نخبة بوست – وفاء صبيح
الفرح، السعادة، الأمل والشغف.. جميعها كلمات تعبّر عن الحالة النفسية التي يعيشها المستفيدون من العفو العام لحظة سماعهم أن الإفراج عنهم بات قريباً، إلا أن هذه المشاعر والطاقة الإيجابية سرعان ما تختفي أو تبدأ بالتلاشي عندما تصطدم بـ “غصّة” مابعد العفو، لاسيما في ظل معضلة التفكير بأوضاعهم المعيشية بعد الخروج من السجن وكيف ستكون نظرة المجتمع إليهم؟!
إذا جاءت توجيهات جلالة الملك عبدالله الثاني للحكومة بإصدار قانون العفو العام في نيسان الماضي، ضمن أمله في أن يسهم مشروع القانون في التخفيف من الأعباء على المواطنين، والعمل على مساعدة من حاد عن طريق الحق وجادة الصواب في تصحيح مساره، والمساهمة في بث روح الإيجابية والتسامح في المجتمع وإشاعة مفهوم العدالة التصالحية.
وتماشياً مع رؤية جلالته الرامية إلى تحقيق أهداف قانون العفو العام، ارتأينا ضمن هذا الموضوع تسليط الضوء عن كثب على ما يعرف بـ “صدمة الإفراج” وماهي التحديات التي ستواجهها النزلاء خارج القضبان، ولعلّ السؤال الأبرز ضمن هذا المحور مرتبط بـ “شهادة عدم المحكومية” وهل يمكن للمستفيدين من قانون العفو العام استصدارها ومن ثم العودة إلى حياتهم الطبيعية أم ستبقى حجر عثرة في طريقهم؟
أحد المفرج عنهم يروي لنا معاناته..
أثناء إعداد هذا التقرير، تواصل فريق “نخبة بوست” مع عدد ممن تم الإفراج عنهم في العفو العام الأخير لقياس مدى توجههم للاندماج الإيجابي في المجتمع. ومن بين هذه الحالات، رجل “أربعيني” سجن عدة سنوات بسبب قضايا مالية. عندما أفرج عنه بالعفو العام، خرج ليواجه مجتمعًا صُدم بحقيقته، حيث تأثرت عائلته جراء ما حدث.
الرجل الأربعيني وصف للزميلة رهف عطية من “نخبة بوست” – بعد أن طلب عدم ذكر اسمه – حجم معاناته من صعوبات نفسية ومادية ومعنوية بعد الإفراج عنه، حيث لم يتمكن من إيجاد عمل وعانى من الفقر وصعوبة التماشي مع واقعه، مضيفاً “ما حد رضي يشغلني وانكسر عليّ إيجار البيت”، ناهيك عن نظرة المجتمع الخائفة تجاهه.
وخلال الحديث عن معاناته، أخبرنا أيضًا عن ابنته ذات التسعة عشر عامًا، وعن مدى تأثرها بحديث ونظرات الجميع إليها بعد الإفراج عنه، وأضاف أنه لا سبيل لأن تتغير نظرة المجتمع خلال “ليلة وضحاها” على حد قوله إلا إذا قدمت الدولة دعمًا حقيقيًا لتمكين هذه الفئة ومساعدتها على تتدارك الفترة الصعبة التي مرت بها لتثبت للمجتمع قدرتها على البدء بطريقة جديدة وبأهداف تصب في رفعة المجتمع والوطن.
“صدمة الإفراج”.. هل يمكن تخطيها؟
يصف الخبراء “صدمة الإفراج” بأنها المعاناة التي يعيشها السجناء بعد الإفراج عنهم ورغبة فئة لا بأس بها منهم في البقاء في السجن؛ أو تعمّد العودة إليه بعد فترة قصيرة هرباً من قسوة ما سيواجهونه بسبب أوضاعهم المعيشية الصعبة خارج القضبان؛ أو نتيجة مخاوفهم المرتبطة بالنظرة السلبية إليهم سواء على نطاق الأسرة أو المجتمع.
ويتعرض المستفيدون من العفو إلى صدمة الإفراج لعدة أسباب، يأتي في مقدمتها عدم قدرتهم على العودة إلى حياتهم الطبيعية وصعوبة الحصول على فرص عمل بسبب ارتكابهم لجنحة أو جريمة ما تسببت بدخولهم إلى السجن. علمًا بأن من حق الذي أقدم على جرم ما وقضى العقوبة القانونية المتعلقة به العودة إلى ممارسة حياته الاعتيادية، لذا لا بد من توفير الرعاية اللاحقة له لمساعدته على التكيف مع حياته الجديدة كي لا يعود إلى طريق الانحراف والجريمة مرة أخرى. ويشمل ذلك الوقوف على أوضاعه الصحية والمادية والأسرية ومساعدته على توفير فرصة عمل تؤمن له العيش الكريم.
