كانت الدولة ومازالت هي الراعي الأكبر للمصالح والأعمال والخدمات والأسواق والمؤسسات، وفي ظلها نشأت القيادات السياسية والاجتماعية، وقدمت للمعارضة السياسية عددا كبيرا من قادتها ونشطائها، وتشكل الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي في سياق الدور الذي كان يؤديه قادة الدولة وموظفوها، الحكام الإداريون مدراء المدارس ومعلموها، وموظفو الدولة بعامة، ولكن الدولة لم تعد تملك رؤية ورسالة اجتماعية واضحة تطلب من موظفيها أداءها وخدمتها، ولم تعد تمثل مشروعا سياسيا واجتماعيا تسعى لتحقيقه.

كانت الدولة قائمة على أساس التحديث والتنمية ونشر التعليم والوعي الاجتماعي والثقافي والصحي ومواجهة الجهل والخرافة، وكان للنجاح النسبي الذي تحقق دور في غياب البوصلة والأهداف والرؤى الجديدة المفترض بناؤها وتطويها على ما أنجز، لم تعد الدولة تعرف ما الذي تريده من المجتمعات، ولم تعد معنية ببناء طبقة اجتماعية تحمل برنامجا ثقافيا وسياسيا، ويمكن ببساطة اليوم ملاحظة أن جمهور “المؤيدين” وقادتهم لا يمثلون الطبقة الوسطى والمهنيين بوضوح، ويكاد المؤيدون يقتصرون على مجاميع من الأتباع والقادة المتطلعين إلى منافع قريبة ومباشرة وعاجلة.

وأنشأت الخصخصة على نحو غير مقصود ثقافة جديدة وسلوكا ابتعد عن الانتماء إلى العمل والمصالح العامة، وأصبح الأداء العام في أسوأ وأضعف حالاته.

لم يعد الموظف قدوة حسنة للمجتمع، ولا ينظر الناس إليه باعتباره قائدا مؤثرا، وذلك يعني ببساطة أن العمل العام لم يعد يغذي القيادات والنخب السياسية بروافد وقيم جديدة، وأصبحت العلاقات التي تحكم الانتخابات وتنظمها تقوم على منافع فاسدة أو روابط قرابية ودينية لا تصلح لتشكيل حياة سياسية وحكومات برلمانية!

وكانت التيارات الإسلامية واليسارية والقومية تمد النخبة السياسية بقادمين إليها من خلال تجارب مميزة وإضافية، لقد كانوا غالبا في هجرتهم إلى السلطة مصدر حيوية للحياة السياسية، لكن ذلك توقف منذ فترة طويلة، وصار أصغر قائد يساري أو إسلامي أو قومي يناهز السبعين من عمره. هكذا فقدت النخبة مصدرا عفويا غير مقصود في حيويتها وتجددها.

على أي حال، فإننا مثل العالم نمر بمرحلة عبور أو انتقال إلى مرحلة جديدة مختلفة عن الحاضر والماضي اختلافا كبيرا، وربما لن يكون في مقدرونا معرفتها او تخمينها إلا حين يبدأ مواليد الألفية في تولي الوظائف والقيادة السياسية والمهنية والاقتصادية. وتلك قصة أخرى تستحق وقفة طويلة خاصة بها.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

كاتب وباحث يكتب في الصحافة الاردنية والعربية منذ عام 1985 صدرت له كتب وروايات ومجموعات قصصية. منها الاردن الممكن: ما نحب ان نكون وما يحب فعله لنكون ما نحب. التطرف: التكوين المعرفي في الفهم المواجهة. الاعتدال والتطرف: الأصول الاقتصادية والاجتماعية.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version