نخبة بوست – كتبت: د. ناهد الحموري
جلس مرتخيا على الكرسي في فناء شرفة بيتها المشرقة وكأنها سرقت صفاتها من اسمها تلك الشرفة المطلة من بيت فخم واسع.. ابتسم راضيا لراحة تعيشها ابنته واغمض عينيه و سيق برحلة الى عمر مضى.. هناك على ضفاف النيل النقي والأشجار الوارفة يداعب صوت حفيفها نقاء نيل مدينته التي يقطنها بوجهها الخشن دون دلالها المخبأ عن طفولته وشبابه … فكانت هي “المنصورة ” قاطنة صراعات البذل والحلم وكذلك الخيالات..
فالراحة بمنتهاها في ذلك الوقت بالكاد تكون رمقات تأمل لجدران بيت صديقه وما يخفيه ان حظي بزيارة خاطفة لذلك الصديق و ما ينعم به ذلك الاخير هناك في الاعلى اعلى النيل الموئمم من الخالق والمستعمر بواقع الكثيرين وهو احدهم.. اصابه الضجر من هذه الفكرة و تساؤلات عظام تساؤلات حياة (من إلى اين.. و الى متى! ) تلتف حوله و تغوص بداخله و تملؤ طريقه خطوة بخطوة حتى وصل الى المقهى.. وكأنه اي المقهى الاجابة اليائسة لحنق الأسئلة المرافقة… لتزده الاجابة حنقا..ترك الاجابة خلفه وسارع هاربا.. فالنقيض للنقيض يُجمع ويتنافر من المقهى الى الهروب .. الهروب حتى من والده في تلك اللحظة ..والده معلم المقهى .. تعال يا أحمد ” اعمل لي عليك قبل السرمحه؟!؟”
اطبقت اذني أحمد في تلك اللحظة عن سماع كل الاصوات صوت المنادي واصوات قاتني سهرات المقهى القادمة يوميا لامحالة بعد الغروب فتطبق على يوم اخر في مدينته و يومياته التي تأبى ان تتبدل او تتحول..فزاد حنقه من هذا الواقع وهذه العبارات المنسوجة حنقا داخله ..واتجه مسرعاً راكضاً نحو الطريق الإجباري في المدنية لكنه طريق ..”علني اختفي عن انظار والدي ” قالها ونسمات الهواء الجافة تعبر من بين اصابعه وتلامس وجنتيه ..و تتسلل بغبارها لعينيه ..
حاول فركها بكلتا كفتيه فنزلت من عينيه عبرات ثقال … ليجد ما يعلل به النفس بأنها دموع الغبار ليس إلا.. وبخطوات مسرعة تقودها عينين بالكاد تتلمس الطريق وصل باكيا لعتبات بيته ..مسح عينيه براحتيه الغضتين.. فالغبار تجمعت ونخزت بعينيه عبر طريقه المتعرج من ضفة النيل الى المقهى حتى هنا .. و على مرها تحدثه نفسه دون توقف بكثير من التفاصيل يجمعها “ما بال هذا لا ينتهي!؟!” للترتعد هذه الاحاديث امام محيا ابيه وقد بات واقفا وإياه على عتبة البيت ايضا.. ابي !!..نعم …(بناديك من وقت مرورك بجانب المقهى .. وحضرتك عامل حالك مش سامع.. و أنت من أنت وأنا من أنا!!! )…قالها صارخاً غاضباً من عصيان ذلك الصبي … وقف أحمد صامتا بصلابة ..ربما هذا ما يملك أمام صراخ أبيه ..أو ربما هذا هو الضيق بعينه من تفاصيل غرفة مظلمة تنتظره بعد هذه العتبة وخلف الباب الخشبي العريض الملتصق بها… هذه الغرفة التي تسكنه قبل ان يسكنها وتضيق بأنفاسه أكثر من ضيقها وعدم أتساعها لساكنيها..
هو لا يشعر بضيقها وعتمتها الا مع ضيق الحياة والخيارات التي لا يملك منها إلا تحديات باتت قرينته ورفيقته.. أما صباحات ومساءات الغرفة أو المسكن فكانت رقة شروق الشمس تقشع ظلمتها كزائر على عجل وتغادر.. إلا أنه يشرح صدره لها بزيارتها ويترك نسماتها تداعب أحلامه التي يصحو و ينام عليها فهي تطل صباحا من الفتحة العلوية للباب الخشبي أما مساء و بعد يوم مدرسي شاق و ما يتبعه من تحضير من عمله المسائي في المقهى.. تعبث بأشعتها المودعة من بين جنبات وثقوب الباب.. تعبث بتفاصيل ومكونات شبابه التي بدأت ترسم وتضح على مهل.. على النقيض من الضجيج الذي يسكن الغرفة ولا يودعها بمشاكسات ومشاجرات اخوانه.. ” هذا قميصي.. لا انا من أعارك إياه يوم فرح ابن الجيران سعيد تلبسه وترجعه، مش لتصادره” ..وانتِ ما تروحي على الأطباق التي تنظر سعادتك لتنظيفها !! لا هذا دورك ياختي بالغسيل ومبارح انهديت من تنضيف البيت وكمان الأطباق ” …
هذا الضجيج وهذا الثقل الموسوم على جدران وسقف الغرفة او مسكنه يطالع أحمد كوسم من على الباب الخشبي في الخارج ..الباب صاحب الشمس وملاصق العتمة وجامع الشجار وقاتل الهدوء و كذلك رفيق تلك الاحلام ساكنة الخيال ..”انا اختنق ..انفاسي تضيق..نعم تضيق” ليصرخ هو صرخة في النفْسِ امام كل ما يعتريه .. ممتدة من عمق طفولة لم يرافقه شيئا من فوضويتها وضحكاتها يوما …بصوت يجمع” اللأات ” المستحدثة و العتيقة ليصل صداها ليومنا هذا ..