عبد العزيز : نشهد شكلاً من التخبط في سياسات العدالة في الأردن
وفي هذا الصدد، تجد الباحثة القانونية والناشطة في مجال حقوق الانسان هديل عبد العزيز أن هناك ضعف كبير في برامج إعادة التأهيل والدمج للنزلاء، رغم أن إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل تتبنى عدة برامج داخل المراكز تركز في جانبها الأكبر على إكساب النزلاء مهارات تسمح لهم بالعمل وكسب الرزق، وأضافت لكن بلا شك هناك حاجة كبيرة للعمل على برامج مصممة خصيصا تستهدف النزلاء وتساعد على تأقلمهم في مرحلة ما بعد الإفراج وتسهل عملية الاندماج في المجتمع.
مشسرة إلى أن الأردن تبنى نهج العدالة الإصلاحية وتبني العقوبات غير السالبة للحرية في قانون العقوبات، وقد بدأ تطبيقها منذ بضع سنوات وهي سياسة هامة في منظومة العدالة وقد تبنت هذا النهج استراتيجية تطوير قطاع العدالة الأخيرة.
وقالت عبد العزيز- وهي أيضا عضو مؤسس ومدير تنفيذي لمركز العدل للمساعدة القانونية “اللافت هنا أننا نشهد شكلاً من التخبط في سياسات العدالة في الأردن، فمن ناحية تتبنى تطورات تشريعية تدعو إلى العقوبات غير السالبة للحرية، واليوم نشهد التحرك نحو العفو العام لمعالجة أثر اكتظاظ السجون والحد من تبعات “الحبس” والعقوبات السالبة للحرية على الأفراد وخاصة من غير معتادي الإجرام، لكننا بنفس الوقت نشهد تعديلات تشريعية تمس شريحة واسعة من المواطنين تفرض عقوبات طويلة ومغلظة”.
كما دعت إلى مراجعة التشريعات والسياسات العقابية، بحيث لا نحتاج في فترات متتالية لإصدار قانون عفو عام، وهو من حيث المبدأ يهدر سيادة القانون ويؤشر على وجود خلل يحتاج للمعالجة.
وأوضحت عبد العزيز أن قانون العفو العام يثير بلا شك تساؤلات حول نجاعة نظام الإصلاح والتأهيل وإعادة الدمج في منظومة العدالة في الأردن، لاسيما وأن معاناة النزلاء المفرج عنهم في مرحلة ما بعد الافراج لها عدة جوانب نفسية واجتماعية واقتصادية وقانونية والتي تعتمد إلى حد ما على نوع التهمة، طبيعة الفرد، طول أمد الحبس أو التوقيف الى جانب نوعية المعاملة التي تلقاها النزيل خلال فترة الحبس”.
كما تطرقت عبد العزيز إلى موضوع “شهادة عدم المحكومية” وإمكانية استصدارها قائلة ” لعل أهم تحدي يواجه النزلاء المفرج عنهم هو الوصمة الاجتماعية التي تؤثر على فرصهم في العودة إلى حياتهم خارج السجن، ويكون التأثير الأكبر على فرصهم في إيجاد العمل”.
وأضافت من الناحية القانونية هناك تحدي يتعلق بمتطلبات الحصول على شهادة عدم محكومية، حيث أن المدان بجرم لا يستطيع الحصول عليها في أغلب الجرائم إلا بعد صدور قرار رد اعتبار بحقه، وهو إجراء قانوني يتم بعد مرور فترة محددة من قضاء محكوميته، اذ يسمح بالقانون بمحو آثار الجريمة عن الجاني وهذه الفترة هي 3 سنوات للجنح، و5 سنوات للجنايات.
وقالت عبد العزيز أن أغلب الوظائف تتطلب إصدار شهادة عدم محكومية بالتالي فإن قضاء العقوبة المحكوم بها لا يعني أن آثارها تتوقف بمجرد استكمال العقوبة، وهنا قد يكون العفو العام فرصة للكثيرين ممن قضوا محكوميتهم حيث أن العفو العام يسقط أثر الجريمة التي يشملها، ويمكن مرتكب الجرم من رد اعتباره، وبالتالي يسهل عليه استكمال حياته، ويخفف الوصمة الاجتماعية بحقه.
المومني: المستفيد من العفو العام يحصل على شهادة عدم محكومية
بدوره قال الخبير القانوني معاذ المومني إن التوجيه الملكي لإصدار قانون عفو عام جاء مدروس بعدة مستويات أهمها المستوى الاجتماعي، وبطبيعة الحال فالتوجيهات الملكية واضحة وأكدت على أهمية أن يراعي مشروع القانون المصلحة العامة، وأن يحافظ على الحقوق الشخصية والمدنية، وفق مبادئ العدالة وسيادة القانون، وألا يتعارض مع مقتضيات الأمن الوطني والسلم المجتمعي.
