نخبة بوست – احتلت “العقيدة النووية الإيرانية” مكانة مهمة على جدول أعمال النسخة الثالثة من مؤتمر الحوار العربي – الإيراني، الذي عقد مؤخراً في طهران، بتنظيم من مركز الجزيرة للدراسات والمجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في إيران، على الرغم من أن الحرب على غزة، كانت الموضوع المهيمن على مداولات المؤتمرين وجدول أعمال مؤتمرهم.
مردّ ذلك، يعود لمكان انعقاد المؤتمر وزمانه، فالمؤتمر التأم في طهران هذه المرة، بخلاف نسخيته الأولى والثاني اللتان عقدتا في الدوحة، فكان للمكان تأثير بيّن على الاهتمامات والمداولات، وكان للزمان الذي أعقب موجة الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، أثراً إضافياً في إعادة ترتيب سلم الاهتمامات والأولويات.
تستند العقيدة النووية الإيرانية، “المُقترح” إعادة النظر فيها، إلى فتوى الإمام الخامنئي الصادرة في العام 2003، والتي حرّم بموجبها تصنيع وامتلاك القنبلة النووية، ليتحول هذا التحريم الديني، إلى تحريم سياسي، بعد أن تبنت الحكومة منطوق الفتوى، وبعثتها برسالة خطية إلى الوكالة الدولية للطاقة النووية، بوصفها تعبيراً رفيع المستوى، ومُلزم، عن السياسة النووية لجمهورية إيران الإسلامية.
ورغم أن كثيرين لم يأخذوا “التحريمين” السياسي والديني، على محمل الجد، وظلت الظنون والشكوك والاتهامات، تحوم حول برنامج إيران وتحيط به، بوصفه برنامجاً عسكرياً متدثراً بلبوس سلمي، إلا أن تداعيات زلزال السابع من أكتوبر استحدثت هزةً في التفكير الاستراتيجي لبعض الأوساط الإيرانية، سيما مع تتالي التهديدات الصادرة عن وزراء ونواب إسرائيليين، وكذا أعضاء كونغرس أمريكيين، بضرب غزة بالقنبلة النووية، فبدأت النداءات تتصاعد في طهران، مطالبة بإعادة النظر بعقيدتها النووية.
وتخلص جملة النقاشات التي أجراها كاتب هذه السطور، مع سياسيين وأكاديميين إيرانيين، إلى أن الترجمة السياسية للفتوى الدينية بتحريم امتلاك القنبلة نهضت على ركائز ثلاث: (1) لا لعسكرة البرنامج النووي الإيراني… (2) نعم لحق إيران في استنفاذ كامل الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وصولاً لامتلاك دورة التخصيب كاملة على أرضها وتحت سيادتها… (3) نعم لشرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية.
يؤكد الإيرانيون أن ليس ثمة قرار بشأن “عقيدة نووية جديدة”، والقرار بهذا الصدد حق حصري للمرشد ومن يحيط به من مؤسسات ومراكز صنع قرار ومستشارين…لكن مع ذلك، فإن المراجعات للعقيدة القائمة، جارية على قدم وساق، وتتبادل الأوساط السياسية والأكاديمية الإيرانية “التحليل” و”تقدير الموقف” حول ما الذي يتعين تغييره، وفي أي اتجاه، ومتى وكيف، وما العواقب والسيناريوهات المحتملة لليوم التالي لدخول إيراني “النادي النووي العالمي”.
وثمة قناعة تتسرب لدى أوساط متزايدة من الإيرانيين، بأن عقيدة بلادهم النووية، لم تحقق المرجوّ منها، وكما قال مسؤول رفيع ذو صلة، بأنها “لم تعطِ أكلها”، فلا الشرق الأوسط بات خالياً من الأسلحة النووية، برغم مرور سنوات وعقود على المطالبة بذلك، ولا نظام العقوبات الصارم المفروض على إيران قد رُفٍع، فيما التهديدات بضرب المنشآت النووية الإيرانية الصادرة على تل أبيب، وأحياناً واشنطن، تتوالى من دون توقف، إلى أن جاءت الحرب البربرية على غزة، لتوقظ إيران على سيناريو مرعب قد يطالها ذات يوم، في حال سلكت علاقاتها مع “الحليفتين الاستراتيجيتين” دروب “السيناريو الأسوأ”.
إسرائيل تخلت عن سياسة “الغموض النووي”، وباتت تتحدث بشكل “مفضوح” للغاية، عن امتلاكها لهذا السلاح، وتهدد باستخدامه ضد قطاع غزة الضيق والفقير والمحاصر…ونتنياهو يتحدث عن “تهديد نووي وازن” لإيران، علناً وفي الغرف المغلقة، وبعد الرد الإيراني على عدوان القنصلية، زعمت حكومة نتنياهو، علناً، بأنها ضربت مواقع قريبة جداً من منشآت أصفهان…تلكم رسائل إسرائيلية تأخذها طهران على محمل الجد، فلا وقت لـ”الهزار” في أمر “وجودي” كهذا.
قبلها، يقول الإيرانيون، كانت إسرائيل قد ضربت مفاعل “تموز” العراقي في 1981، وضربت ما زعمت أنها منشآت نووية سورية في دير الزور عام 2007، أما عمليات الاغتيال والتعرض السيبراني لمنشآت إيران وعلمائها، فهي لم تنقطع يوماً.
