نخبة بوست – أحمد عاشور، فراس الطويل، أمجد ياغي (شبكة أريج)
يوثق التحقيق -عبر صور الأقمار الصناعية- حجم الدمار الذي لحق بميناء “البلاخية” الأثري في غزة، ويكشف عن استخدام الجيش الإسرائيلي القنابل زنة ألفي رطل في استهداف الموقع، بالمخالفة لاتفاقية لاهاي.
يضم قطاع غزة -الذي يقع على مساحة 360 كيلومتراً مربعاً- عشرات المواقع الأثرية. وخلال الحرب التي شنتها إسرائيل على القطاع في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ استهدفت الصواريخ والقذائف 43 موقعاً أثرياً وثقافياً، وفق رصد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة – اليونسكو.
وفق المنظمة، تعرضت تلك المواقع للتدمير -كلياً أو جزئياً- في الفترة بين السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 والثامن من نيسان/أبريل 2024. من بين تلك المواقع المُدمَّرة، موقع البلاخية “أنثيدون”، الذي يضم بقايا ميناء غزة القديم.
في هذا التحقيق، نتتبع مسار استهداف الجيش الإسرائيلي للميناء المُدرَج على “القائمة الإرشادية التمهيدية لمواقع التراث العالمي”، ونكشف -عبر تحليل صور الأقمار الصناعية- عن حجم الدمار الذي لحق بالموقع، في مخالفة لاتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية.
البلاخية.. أقدم مواني المتوسط
على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، في الركن الشمالي الغربي من قطاع غزة، يقع موقع البلاخية “أنثيدون”. ويمتد الموقع على مساحة تقدر بكيلومتر مربع تقريباً؛ تشمل الجزء الشمالي الغربي من مخيم الشاطئ للاجئين، والمنطقة الساحلية المجاورة له -المعروفة باسم المشتل- وحتى حدود الشارع الذي يربط منطقة الشيخ رضوان بشارع البحر، ويرتفع الموقع عن مستوى سطح البحر من 17 إلى 20 متراً.
“أنثيدون”، هو أول ميناء بحري معروف في غزة، حيث كانت المدينة مأهولة بالسكان في الفترة بين سنة 800 قبل الميلاد وألف ومئة بعد الميلاد، وتعاقبت على الميناء سلسلة من الحقب والحضارات؛ منها الآشورية الجديدة والبابلية والفارسية واليونانية والرومانية والبيزنطية والعصور الإسلامية المبكرة.
كان الموقع يضم -قبل تدميره- عدة معالم أثرية؛ مثل: الأرضيات الفسيفسائية، والهياكل المحصنة، والآثار المغمورة تحت المياه؛ ما أهّل الموقع للانضمام إلى قائمة اليونسكو التمهيدية للتراث العالمي، إثر طلب تقدم به الوفد الدائم لفلسطين لدى اليونسكو في نيسان/أبريل عام 2012.
تصف اليونسكو “أنثيدون” بأنه “مثال بارز لخليط معماري مميز؛ إذ يعرض مجموعة متنوعة من مواد وتقنيات البناء”. ورغم القيمة التراثية لهذا الموقع، طالته التعديات في الآونة الأخيرة.
كشف تحقيق أجرته “أريج”، عام 2021، عن ثلاثة تعديات تعرض لها الموقع؛ تمثّلت في تجريف أرضية فسيفساء كنيسة بيزنطية، قبل أحداث الانقسام الفلسطيني عام 2007، وبناء مركز شرطة الشاطئ على أرض الموقع عام 2013، وبناء ملعب داخل الموقع عام 2018.
تلك التعديات لا تقارن بما تعرض له الموقع في الحرب الإسرائيلية الأخيرة؛ إذ تبين صور الأقمار الصناعية -التي جمعها “أولي بلانجر”، المحاضر في الحوسبة الجغرافية في مركز التحليل المكاني المتقدم بجامعة كوليدج لندن- تعرض الجزء الشمالي الغربي، والشمالي الشرقي من الميناء لأضرار تتراوح ما بين متوسطة إلى جسيمة.
تظهر صور حديثة، التقطت بعد مرور ستة أشهر على الحرب، كيف تحول الموقع إلى منطقة رملية تتخلّلها حفر عميقة، اختفت منها المعالم الأثرية كلها.
وبحسب الصور التي زودنا بها خبير الآثار الفلسطيني، فضل العطل، فإن المنطقة تعرضت للاستهداف الإسرائيلي المباشر، الذي جرّفها بالكامل، وهذا ما تأكدنا منه عبر مقارنة صور الأقمار الصناعية المُلتقَطة في أيلول/سبتمبر 2022، وصور أخرى مُلتقَطة عبر موقع Planet Lab، في أيار/مايو 2024.