وأضاف ” أما فيما يتعلق بحق الشخص الذي استفاد من قانون العفو العام بالحصول على شهادة عدم محكومية، فبالتأكيد، نعم، فقانون العفو العام يمحو الجريمة وأُثرها من الأساس وبالتالي إذا عكسناها على المبادئ العامة أيضا لرد الاعتبار بقانون أصول المحاكمات الجزائية فقانون اصول المحاكمات الجزائية واضح أيضا فكل شخص يرد اعتباره حكما إذا كانت العقوبة التي حصل عليها شملها العفو العام”.
وأكد المومني أن النص القانوني واضح وصريح في هذه المسألة، إذ نص البند الخامس من الدليل الإرشادي لملف شهادة عدم المحكومية من قبل رؤساء المحاكم على أنه : “إذا كان الجرم مشمولا بقانون العفو العام فيتم إعطاء الشخص شهادة عدم محكومية”، وبالتالي فإن العفو العام لا يرتب اي أثر على المرتكب المشمول بقانون العفو العام ويمكنه استصدار شهادة عدم المحكومية دون أي إشكالية.
محادين: محو وصمة “خريجي الحبوس” يحتاج إلى تكاتف مجتمعي
اجتماعيا، أكد د. حسين محادين أستاذ علم الاجتماع والجريمة ضرورة تشاركية الأدوار بين الأفراد ومؤسسات المجتمع المحلي لنساهم جميعا في إذابة الوصمة الاجتماعية الشائعة التي تلحق بالنزلاء بسبب وصفهم بـ “خريجي الحبوس” وبذويهم ظلما أيضا في بعض الأحيان، لاسميا وأن هؤلاء المخالفين الخارجين للتو من مراكز الإصلاح قد نالوا جزءا من عقوباتهم القانونية ويسعون إلى فتح صفحة جديدة بحياتهم.
وقال محادين “علينا أن نتعاون معا ونتكاتف مجتمعيا على تقبلهم بالتدريج بيننا كي لا يلجأ بعضهم وفي حال عدم تقبله في محيطه الى ما يعرف بـ “جرائم العود” – أي العودة إلى ارتكاب الجريمة – وبالتالي إعادتهم إلى مراكز الإصلاح والتأهيل خصوصا وأن نسبتهم ليست قليلة، وفقا للاحصائيات التي نشرتها مديرية الامن العام.
وأضاف من الضروري تهيئة المستفيدين من العفو لمواجهة الضغوطات والتحديات التي ستواجههم في المرحلة الجديدة من حياتهم وذلك من خلال إشراكهم بدورات علم نفس وتأهيل تركز على تحسين حالتهم النفسية والمعنوية وتمنحهم القدرة على مواجهة المشاعر السلبية التي قد يشعرون بها حال خروجهم من السجن.
ولفت محادين إلى الدور المحوري الذي تضطلع به مديرية الأمن العام في مراكز الاصلاح وغيرها في هذا المجال، مؤكدا أهمية استمرار تحديث الاستراتجية المرتبطة بمراكز الاصلاح وذلك بدءا من لحظة دخول النزيل اليها مرورا بنوعية البرامج والدورات التدريبية التي يتلقونها وصولا إلى مرحلة ما قبل خروج النزلاء من الحبس كي لا يصابوا بـ “صدمة الافراج”.
مع التأكيد على ضرورة التوسع في تطوير وتحديث برامج المؤسسات المعنية لمساعدة المستفيدين من العفو على إعادة الإندماج في المجتمع المحلي وأهمية الاستفادة من ذوي الخبرات الأكاديمية عند وضع تلك البرامج اللاحقة للحبس ضمن الاختصاصات في علم النفس، علم الجريمة والقانون مما يساعد على تطوير مثل تلك الاستراتجيات الملّحة وقاية وعلاج.
الخلاصة: العفو العام نؤيده.. لكن
نأمل أن يكون “العفو العام” بداية صفحة جديدة لمن شملهم بوجه خاص والمجتمع بوجه عام، فالمفرج عنهم عليهم عدم تكرار جرائم وجنح مماثلة والمضي قدما بحياتهم تحت سقف القانون بعيدا عن السلوكيات الخاطئة والتجاوزات التي تضر بهم وبالمجتمع ككل.
وعلى الصعيد الاجتماعي، علينا أن نتكاتف معا لتقبل المستفيدين من العفو بيننا ومساعدتهم على الإنخراط في المجتمع من خلال منحهم فرص عمل تؤمن لهم ولذويهم حياة كريمة، كي لا تتكرر حالات دخول السجن خلال فترة قصيرة بقرارات توقيف اداري أو أحكام قضائية لارتكابهم جرائم وجنح مماثلة للتي سجنوا بسببها في المرة أو المرات السابقة وبالتالي أحد الأهداف الرئيسية من العفو لم تتحقق.
“العفو العام” كهدف.. نؤيده لكن الأبعاد الاجتماعية له يجب أن تؤخذ بالاعتبار بحيث يتم دراسة أسباب تكرار دخول السجن وسبل معالجتها.