نخبة بوست – ملاحظاتي السريعة في هذا المقال مبنية على متابعات ميدانية تفصيلية إلى حدا ما، لحالة الانتخابات في ثلاث جامعات.
لقد وُصِفَت الانتخابات الطلابية الأخيرة في النقاش العام بأنها نزيهة وشفافة من حيث الإجراءات والتسهيلات وعمليات الاقتراع والفرز. وهذا على الأرجح صحيح. وفي الواقع لم تسجل ملاحظات جدية تنفي ذلك.
لكن المشاهد الصادمة التي بُثت من أجواء انتخابات الجامعة الأردنية، جعلت المجتمع يتساءل عما يجري فعلا في أوساط الطلاب. ورغم ان المشاهد لم تتكرر في جامعات أخرى، غير أن الوقائع التي لم تتحول إلى مشاهد جديرة بالبث، لا تختلف في باقي الجامعات عن “الأردنية” إلا في حدتها، فهي متماثلة في المحتوى إلى درجة كبيرة، لكن الصورة في العاصمة كانت أقسى، ربما بسبب تركيز النظر من الأطراف ذات المصلحة بالنظر وخاصة في خارج الجامعة، عند “النخب” من سياسيين وإعلاميين ومحللين ومراقبين.

في أرشيفي مادة عمرها 15 عاما حول انتخابات اتحاد طلبة الجامعة الجامعة الأردنية في عام 2009. وهي أيضا استندت حينها إلى متابعة ميدانية، وقد نشرتها حينها بعنوان “مشكلتها أنا نزيهة”.
في ذلك الوقت، وإلى الآن، لا يوجد انتباه مناسب إلى المجريات التي تسبق يوم الاقتراع، أي إلى محتوى العملية الانتخابية: كيف يترشح الطلاب ووفق أية مقاييس، ومن هو المؤهل للترشيح وكيف يبني المرشحون حملاتهم، وما المفردات المستخدمة… أي باختصار ما هي مكونات ثقافة الانتخاب في أوساط الطلبة؟
إن كل الأنظار تتجه إلى الخطوات الأخيرة، كأسماء المرشحين، الفردية سابقا، أو إلى الكتل والقوائم حاليا، وإلى الإجراءات التنظيمية والإدارية، وفي الختام إلى أسماء الفائزين. ويتواطأ الجميع على إغفال ما يجري قبل الفوز أو الخسارة.
انتشرت بكثرة عبارة “الهويات الفرعية” في وصف السلوك السياسي ومنه الانتخابي في البلد ككل. غير أن الجامعات كانت ساحة لـ”الإبداع” في هذا المجال.

إن تنوع الجامعات واختلاف البيئات الاجتماعية فيها، جعل كلا منها يبحث عن الشكل المناسب من الهوية. فقد تبرز العشيرة هنا والمنطقة هناك، وقد يتفوق حضورالجهة (شمال/ جنوب) والأصول والمنابت، وقد تتشكل تحالفات بأسماء المناطق، وقد تكون التسمية الواحدة ذات محتوى مختلف في جامعة عن أخرى، بل وفي كلية عن أخرى. ودوما فإن نقاط الخلاف تُحل عن طريق عمليات “المقايضة”، وهذه أمور تجري باجتماع “الكبار”، فلكل مجموعة “كبير” يلتقون وينسقون ويتفقون أو يختلفون.
الملفت هو مدى التطبيع والألفة مع تلك المصطلحات والمسميات، وقد تفاجأ محاوري ذات مرة، وهو أحد قادة النشاط الطلابي بأسئلتي واستغرابي، فقال لي: “تأكد يا أستاذ اننا نمارس الديمقراطية كاملة، فالسلطي سلطي والكركي كركي والشمالي شمالي والفلسطيني فلسطيني، كل واحد يعبر عن رأيه وشخصيته كما يريد”.

