ترمب والسؤال الصعب: أردنيًّا

نخبة بوست – خاص – صالح محمد العمر

على ما يبدو فإن عودة دونالد ترمب باتت شبه مؤكدة عبر بوابة الانتخابات الأمريكية التي من المزمع عقدها في نوفمبر القادم بعد إعلان الرئيس الامريكي الحالي، جوزيف بايدن، عن عدم نيته الترشح لولاية أخرى. ورغم أن الأخير أعلن دعمه لنائبه كاميلا هاريس، إلا أن المشهد داخل الحزب الديمقراطي بدا متخبطاً قبيل قرابة 4 شهور على إجراء الانتخابات، بعد أن فشل الرئيس الطاعن في السن عن مجاراة خصمه اللدود ترمب في المناظرة التي جمعتهما في يونيو الماضي، ليضرب العالم موعداً جديداً مع الظاهرة الترامبية التي رغم أنها نشأت من رحم الحزب الجمهوري، إلا أنها بدت مختلفة في كثير من الأحيان عن الحقب الجمهورية السابقة.

لعلّ اكثر المراقبين والمترقبين للسياسة الخارجية للإدارة الامريكية القادمة، اذا ما تم التسليم بفوز ترمب، ينتظر ما ستؤول اليه السياسات الامريكية إزاء الشرق الأوسط، بعد الاقتراب من مرور عام منذ ان بدأت الحرب على غزة، فتثار التساؤلات هنا وهناك حول مدى استمرار الحرب، وصيغة الدعم الأمريكي اللامتناهي هذه المرة للجانب الإسرائيلي، ومستقبل العلاقات مع ايران واتفاقات ابراهام والتطبيع السعودي – الاسرائيلي الذي كان وشيك التحقق قبيل أحداث 7 أكتوبر.

ليس من المبالغة القول إن السؤال الأكثر الحاحاً اليوم على صعيد دول المنطقة هو السؤال الأردني الذي كان قد علق آماله بالإدارة الديمقراطية التي عجزت عن إيقاف تعنت نتنياهو وبطش كل من سموتريش وبن غفير وإخفاقها في تعليق الحرب وإنجاح المفاوضات وإيقاف المجازر والانتهاكات الإنسانية

فقد بدت مواقف الاردن الرسمية تصعيدية بشكل غير مسبوق لم يشهدها أحد منذ ان بدا العهد الجديد في نهايات تسعينات القرن الماضي، ابتداءً من مؤسسة العرش الى وزير الخارجية ايمن الصفدي، الذي اعتبر المشاريع الإسرائيلية بمثابة إعلان حرب على الأردن وان اتفاقية السلام ليست سوى وثيقة يعلوها الغبار، وصولا الى المشاريع المشتركة التي أعلنت الحكومة الأردنية تعليقها.

الأمر الذي يطرح تساؤلات أردنية متعلقة في حال عودة ترمب، هل يمكن القول إن صناع السياسات في الأردن في ورطة الآن بعد رفع سقف الخطاب؟ ام ان الجبهة الداخلية ومصالح الأردن الاستراتيجية فرضت عليه هذا الموقف؟ كيف سيوفق الأردن هذه المرة مطالبات الداخل وإكراهات الخارج؟

لكن حصيلة المشهد هو على ما يبدو أن النظام السياسي في الأردن يجد نفسه اليوم بين المطرقة والسندان، بين ضغط الجبهة الداخلية والواقع الدولي المفروض، والذي قد يشترط معادلات أكثر قسوة على الأردن في القادم القريب


تلفت هذه اللحظات الانتباه إلى المناظرة التي تناولها العدد الأول من المجلة الأردنية للسياسة والمجتمع الصادرة عن معهد السياسية والمجتمع الأردني الذي برز مؤخرًا كمؤسسة مطلعة على الحوارات داخل مؤسسات الدولة وتجمع في جلساتها المغلقة نخب سياسية وازنة وبعضها متنفذ، بين عميد كلية الدراسات الدولية حسن المومني ومحمد أبو رمان المستشار الأكاديمي للمعهد حول الموقف الأردني من الحرب الأخيرة على غزة، إذ يبرز التباين في الآراء على مستوى النخب السياسية داخل وخارج المؤسسات الرسمية.

