نخبة بوست – من العاصمة التركية وبحضور الرئيس رجب طيب أردوغان، أعلن كل من الصومال وإثيوبيا يوم 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري توقيع “إعلان أنقرة” الذي مثّل خلاصة جهود الوساطة التركية المستمرة منذ أشهر، التي تشكل المحاولة الدبلوماسية الأنجح حتى الآن لتفكيك إحدى العقد المستعصية في القرن الأفريقي المضطرب.

وبالنظر إلى التداعيات الإقليمية للأزمة، فإن هذا يستدعي التساؤل حول الأطراف الرابحة والخاسرة من هذه الخطوة، وهل نحن على عتبات إغلاق نهائي لهذا الملف أم أن الواقع أكثر تعقيدا.

ويبرز تداخل العوامل الداخلية والخارجية في أول تحد يواجهه الاتفاق، إذ اتهمت وزارة الخارجية الصومالية يوم 23 ديسمبر/كانون الأول قوات إثيوبية بمهاجمة قواعد عسكرية صومالية في ولاية جوبالاند، وهو ما أنكرته أديس أبابا متهمة “أطرافا ثالثة” بالسعي لعرقلة تطبيع العلاقات بين البلدين.

لكن اجتماعا بين وزيري الدولة للشؤون الخارجية في البلدين تم عقده أمس الثلاثاء 24 ديسمبر/كانون الأول في أديس أبابا أكد التزام الطرفين بتعزيز الحوار وتطوير العلاقات بينهما، بالاستناد إلى إعلان أنقرة وفي إطار تنفيذ بنوده.

وفي ظل هذه الأجواء، تُطرح عديد من الأسئلة المرتبطة بدوافع كل من مقديشو وأديس أبابا وراء توقيع هذه الوثيقة.  

"إعلان أنقرة" لإنهاء التوتر بين الصومال وإثيوبيا في 5 أسئلة

على ماذا ينص الإعلان؟

“اتفاق تاريخي” هكذا وصف أردوغان الوثيقة التي توصل إليها كل من الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وذلك في مؤتمر صحفي مشترك في العاصمة التركية أنقرة، مضيفا أنه “خطوة أولى نحو بداية جديدة مبنية على السلام والتعاون” بين مقديشو وأديس أبابا.

مثلت هذه الخطوة نقلة مفاجئة بعد التعثر الذي انتهت إليه جولة التفاوض غير المباشر الأخيرة في أغسطس/آب الماضي، مما استدعى تأجيل الجولة الثالثة التي كان من المفترض عقدها في سبتمبر/أيلول.

وحسب نص الاتفاق الذي نشرته وزارة الخارجية التركية، فقد أكد كل من الطرفين احترامه سيادة ووحدة أراضي الآخر، مع التخلي عن “الخلافات في الرأي والقضايا الخلافية، والمضي قدما بشكل تعاوني لتحقيق الرخاء المشترك”.

كما اتّفق البلدان أيضا على العمل باتجاه إقرار إبرام اتفاقيات تجارية وثنائية من شأنها أن تضمن لإثيوبيا وصولا إلى البحر “موثوقا به وآمنا ومستداما تحت السلطة السيادية لجمهورية الصومال الفدرالية” بما يحقق المنفعة المتبادلة.

وقرر الزعيمان البدء بمفاوضات فنية لتحقيق هذه الغاية قبل نهاية فبراير/شباط بهدف الوصول إلى اتفاق خلال 4 أشهر “من خلال الحوار” وبدعم من تركيا “عند الحاجة”.

لقي هذا الاتفاق ترحيبا واسعا من أطراف دولية كالأمم المتحدة والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، ومن مؤسسات قارية كالاتحاد الأفريقي والإيغاد.

لماذا وقعت إثيوبيا على الاتفاق؟

تستند الموافقة الإثيوبية على توقيع الاتفاق إلى مجموعة من الدوافع الإستراتيجية، إذ يمهد هذا الاتفاق الأرضية أمام أديس أبابا لـ”وصول آمن ومستدام إلى البحر ومنه”، وهو هدف إستراتيجي أكد آبي أحمد أهميته باعتباره “مسألة وجودية” بالنسبة لبلاده.

من الناحية الاقتصادية، سيؤدي نجاح هذا الاتفاق في بلوغ مراميه النهائية إلى تخليص إثيوبيا من الارتهان لميناء جيبوتي الذي يمثل المنفذ لقرابة 90% من صادراتها ووارداتها، مما سيخفف من تكاليف النقل المرتفعة التي تحملتها إثيوبيا، والتي بلغت في بعض السنوات مليوني دولار يوميا أو ما يوازي 16% من قيمة تجارتها الخارجية، بالإضافة إلى معالجة شكاوى أديس أبابا من الرسوم المرتفعة المفروضة حاليا البالغة قرابة ملياري دولار سنويا.