تؤكد صور ما قبل الحرب، أن الموقع كان يضم بقايا أثرية في “الموقع ب” من الميناء، وهو الموقع الذي أُجريت فيه عمليات تنقيب شارك فيها الخبير الفلسطيني فضل العطل وخبراء أجانب، كان آخرها في عام 2005، وحصلنا على صورة توضح جانباً من أعمال التنقيب. ورغم التعديات، بقي الحال على ما هو عليه في هذا الموقع منذ ذلك الحين، إلا أنه تعرض للتدمير بعد الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة عشية الحرب، التي اندلعت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
أرسلنا صور الموقع الحديثة، للخبير الأثري في معهد العلوم الأثرية بجامعة بيرن السويسرية، مارك أندريا هالدمان، لتحديد مواقع التنقيب وإخبارنا بما حلّ بها. يؤكد هالدمان أن “المنطقة ب”، التي أُجري فيها التنقيب، تقع ضمن المناطق المستهدفة بالقصف في حدود ميناء البلاخية.
الطريق إلى مخيم الشاطئ
بثت كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس)، في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، مقطع فيديو يُظهر استهداف دبابة إسرائيلية، قرب مسجد الخالدي الذي يبعد نحو 800 متر عن مخيم الشاطئ، وهي في طريقها إلى المخيم مروراً بحدود الموقع الأثري. ما يشير بشكل واضح إلى الفترة الزمنية التي تعرضت فيها البقايا الأثرية في الميناء للتدمير.
فيديو آخر بثه الجيش الإسرائيلي، يُظهر توافد الدبابات عند مدخل مخيم الشاطئ؛ ما يعني أنها مرت على موقع البلاخية قبل وصولها تخوم المخيم.
قنابل 2000 رطل
جاء في تقرير لمؤسسة الحق الفلسطينية (جمعية حقوق إنسان غير حكومية مقرها مدينة رام الله) أن القصف الإسرائيلي أحدث -على الأقل- 30 حفرة، بقطر يتراوح بين ثمانية أمتار إلى 16 متراً، في موقع ميناء البلاخية الأثري. وتُظهر صور الأقمار الصناعية تشكل حفر بنطاقات قطرية مختلفة في المنطقة “أ” والمنطقة “ب” من الموقع، بجانب المواقع المحيطة به.
وتطرق تحقيق لقناة “سي إن إن” الأميركية إلى استخدام إسرائيل قنابل زنة ألفي رطل في قصفها لغزة.
وحددت سي إن إن المواقع التي تعرضت للقصف بهذه القنابل، الذي من شأنه إحداث حفر واسعة النطاق في المواقع المُستهدفة، ويدخل ضمنها موقع البلاخية الأثري.
وتظهر الصور التي مدنا بها الخبير الفلسطيني، فضل العطل، تكون حفر واسعة النطاق داخل الموقع الأثري، خاصة المنطقة “ب”.
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن، قد هدد بوقف إمداد إسرائيل بالقنابل زنة ألفي رطل، معترفاً بأن مدنيين راحوا ضحيتها في غزة.
إسرائيل تخالف اتفاقية لاهاي
تدمير المواقع الأثرية يُعدّ مخالفة لاتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية الملكية الثقافية في حالة النزاع المسلح. وتنص الفقرة الثالثة من المادة الرابعة من اتفاقية لاهاي على أن “تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة كذلك بحظر ومنع، وإذا لزم الأمر، وضع حد لأي شكل من أشكال السرقة أو النهب أو الاختلاس وأي أعمال تخريب موجهة ضد الممتلكات الثقافية. وعليهم الامتناع عن الاستيلاء على الممتلكات الثقافية المنقولة الموجودة في إقليم طرف سام متعاقد آخر”.
بدوره، علق الدكتور ديريك فينشام، أستاذ بكلية جنوب تكساس للقانون، على تقييم اليونسكو، واصفاً إياه بـ “المقلق للغاية”. وأشار إلى أن الأضرار التي لحقت بمواقع التراث الثقافي يمكن أن تقع ضمن نطاق اتفاقية لاهاي لعام 1954.
ويتابع أن كلاً من إسرائيل وفلسطين طرفان في الاتفاقية، وتتحملان مسؤولية حماية التراث الثقافي، أثناء النزاعات المسلحة. وأضاف فينشام بالقول: “من الصعب تقييم مدى الضرر الذي لحق بمواقع التراث الثقافي عن بعد، بما يتجاوز ما وثقته اليونسكو وغيرها من الهيئات والمراقبين الدوليين”.
ويستدرك المحاضر المتخصص في قوانين حماية التراث قائلاً: “أحد جوانب اتفاقية لاهاي هو مبدأ الضرورة العسكرية، الذي يسمح بإلحاق الضرر بالمواقع الثقافية المهمة، إذا كان ذلك مطلوباً لتحقيق هدف عسكري، وهذا جانب واسع وغير محدد من الإطار القانوني”.