المومني: الأردن ليس دولة ذات قضية واحدة، بل ان مصالحه الاستراتيجية واعتبارات أمنه الوطني يحتم عليه التعامل مع ملفات أخرى

يرى حسن المومني أن الأردن وعلى الرغم من الأهمية الكبيرة للقضية الفلسطينية، الا انه ليس دولة ذات قضية واحدة، بل ان مصالحه الاستراتيجية واعتبارات أمنه الوطني يحتم عليه التعامل مع ملفات أخرى أيضا، ولا يجب أن يُصوَّر بديلا عن المؤسسات الرسمية الفلسطينية حتى لا يُقاد الأمر إلى أن يحل محل السلطة التي يقودها محمود عباس بل حتى لا تكون ذريعة ليكون الأردن وطنا بديلا للفلسطينيين وهو اكثر السيناريوهات إرعابا للدولة والمجتمع في الاردن، كما ان الظروف الجيوسياسية والوقائع الدولية تفرض عليه التكيف في كثير من الأحيان من منطلق المصالح الأردنية الاستراتيجية وليس تحمّل الأعباء لوحده، خاصة وان الأردن ليس اللاعب الوحيد في القضية الفلسطينية بل هو واحد من مجموعة لاعبين.


ليس تلميحا بل تصريحا، رأى المومني بأن على الأردن عقلنة الخطاب فالتصعيد لم يؤد في النهاية الا الى رفع الآمال وسقف الطموحات من قبل الشارع الذي بقي في المحصلة ساخطا على موقف المؤسسات الرسمية. ذلك السخط -وإن لم يذكره المومني- الذي يتجلى أحيانا باتهام الدولة بالتواطؤ لعدم احتضان قيادات حماس او لمنع اقتراب المتظاهرين من السفارة الإسرائيلية التي كان الأردن قد طلب من سفيرها عدم العودة بالإضافة الى ادخال البضائع عبر أراضيه الى إسرائيل رغم ان الموقف الأردني كان متقدما على الدول الأخرى بل ويسبق الشارع في أحيان كثيرة خاصة في بداية الحرب، وبالتالي فإن دعوة المومني لعقلنة الخطاب الرسمي تعني من منطلق الواقعية السياسية أن لا يبقى هذا الخطاب رهينة الرأي العام.


لا يعتقد أستاذ فض النزاعات المومني الوصول إلى مرحلة التصادم الاستراتيجي لا مع الولايات المتحدة ولا مع الجانب الإسرائيلي، حتى في حال عودة ترمب، وهنا استشهد المومني بحديث الملك في اللقاء الذي جمعه مع ترمب عندما قال: “اتفقنا على اننا نختلف في القضية الفلسطينية”، لكن ذلك الاختلاف لم يؤد للاستغناء أو التخلي عن الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. كما أن الحسابات الأمنية والعسكرية تفرض على الإسرائيليين عدم استفزاز الأردن مزيدا أو التفريط فيه والعلاقة معه.

أبو رمان: نشهد غياب توافق وحوار حقيقي بين صناع القرار والنخب السياسية حول هذه الملفات الحساسة


يعترف محمد أبو رمان بغياب توافق وحوار حقيقي بين صناع القرار والنخب السياسية حول هذه الملفات الحساسة، بل يذهب الى ابعد من ذلك، وهو ان صناع القرار يفتقدون لرؤية استراتيجية في حال وقوع الواقعة المتمثلة بالترانسفير “التهجير” والوطن البديل. لكن أستاذ النظرية السياسية يرى بأن الحتمية الجيوسياسية تفرض على الأردن الاشتباك مزيدا في الضفة الغربية وتحقيق استقرارها السياسي، فالقيمة الاستراتيجية للأردن وتعريف دوره الاقليمي تكمن في مدى انخراطه في الداخل الفلسطيني بل إن الوقوف في وجه المشاريع الإسرائيلية تتطلب هذا الانخراط.

وكأن أبو رمان يخشى أيضا في مقاله العودة لسيناريو القفز على الدور الأردني الذي كانت ملامحه طفت قبيل 7 أكتوبر والدور المستقبلي لبعض القوى الإقليمية العربية التي سعت نحو تجاوز الحسابات الأردنية، لكن المومني في المقابل يرى ان المعادلة الموضوعة والوقائع بعد الحرب على غزة فرضت على الجميع عدم الاستغناء عن الدور الذي يلعبه الأردن في القضية الفلسطينية.

ليست هذه مجرد مناظرة في مجلة صادرة عن معهد دراسات وابحاث او بين اكاديميين في الجامعة الأردنية، بل هي وجهات نظر مختلفة تعكس في الواقع الحوار من الداخل في مؤسسات الدولة حول سؤال الجدوى من تصعيد الموقف ضد الجانب الإسرائيلي او حتى تطوير الموقف الى قطع العلاقات والمجازفة عبر المغامرة والذهاب بعيدا، عبّر عن وجهات النظر تلك، المومني، الذي على ما يبدو انه ينتمي الى التيار التقليدي او كما أسماه “المحافظ” والذي يرى ان الأردن من مطلق الواقعية السياسية لطالما كان فاعلا عقلانيا براغماتيا وليس عليه أن ينجر ليدفع في المحصلة الكلف وحيدا، بل يجب أن يكون هنالك توازن بين مبادئ الأردن ومسؤولياته الأخلاقية والسياسية تجاه الفلسطينيين، ومصالحه الوطنية كما تفعل الأطراف المعنية الأخرى، مثل مصر ودول الخليج. لا تقتصر تلك الكلف على الحسابات الخارجية -كما يستنتج القارئ من مقال المومني- بل إن عقلنة الخطاب مرتبطة بالجهة الداخلية مع بروز السؤال الهوياتي المقلق اليوم في الأردن مرة أخرى في ظل صعود ما بدا يُعرف بـ “اليمين الأردني” والتي يقابلها طموحات حماس في الساحة الأردنية في ظل اتساع رقعة الأنصار.