مشهد عاد وتكرر مرات ومرات وانطوى على الشتاءات ببرودتها واحباطها والاصياف بحرارتها وعزيمتها.. حتى كان ذلك الصيف في ذلك اليوم وذلك الصبح حين دخلت الشمس من علو للغرفة المظلمة القابعة بين حلم وواقع.. تسللت لعيني أحمد في ذلك الصباح رذاذات اشراقات الشمس لابل واخترقتها لأحلامه.. وفي تلك اللحظة شعر بدفء يمناها على جبينه.. اقتربت منه ..عانقت خصلات شعره.. وانتقلت بكلتا كفتيها المرتعشة و احتضنت و جنتيه .. و دنت منه.. لأذنه ..وبصوت حنون خافت كانت كلماتها..” استيقظ يا أمي …عملتها يا حماده ..انت طلعت عيني “قالتها ضاحكة ضحكة لا تخلو من لذة الفخر وتابعت ” نجحت يا أمي ” انتفضت يداها عنه فرحا و قامت تتبختر بخطوات الانثى التي وجدت ذاتها أخيرا “ما أنا أمه” وتوالت طقوس وتفاصيل فرحها الخاصة .. وأما الغرفة المعتمة شحنت فجأة بفولتات كهربائية تتجاوز الحد المسموح به من المستعمر… فقطعت الأرض المبنية عليها الغرفة لم تدخل التنظيم بعد_ الا انها اضاءت من وقع الفرح والزغاريت فهي الام وهو الحبيب الصغير ..
انتفض ذلك اليافع خريج ثانوية المنصورة من فِراشه فكانت المرآة مقابلة له بقامته الطويلة وأمسك حوافها الحادة المفتقرة لأي “برواز “‘ بكلتا يديه الصلبة و جذبت عيناه و بنشوة الفخر نفسه على سطح المرآة العاكس ” الآن فعلتها ..هذا صنيع يداي.. وأما حلم عيوني سيبدأ عند بوابة كليتي التي سأترأسها يوما. وهو ما كان …
هذه صور مرسومة في مخيلتها عن ماضيه.. آثرت مخيلتها إلا أن تسوقها لها محبة له من محفل نصره بالمنصورة …وهي الآن بمركبة عمومية تقلها عائدة منها للقاهرة ..
و الصدفة ربما أو نصيحته لها صباحاً وهي ترافقه بسيارته الفارهة بأن عليها ان تقل المركبة العمومية مساء هذا اليوم دون غيرها من المركبات و هو ما كان ..
ليكتب القدر ان تنسج خيوط من حياته تبدأ من خلف نافذة المركبة التي تجاورها لتعود بخيالاتها الى ثنايا المنصورة التي عاشها هو حقيقة…
الحقيقة التي يأبى في كل تفاصيل حياته إلا وأن يذكرها وإن صغرت.. من ساعة اليد التي لم يكن يمتلكها في طفولته ولا يمتلك رفاهية الحصول عليها وهو الحكم الذي يسري على رفاهية وفرحة الحصول الأول للأشياء التي لم يشعر بها مرات ومرات ..و أما رغبته الآن بتجريد يده منها فهو ما كان منه إحتراما لماضيه .. وأما تكوينه ومبادئه فتقديسها آت من منبعها وعمره وما قضى… فلا يغيب إلا عن اللاهي أنها منحوتة النفس بالنفس… و أما استقالته التي يرفعها الآن سهاماً مدافعة عن قناعاته ونفسه التي تأبى أن تغيير أو تتزحزح عن مقولة “أنا لا أصغر ولا أستكين للموج أو الأصنام مهما علت” ،هذا العنوان الأبرز لدروسه التي ما فتأ يحفرها في عقول تلاميذه “مشروعه الخاص ” .. فهو الأستاذ والزيتون العتيق الذي يبقى يذكر غارسه وجذوره ..حتى فاض أثره لو لم يبح به ضوء ينير قلب وطن.