هذا الصنف من دوائر الانتماء الفرعية له تاريخ، وقد صُنع صناعة على مرآى كل من يريد أن يرى. يمكننا بسهولة الحديث عن فكرة “الصوت الواحد” التي دخلت بسرعة إلى الجامعات بعد تجربتها في المجتمع كله ابتداء من عام 1993. كانت الفكرة تعني أن على الجميع أن ينقسموا إلى أصغر دائرة انتماء تحقق وتضمن قدرا من الحضور والتمثيل في المشهد.

اليوم ومع “مفاجأة” الدخول في التحديث السياسي وبخاصة مع الدفع باتجاه إعطاء الأولوية للأحزاب، وتعظيم الكوتا الحزبية بالتدريج لتشمل في المستقبل ثلاثة أرباع المجلس النيابي، إضافة إلى ما يتيسر للأحزاب من المقاعد المحلية… وجدت الدولة نفسها أمام مأزق اجتماعي سياسي كبير، لقد عملت قوانين الانتخاب السابقة في اتجاه، فيما يسعى القانون الجديد لمعاكسته في اتجاه مضاد. لقد مر أكثر من جيل على ولادة نمط التقسيم والتفتيت، الذي اعتبر في حينه نجاحا بدليل تعميمه كثقافة.
لقد قيل كلام كثير في التحذير من عودة القبيلة أو العشيرة، وهذا على الأغلب رأي متسرع وغير دقيق، فنظام العشائر الحقيقي كان ابن زمنه، وهو غير قابل للعودة، وهو على كل الأحوال نظام صارم له قواعده وقوانينه بما يكفل الحقوق والواجبات وفق التعريفات المقبولة والمقر بها في وقتها. إن ما بقي من تلك المرحلة، في مجتمع اليوم، هو العصبية و”التعصب”، الذي يتخذ عنوان القبيلة حينا ولكنه أيضا يحمل عناوين حديثة كالحزب والتنظيم والفصيل والحركة والتيار. وهذه العصبيات والتعصبات عابرة لكل التشكيلات السياسية الجديدة والقديمة، أي تلك المرتبطة بالموجة الأخيرة من التحديث السياسي، أو القديمة الممثلة بالتيارات يمينها ويسارها.

راقبوا كيف تتشكل المواقف والاصطفافات، وكيف يختار القادة والزعماء، وكيف تجري التحالفات والصراعات والإنشقاقات، وكيف تتحول الأخيرة إلى ثارات سياسية. بل راقبوا كيف تمارس العصبية الحديثة دروها بانتهازية عالية، فهي تجعل كل عناصر المجتمع في خدمتها، فهي تستمثر في العشيرة مثلما تستثمر في المؤسسات الحديثة، فقد يزور حزب ديوان عشيرة ليقول إنه منها ولها، ثم ينتقل إلى ناد حديث يتحدث عن التشبيك والتطوير والعصرنة، وحتى في عنوان مثل الصراع مع العدو، قد تجد حزبا أو تيارا يصر على أنه الأب الشرعي للنضال، وعلى الجميع أن يمروا من تحت عباءتي.
عودة للطلاب، فرغم توقف العمليات الانتخابية الطلابية لمدة أربع سنوات منذ كورونا، لكن الطلبة استأنفوا ثقافة الانتخاب الخاصة تلك من النقطة التي توقفوا عندها، مع استيعاب للمتغير الجديد، أي “التحديث السياسي” المتمثل بتشريع النشاط الحزبي في الجامعات بل والتشجيع عليه.

لكن الطرفين، أي الطلبة والأحزاب، تفاهما بسهولة وبمرونة عالية، لقد عملا على تركيب سريع للعمل الحزبي على التجربة الطلابية القائمة. لقد وزعت ذات التقسيمات الطلابية نفسها على الأحزاب، ولكنه الطرفين احتاجا للتواطؤ على الصمت وإخفاء العلاقة الحزبية الجديدة أمام الجمهور الذي لم يتطبع بعد مع الفكرة الحزبية، ففي اليوم التالي للانتخابات، سارع أغلب الفائزين وسارعت أحزابهم إلى الإعلان عن انتماءاتهم الحزبية!
ويا للمفارقة! يخفي المرشحون انتماءهم الحزبي أمام الجمهور، فيما تعلم الجهات الرسمية بذلك وتشجعه.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version