ولعل المطلع على الحوارات آنفة الذكر يجد بأن من يتشارك في وجهة النظر مع النخب “المحافظة” هي المؤسسات الأمنية في الأردن التي في معظم دول العالم عادةً ما تميل إلى الاستقرار وتجنب المغامرة. إلا ان أبو رمان الذي على ما يبدو انه ينتمي الى التيار الإصلاحي او الذي يسميه التيار “النخبوي الجديد” الذي برز في مؤسسات الدولة ومجالسها الخاصة في السنوات الأخيرة، يرى ان الامن الوطني يجب إعادة تعريفه لتكون الضفة الغربية واقعة ضمن مجالها الحيوي الامر الذي يفرض عليه لعب دور فاعل لتكريس حالة استقرار في ظل الفوضى العارمة نتيجة مشاريع الاستيطان والتضييق على حياة الفلسطينيين الأمر الذي سيكون له كلفه باهظة على الأردن. ويشير أبو رمان بوضوح الى انقسام النخبة السياسية حول تصعيد الموقف تجاه إسرائيل، بل دفع ذلك الانقسام الأخيرَ الى نشر مقال يجيب فيه بجرأة ووضوح على تساؤلات اذا ما كان الصفدي قد تجاوز السقف المتوقع بالنسبة لبعض النخب وان مستقبله كوزير خارجية قد ينتهي بنهاية الحرب.

يبقى السؤال الأردني الصعب حول ما سيؤول اليه المشهد في فلسطين في ظل المجازر الإسرائيلية التي يتم ارتكابها في غزة واتساع رقعة الاستيطان لضغط الكتلة الديمغرافية الضخمة في حويصلات جغرافية ضيقة، ومستقبل الدور الإقليمي الأردني في حال عودة ترمب وعادت معه مشاريع التطبيع ليبدأ جولة أخرى وأهم في مسار التطبيع العربي الإسرائيلي على رأسها (الرياض – تل أبيب)

المعشر : مسار التطبيع غير ناجز بسهولة في حال عودة ترمب

رغم أن مروان المعشر الذي شغل منصب وزير البلاط سابقا، في مقاله الذي نُشر مؤخرا في مركز كارنيغي، لا يرى ان مسار التطبيع ناجز بسهولة في حال عودة ترمب، بخلاف التوقعات، لعدم رغبة الديمقراطيين بمنح السعوديين امتيازات ليست في عهدهم واحتساب نقطة ثمينة للجمهوريين أيضا. الا اذا حدثت المفاجأة ووقّع الطرفان قبل خروج الرئيس العجوز، وهو امر مستبعد لاعتبارات عديدة، لكن ما هو اشبه بالمؤكد ان اسرائيل مستمرة في مشروعها في إبادة سكان غزة وضغط الفلسطينيين في الضفة الغربية ودفعهم للخروج او ان يلاقوا مصير الجوع والفقر بل حتى القتل على يد المستوطنين.


في المحصلة، يبقى السؤال الأردني الصعب حاضرا، ويطرح مع أسئلة أخرى، هل على الأردن الانخراط والاشتباك مزيدا بما يحدث في الضفة الغربية وان يدفع مزيدا من الكلف -قد تكون دولية او إقليمية- لكنها قد تقف مصدّاً امام المشاريع الاسرائيلية؟ ام عليه التكيف والتعايش مع واقع جديد من منطلق مصالحه الاستراتيجية؟

وكيف سيوفق بين خطاب الجبهة الداخلية الملتهب والممتعض دائمًا وبين إكراهات الخارج؟ والأهم، هل أعد الأردنيون العدة للتعامل مع أي من السيناريوهات القادمة؟ ألم يصبح لزامًا -كما يدعو المومني- اليوم تحصين الجبهة الداخلية بحكومة تضم شخصيات ذات موثوقية تمتلك الأساس الأخلاقي أمام الناس ولا يمكن التشكيك فيهم لخوض غمار المرحلة المقبلة بما فيها من تحديات ونتائج؟


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version