نخبة بوست – محرر الشؤون السياسية

في دراسة موسعة بعنوان “الأطماع الصهيونية المبكرة في شرقي الأردن: مشروع لورانس أوليفانت سنة 1879” أعدها الباحث والاكاديمي أ.د. علي محافظة، يكشف النقاب عن واحدة من المحاولات البريطانية المبكرة لتأسيس مستوطنة يهودية في الشرق الأوسط.

وتسعى الدراسة إلى تسليط الضوء على مشروع “لورانس أوليفانت”، الذي لم يكن يهدف فقط لتوفير ملاذ آمن لليهود المضطهدين في أوروبا الشرقية وروسيا؛ بل لتحقيق أجندات سياسية ودينية معقدة؛ بحيث كان المشروع يتطلع لإقامة موطئ قدم استيطاني في منطقة البلقاء بالأردن، مما قد يعزز النفوذ البريطاني في منطقة كانت محورًا للتنافس الاستعماري بين القوى الكبرى آنذاك، مستفيدًا من الدعم الديني للتيارات الإنجيلية المؤمنة بعودة اليهود إلى “الأراضي المقدسة”.

"نخبة بوست" تنشر دراسة حول الأطماع الصهيونية في شرق الأردن؛ مشروع أوليفانت
الباحث والاكاديمي د. علي محافظة

ووفقاً للدراسة ، فقد شكّلت منطقة شرق الأردن، وتحديداً البلقاء، محوراً للأطماع الاستعمارية البريطانية في القرن التاسع عشر؛ نظراً لما تملكه من مزايا جغرافية واقتصادية جعلتها نقطة جذب للاستيطان ومركزاً محتملاً لنفوذ استراتيجي في المنطقة.

وفي إطار مشروع لورانس أوليفانت، كانت البلقاء خياراً بارزاً لإقامة مستوطنات يهودية، حيث أدرك البريطانيون أن الموقع الجغرافي المميز للبلقاء، الذي يربط الشام بشبه الجزيرة العربية ويتصل بموانئ البحر الأبيض المتوسط عبر فلسطين، سيسهم في توسيع نفوذهم الاستعماري، ويوفّر لهم نقطة سيطرة على أهم طرق التجارة البرية والبحرية.

بالإضافة إلى موقعها، كانت الموارد الزراعية الغنية في البلقاء عاملاً حاسماً في اختيارها؛ فقد تميّزت بتربتها الخصبة وسهولها الممتدة، ما يجعلها ملائمة لإقامة مستوطنات تعتمد على الزراعة، وتشكّل قاعدة اقتصادية قوية تسهم في تحقيق اكتفاء ذاتي للمجتمعات المستوطنة.

ومن خلال استغلال هذه الموارد، كانت بريطانيا تسعى لتحويل البلقاء إلى قاعدة تمدّها بالقوة الاقتصادية والبشرية في المنطقة، مما يتيح لها تعزيز هيمنتها ويُضعف من قدرة القوى المنافسة، مثل العثمانيين، على السيطرة الكاملة على هذه الأرض الحيوية.

ويأتي هذا المشروع ليس فقط كحل لتقديم “ملاذ آمن” لليهود الأوروبيين الذين عانوا من الاضطهاد في روسيا وأوروبا الشرقية؛ بل كجزء من حزمة أوسع من الأهداف السياسية والدينية والاقتصادية، تهدف لتعزيز النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط وتوجيه مسار الأحداث بما يخدم المصالح البريطانية.

ترحيل اليهود من أنحاء أوروبا وذلك تبعاً للقرار 11: حين طرد الجيش الأمريكي اليهود من بيوتهم – كروم

وبحسب الدراسة، استند أوليفانت إلى شبكة علاقاته السياسية داخل بريطانيا لحشد التأييد لهذا المشروع، مستفيدًا من تعاطف بروتستانتي واسع النطاق مع قضيته؛ فقد طرح أوليفانت مشروعه ضمن إطار ديني يهدف إلى “إعادة اليهود إلى الأراضي المقدسة”، في خطوة تتماشى مع نظرة بروتستانتية إنجيلية شائعة، ترى في عودة اليهود إلى فلسطين تحقيقًا للنبوءات التوراتية التي تبشر بعودة المسيح؛ وهذه النظرة شكلت دافعًا دينيًا قويًا لدى أوليفانت وداعميه، الذين رأوا في استيطان اليهود في فلسطين تحقيقًا لأهداف دينية تتجاوز الاعتبارات السياسية.

ولكن هذا المشروع لم يكن محضًا دينيًا، بل تضمّن بعدًا اقتصاديًا وسياسيًا؛ فقد اقترح أوليفانت تقديم دعم مالي بريطاني للدولة العثمانية المتعثرة ماليًا، مقابل منحها امتيازات لاستيطان البلقاء، في محاولة منه لجعل المشروع مقبولًا على المستوى الرسمي.

و كان المشروع يستهدف أيضًا إيجاد حل طويل الأمد لما يُعرف بـ“المسألة اليهودية” في أوروبا، حيث واجه اليهود اضطهادًا وتمييزًا في العديد من الدول، مما دفع ببعض الساسة البريطانيين إلى النظر في حلول دولية لوضعهم.

تتناول الدراسة أيضًا البُعد الاستراتيجي للمشروع، إذ كان يتطلع إلى تعزيز المصالح البريطانية في المنطقة من خلال إنشاء مجتمع يهودي في البلقاء، فقد اعتبر أوليفانت أن إقامة هذا المجتمع اليهودي يمكن أن يشكل نقطة توازن جديدة في شرق المتوسط، تمنح بريطانيا نفوذًا إضافيًا في منطقة كانت محط تنافس القوى الاستعمارية الكبرى.

ورغم محاولات أوليفانت لتبرير المشروع بمختلف الأبعاد، قوبل بمقاومة شديدة، أبرزها رفض الإمبراطورية العثمانية السماح بأي مستوطنات أجنبية على أراضيها، حيث رأت في هذا المشروع تهديدًا صريحًا لسيادتها.

الخلاصة من الدراسة

وترافق هذا الرفض مع ردود فعل دولية مشككة، إذ نظرت بعض الأطراف الغربية إلى المخطط كجزء من استراتيجية بريطانية تهدف إلى توسيع نطاق نفوذها على حساب مصالح القوى الأخرى في المنطقة.

ويكشف مشروع أوليفانت كيف كانت المصالح الاستعمارية توظف الأهداف الدينية لخدمة التوسع السياسي؛ وعلى الرغم من فشل المشروع نتيجة للرفض العثماني والمعارضة الدولية، إلا أن هذه المحاولة كانت خطوة مبكرة ضمن سلسلة من التحركات التي أفضت لاحقًا إلى دعم إنشاء مستوطنات يهودية في فلسطين.

وتمامًا كما في القرن التاسع عشر، يستمر اليوم الصراع حول الأرض في فلسطين، حيث يتم استغلال المشاعر الدينية لتحقيق أهداف سياسية؛ بحيث يمثل مشروع أوليفانت حالة تاريخية تبرز تداخل المصالح الاستعمارية والدينية، وتستدعي فهم السياقات القديمة لدوافع الاستيطان الذي لا يزال يشكل أساس النزاع في فلسطين حتى اليوم​.

كما يمكن الاطلاع على الدراسة كاملة من خلال الملف المرفق هنا:

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version