يساهم الاتفاق في خفض التوتر الإقليمي متيحا لأديس أبابا التفرغ لمواجهة التحديات الداخلية متعددة الأوجه، حيث ترزح البلاد تحت التداعيات الاقتصادية المروعة لحرب تيغراي، إلى جانب الصعوبات الكبيرة في بسط الأمن في عديد من الأقاليم، نتيجة تصاعد نشاط الجماعات المسلحة المتمردة وعلى رأسها فانو في إقليم أمهرة.

على المستوى الجيوسياسي، يعكس التفاهم مع الصومال رغبة أديس أبابا في إضعاف تحالف مقديشو مع القاهرة وأسمرا، الذي شكل تحديا كبيرا لسياستها الإقليمية، كما أن هذا الاتفاق قد يفتح الباب لتلافي تداعيات الأزمة الحالية على مستوى التعاون الأمني مع الصومال والذي تضرر بشدة من خلال إصرار مقديشو على خروج القوات الإثيوبية من البلاد.

دوليا، يُسهم الاتفاق في تحسين صورة إثيوبيا على الساحة العالمية، إذ يساعد نجاح “عملية أنقرة” في تهدئة الانتقادات التي تعرضت لها أديس أبابا بعد توقيعها مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال الانفصالي، ويبرزها بوصفها طرفا راغبا في الحلول الدبلوماسية.

لماذا وافق الصومال على توقيع الاتفاق؟

تتمثل محفزات الصومال للموافقة على إعلان أنقرة في عدة اعتبارات إستراتيجية وسياسية، يأتي في مقدمتها سعي مقديشو إلى استباق أي تداعيات محتملة لتغير السياسة الأميركية تجاه ملف أرض الصومال، لا سيما في ظل الدعم العلني لبعض المسؤولين عن الملفات الأفريقية في ولاية ترامب الأولى لاتخاذ هذه الخطوة، مما يُعقّد الأوضاع الإقليمية ويُسرّع فرص إثيوبيا للوصول إلى اتفاق مباشر مع الإقليم الانفصالي.

على المستوى الداخلي، يواجه الرئيس الصومالي تحديات سياسية وأمنية عديدة وصلت حد الاشتباك المسلح مع قوات ولاية جوبالاند، وهكذا يوفر التفاهم مع إثيوبيا فرصة للاستفادة من نفوذها على أطراف صومالية متعددة، كما يمكنه من التركيز بشكل أكبر على مواجهة المشكلات الداخلية المتفاقمة.

ويهدف الاتفاق إلى منع إثيوبيا من الدخول في اتفاقيات منفصلة مع أرض الصومال عبر تأمين وصول بحري مستدام وآمن لها. كما تضمنت نصوص الإعلان اعتراف إثيوبيا بوحدة وسلامة وسيادة الأراضي الصومالية، وهو ما يعتبره بعض المحللين تأكيدا ضمنيا لموقف الحكومة الصومالية ضد أي تحركات انفصالية.

أما في ما يخص الجانب العسكري، فإن الجمود الذي واجهته الوساطات السابقة بين البلدين رفع احتمالات الصدام المباشر، وهو خيار لن تفضله مقديشو، حيث يرجح الباحث الصومالي الشافعي أبتدون -في مقال له- أن القاهرة لم تقدم ضمانات كافية للصومال إذا نشبت حرب مع إثيوبيا، كما أن أوضاع قواته المسلحة لا تسمح بخوض مواجهة مسلحة كهذه، وهو ما يعزز الحاجة إلى مسار دبلوماسي لتجنب التصعيد.

من الرابحون والخاسرون من هذا الاتفاق؟

حقق الإعلان مكاسب جوهرية لكل من مقديشو وأديس أبابا، إذ استطاعت الأولى انتزاع اعتراف إثيوبي باحترام سيادة ووحدة الأراضي الصومالية، في حين ربحت إثيوبيا اتفاقا على ممر بحري آمن ومستدام لتجارتها عبر الصومال.

خارج طرفي الأزمة المباشرين، تأتي تركيا على رأس الرابحين من هذا المسار الدبلوماسي لحل الأزمة بين الصومال وإثيوبيا، إذ يشير تقييم منشور على موقع جيوبوليتكال مونيتور إلى أن هذا الاتفاق يمثل تأكيدا واضحا على نفوذ أنقرة المتزايد في القرن الأفريقي.

كما أن نجاح الوساطة سيمنح أنقرة على الساحة الدولية سمعة بوصفها شريكا عمليا وموثوقا وقادرا على التوسط في بعض أكثر البؤر الجيوسياسية حساسية وتحديا في العالم.

اقتصاديا، يؤهل الاتفاق تركيا لجني فوائد طويلة الأجل، فالشركات التركية مستعدة الآن للمشاركة في مشاريع البنية التحتية الكبرى المرتبطة بالاتفاق، بما في ذلك بناء وتطوير الموانئ وشبكات النقل وغيرها من المرافق المرتبطة بالتجارة، مستفيدة من أن الأوضاع الاقتصادية في كلا البلدين لا تتيح لهما الاضطلاع بتولي مسؤولية إنشاء هذه البنى بشكل منفرد.

