نخبة بوست – د. عدلي قندح ( خبير اقتصادي ومصرفي)

تشهد صناعة البنوك والمدفوعات تحولًا جذريًا مدفوعًا بتطور الابتكارات في التكنولوجيا المالية FinTech. هذه التطورات التكنولوجية اعادت تشكيل كيفية تقديم الخدمات المالية، بل اعادت أيضًا تعريف النسيج الأساسي للصناعة. فقد زعزعت التكنولوجيا المالية نماذج البنوك التقليدية،من المدفوعات عبر الهواتف المحمولة وتقنية البلوكشين إلى الذكاء الاصطناعي AI والمصرفية المفتوحةopen banking، وخلقت فرصًا جديدة لكل من المستهلكين والشركات.


يشير مصطلح التكنولوجيا المالية إلى استخدام التكنولوجيا لتقديم الخدمات المالية بطرق جديدة ومبتكرة وبصورة أسرع واقل تكلفة من الطريق التقليدية. وان كانت التكنولوجيا المالية قد ظهرت قبل عقود، شهد قطاع التكنولوجيا المالية، خلال العقد الماضي، ازدهارًا هائلًا، حيث تتحدى الشركات الناشئة والعمالقة التكنولوجية، المؤسسات المالية الراسخة. يعود هذا الارتفاع بشكل كبير إلى الطلب المتزايد من المستهلكين على خدمات مالية أكثر ملاءمة وشفافية وأقل تكلفة.


أحد أهم مجالات الاضطراب هو في صناعة المدفوعات. حيث يتم بسرعة استبدال طرق الدفع التقليدية، مثل النقد والشيكات، بالبدائل الرقمية. حيث شهدت المدفوعات عبر الهواتف المحمولة، التي تعمل من خلال الهواتف الذكية والتطبيقات، اعتمادًا واسع النطاق. فمثلاً، خدمات مثل Apple Pay وGoogle Wallet وPayPal جعلت من السهل أكثر من أي وقت مضى للمستهلكين الدفع مقابل السلع والخدمات بنقرة أو ضغطة بسيطة. علاوة على ذلك، فإن إدخال العملات المشفرة وتقنية البلوكشين قد أحدث ثورة إضافية في مشهد المدفوعات. ويوفر البلوكشين وسيلة لا مركزية وآمنة وشفافة لنقل القيمة، مما يقلل من الحاجة إلى وسطاء مثل البنوك. توفر العملات المشفرة، مثل البيتكوين والإيثريوم، بديلاً للعملات التقليدية، مع القدرة على تغيير كيفية تفكيرنا في المال والمعاملات.

كما كان لظهور التكنولوجيا المالية تأثير عميق على البنوك التقليدية. فقد كانت العديد من البنوك بطيئة في تبني التقنيات الجديدة، مما أدى إلى فجوة سارعت شركات التكنولوجيا المالية إلى سدها. توفر البنوك الرقمية فقط، أو «البنوك الجديدة»، مثل Chime وRevolut، تجربة مصرفية قائمة على الرقمية أولاً، مع رسوم أقل ومرونة أكبر. تعد المصرفية المفتوحة، التي تتيحها اللوائح مثل قانون توجيه خدمة الدفع 2 PSD2 للاتحاد الأوروبيبهدف الحد من عمليات الاحتيال وجعل عمليات الدفع أكثر أماناً للأنشطة التجارية عبر الإنترنت الموجودة في المنطقة الاقتصادية الأوروبية، ابتكارًا آخر يعيد تشكيل الصناعة.

وتتيح المصرفية المفتوحة للمطورين من الأطراف الثالثة بناء تطبيقات وخدمات حول المؤسسات المالية، باستخدام واجهات برمجة التطبيقات (APIs) للوصول إلى بيانات البنوك بموافقة العميل. أدى ذلك إلى إنشاء نظام بيئي مصرفي أكثر تنافسية وموجه نحو العملاء، حيث يمتلك المستهلكون مزيدًا من التحكم في بياناتهم المالية ويمكنهم الوصول إلى مجموعة أوسع من الخدمات المصممة وفقًا لاحتياجاتهم.


و يلعب الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلةMachine Learning دورًا متزايد الأهمية في تطور صناعة البنوك والمدفوعات. ويتم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين خدمة العملاء من خلال الدردشة الآلية والمساعدين الافتراضيين، وأتمتة اكتشاف الاحتيال، وتخصيص المنتجات المالية.

كما يمكن لخوارزميات تعلم الآلة تحليل كميات هائلة من البيانات لتحديد الأنماط والاتجاهات، مما يسمح للبنوك بتقديم خدمات أكثر تخصيصًا وتنبؤًا. على سبيل المثال، يقدم المستشارون الماليون القائمون على الذكاء الاصطناعي خدمات تخطيط مالي آلية تعتمد على الخوارزميات، مما يوفر نصائح استثمارية مخصصة بتكلفة أقل بكثير من المستشارين التقليديين. أدى هذا إلى ديمقراطية الخدمات المالية، مما جعل الاستثمار في متناول جمهور أوسع، وخاصة الشباب المتمرسين بالتكنولوجيا.


بينما تقدم التكنولوجيا المالية فرصًا عديدة، فإنها تطرح أيضًا تحديات كبيرة للبنوك التقليدية والجهات التنظيمية. يمكن أن يجعل الابتكار السريع من الصعب على المؤسسات القائمة مواكبة التغيرات، مما يؤدي إلى اضطرابات محتملة في السوق. بالإضافة إلى ذلك، يثير صعود التقنيات الجديدة تساؤلات حول الخصوصية الرقمية، والأمن السيبراني، والامتثال التنظيمي. ومع ذلك، فإن هذه التحديات تمثل أيضًا فرصًا للتعاون بين شركات التكنولوجيا المالية والبنوك التقليدية.
العديد من المؤسسات المالية تتبنى مفهوم «التنافس التعاوني”co-opetition، حيث تتعاون مع شركات التكنولوجيا المالية للاستفادة من خبرتها التكنولوجية مع الحفاظ على الامتثال التنظيمي والثقة المتبادلة مع العملاء.


لذا، تقف صناعة البنوك والمدفوعات عند مفترق طرق، حيث تدفع الابتكارات في التكنولوجيا المالية تغييرًا أساسيًا في كيفية تقديم الخدمات المالية. ومع استمرار تطور التكنولوجيا، يمكننا أن نتوقع رؤية مزيد من الاضطرابات والتحولات في الصناعة. بالنسبة للمستهلكين، يعني هذا المزيد من الخيارات والراحة والتحكم في حياتهم المالية. أما بالنسبة للشركات، فإنه يقدم فرصًا للابتكار والتميز والازدهار في سوق يتزايد فيه التنافس. في هذا المشهد المتغير بسرعة، ستكون القدرة على التكيف وتبني التقنيات الجديدة مفتاح النجاح. البنوك التقليدية التي ستكون على استعداد للتطور والتعاون مع المبتكرين في مجال التكنولوجيا المالية ستكون في موقع أفضل لتلبية احتياجات المستهلك العصري وستستمر في لعب دور حيوي في مستقبل المالية.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version