لا أدري إن كان يتعين علينا، نحن المراقبين، إن نأخذ أقوال الإيرانيين كما هي، فالمؤكد إن طهران، ما كانت لتبوح لنا بأسرارها لو أن المراجعة قد انجزت، أو أن قرار انتاج القنبلة قد اتخذ…لكننا نقرأ تقارير وتقديرات استخبارية، أمريكية وعالمية، تؤكد اقتراب إيران من “حاجز القنبلة”، وترجح عدم دخولها بعد في طور تصنيعها وتجريبها.
وإلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فإننا نأخذ على محمل الجد، قول إيران، بأنها ستضرب المنشآت النووية الإسرائيلية حال تعرض منشآتها للضرب، وهي أرسلت ما يكفي من الرسائل لتل أبيب، ليلة الرابع عشر من نيسان / أبريل، ونصدق قول طهران، بأنها لا تنوي تهديد أي دولة بسلاحها النووي، حال امتلاكها لهذا السلاح، فالمسألة هنا لا تتعلق بصدق النوايا وحُسنِها، بل بالعواقب الوخيمة المترتبة على “سيناريو اليوم التالي” للضربة، ونرجح بأن طهران تعني ما تقول، وهي تطالب دولاً عربية وشرق أوسطية، التعاون فيما بينها لنزع السلاح النووي الإسرائيلي، وتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية منه، ونريد أن نختبر صدق النوايا والاستعدادات الإيرانية لمد يد العون والتعاون للدول العربية، في ميادين الاستخدام السلمي للطاقة النووية، مع إننا لا نحمّل إيران وحدها وزر انعدام هذا التعاون، فالدول العربية، المحكومة بمندرجات استراتيجية واشنطن في المنطقة، تتحمل بدورها، قسطاً من المسؤولية.
خلاصة القول، لقد قضت إيران، وقبلها دول المنطقة، أكثر من نصف قرن في الدعوة لجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل الأخرى من دون جدوى…عواصم الغرب الكبرى، وحتى مراكز الشرق الناهضة، أعطت أذنا من طين وأخرى من عجين لهذه النداءات، وأشاحت ببصرها عن احتفاظ إسرائيل بواحدة من أكبر الترسانات النووية في العالم، ولم يجن العرب من هذه السياسات، سوى تجريد دولهم من قوة الردع النووي، بل وتجريدهم حتى من حقوقهم في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وامتلاك دورة التخصيب كاملة، دون أن يتكبدوا تكاليف المس بالسيادة الوطنية ودفع فواتير التطبيع الباهظة مع إسرائيل…ضُربت منشآتهم النووية وهي في طورها الجنيني، ودون أن يثبت أنها كانت معدّة لغير الاستخدامات السلمية، احتُلت بلدانهم – العراق مثالاً- بحجة امتلاك أسلحة دمار شامل، وجرى تجريدهم من برامج أسلحتهم الأخرى بالقوة والابتزاز – سوريا مثالاً – لتظل إسرائيل وحدها، متفرّدة بامتلاك هذا السلاح.
والمؤسف أن العرب أبدوا قلقاً من البرنامج النووي الإيراني يفوق بكثير، قلقهم من الأسلحة النووية الإسرائيلية الناجزة، علماً بأن طهران لم تمتلك القنبلة بعد، ولم تهدد دولاً عربية باستخدامها، وفي الوقت الذي كررت فيه تل أبيب التهديد باللجوء “إلى ذلك الشيء في ديمونا”، مرتين على الأقل: واحدة في حرب أكتوبر 1973 قبل وصول الجسر الجوي الأمريكي إلى سيناء، والثانية في الحرب على غزة ومقاومتها وشعبها.
الشرق الأوسط – أيها السادة – لن يعرف الأمن والاستقرار إلا في واحدة من حالتين: تجريده من أسلحة الدمار الشامل، ومن ضمنها سلاح إسرائيل النووي، وهذا أمر يبدو مستبعداً جداً، إن لم نقل مستحيلاً، أو خضوعها لمعادلة “الردع النووي” المتبادل، وبما يحتم على دول الإقليم الوازنة، البحث عن هذا السلاح والسعي لامتلاكه، لخلق هذه المعادلة…والبشرية، كما تعلمون، لم تمتنع عن خوض الحرب المباشرة بين دولها العظمى إلا بعد أن توفرت أقطابها على هذا السلاح، وحين كانت “القنبلة” حكراً على الولايات المتحدة وحدها، استخدمتها مرتين ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية…البشرية لم تختر “حروب الوكالة” بين أقطابها، إلا بعد أن صارت الحرب المباشرة بينها، رديفاً لـ”الافناء الذاتي”، وما انطبق على الساحة الدولية طوال ثلاثة أرباع القرن، ينطبق بالقدر ذاته على الساحة الإقليمية، ولا خيار ثالث بين خياري النزع الكامل للسلاح النووي، أو خلق معادلات ردع جديدة، تلكم هي خلاصة “حفلة الجنون” الإسرائيلية التي صاحبت ورافقت الحرب الوحشية على غزة.