على الضفة الأخرى، تبدو جيبوتي أحد الخاسرين من هذا الاتفاق الذي قد يمهد الطريق لتحول إثيوبيا نحو استخدام الموانئ الصومالية في جزء كبير من تجارتها الخارجية، حيث توفر الحركة التجارية الإثيوبية موردا لخزينة جيبوتي يتراوح بين 1.5 مليار إلى ملياري دولار سنويا كأحد أكبر المداخيل الحكومية.

بجانب جيبوتي، يصف موقع جيوبوليتكال مونيتور التطور الأخير بأنه “خسارة إستراتيجية لمصر”، إذ كانت القاهرة تأمل من خلال التحالف مع الصومال في الحد من قدرة إثيوبيا على توسيع نطاقها الإقليمي، في حين يؤدي نجاح الوساطة التركية إلى حصول إثيوبيا على منفذ بحري بما يعزز من موقفها في القرن الأفريقي، ويزيد من جهة أخرى من نفوذ تركيا في المنطقة الحساسة للمصالح المصرية.

على الضفة نفسها، يقف إقليم أرض الصومال الذي تراجعت احتمالات توصله إلى اتفاق مع إثيوبيا يفضي إلى الاعتراف به دولة مستقلة مقابل حصولها على ميناء وقاعدة عسكرية على شواطئه.

بين الرابح والخاسر، تقف حركة الشباب المجاهدين حيث ترجح بعض التحليلات أن خلو الاتفاق من النص صراحة على انسحاب إثيوبيا من مذكرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال، الذي كرره المسؤولون الحكوميون ليكون شرطا للتصالح مع إثيوبيا، سيؤثر بالسلب على شرعية الحكومة الفدرالية في مقديشو، مما سيصب في مصلحة الحركة في ترويج سرديتها وتوسيع عمليات التجنيد مستغلة الموقف الشعبي من إثيوبيا.

وقد أصدرت الحركة بيانا رفضت فيه الاتفاق، وأكدت أن إثيوبيا “تسعى إلى الهيمنة على الصومال”.

في المقابل، يشير تقدير موقف -نُشر على مركز مقديشو للبحوث والدراسات- إلى أن الاتفاق قد يمهد الطريق لتغيير موقف الصومال من الوجود العسكري الإثيوبي في الصومال، ما سيؤدي إلى زيادة الضغوط على الحركة مع تصاعد التنسيق الأمني بين مقديشو وأديس أبابا.

هل فكك الاتفاق العقدة بين مقديشو وأديس أبابا؟

رغم أن الاتفاق ساهم في رفع منسوب الآمال بتخفيض التوتر في هذه المنطقة الهشة، فإنه في المقابل ترك عديدا من الأسئلة الجوهرية من دون إجابة، وعلى رأسها الغموض المرتبط بمصير مذكرة التفاهم الإثيوبية مع أرض الصومال، مع خلو الوثيقة من النص الصريح على موقف إثيوبي واضح من الانسحاب، وهو ما قد يترك لأديس أبابا مجالا للضغط والمناورة من جهة، وخطة بديلة في حال فشل الوصول إلى اتفاق نهائي مع مقديشو من جهة أخرى.

معهد دراسات الحرب نشر تحليلا مطولا أشار فيه إلى أن صعوبات تكتنف وصول إثيوبيا “الآمن” إلى البحر الأحمر عبر الصومال، حيث إن الموانئ المرشحة لاستخدامها من قبل إثيوبيا تمتلك حركة الشباب شبكات ابتزاز فيها، كما أنها تتمتع بقدر كبير من السيطرة على الطرق المؤدية من الحدود الإثيوبية إلى تلك الموانئ، وهو من شأنه أن يخلق تحديات أمنية كبيرة تواجه نقل البضائع الإثيوبية.

بجانب ما سبق، فإن ما تضمنه الإعلان يمثل خطوطا عريضة صيغت بلغة فضفاضة، انعكست عدم وضوح في الشروط المحددة لترتيبات وصول إثيوبيا إلى الموانئ الصومالية، ما من شأنه أن يخلق نقاط اشتعال محتملة إذا تباينت التوقعات خلال العملية التفاوضية على التفاصيل الفنية “حيث يكمن الشيطان”، حسب القول المعروف.

تجاوز هذه التعقيدات يتطلب بناء للثقة وتعاونا مستداما بين الطرفين المعنيين، وهو ما قد يتعثر تحت ضغط الأوضاع الداخلية والتدخلات الخارجية، في منطقة متقلبة تتغير فيها التحالفات بشكل سريع ومتكرر، مما يجعل من هذا الاتفاق خطوة مهمة نحو دبلوماسية السلام، في حين أن الغموض الذي يكتنفه والقضايا التي لم يتم حلها تؤكد في الوقت نفسه هشاشة هذا السلام.

المصدر : الجزيرة
شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version