نخبة بوست – كتب: هزاع البراري ( أمين عام وزارة الثقافة الأسبق)
لا يمكن تجاوز حادثة اغتيال قاسم سليماني قرب مطار بغداد في يناير 2020 عند رسم سياق لما حدث قبل أيام مع حزب الله في لبنان وما زال يحدث، فالتسارع مرعب والطامة كبرى، ليس في حجم النتائج الكارثية في الأرواح وعدد الإصابات المربك لدول كبرى، فكيف بحزب مهما كان حجمه ومراسه، وإنما بما أفرزه على الواقع من حالة مفزعة من الانكشاف شبه التام لأدق تفاصيل حراك حزب الله اليومي، بمعنى القدرة على متابعة قادة الحزب وعناصره في الشارع والسوق وغرف الاجتماعات واللقاءات الاجتماعية، بدقة مكانية وزمانية وظرفية بالغة الخطورة وعميقة الدلالة، مما يجعل من الحزب بقضضه وقضيضه بين أصابع الآلة العسكرية الإسرائيلية، وهذا ما ضرب بقوة توازن الحزب وركوزه على الأرض، ويجعله في حالة ارتباك وضعف غير معتاد عليها، ولم يعد العدة للتعامل مع هذا النوع من الانكشاف غير المتخيل.

السياق الذي رسم بشكل بطيء منذ اغتيال قاسم سليماني أخذ يتسارع بشكل لافت مع الحرب على غزة، من اغتيال دقيق لقادة حماس في عقر حزب الله وبين عناصره، إلى اغتيال قادة كبار للحزب في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت

إن السياق الذي رسم بشكل بطيء منذ اغتيال قاسم سليماني، وإن بدت عملية أمريكية، أخذ يتسارع بشكل لافت مع الحرب على غزة، من اغتيال دقيق لقادة حماس في عقر حزب الله وبين عناصره، إلى اغتيال قادة كبار للحزب في قلب الضاحية الجنوبية، وكان أهمهم “شكر”، تبعه مباشرة اغتيال هنية في طهران في عملية نوعية قاسمة لظهر الحرس الثوري لأنها جرت في إحدى منشآته وفي مناسبة سيادية مهمة.

وكانت هذه مؤشرات خطيرة للغاية استوجبت إجراء تغييرات جذرية في آليات التواصل والاتصال، ومجابهة الاختراق الذي توضحت معالمه، والذي ينبئ بوجود اختراق تقني/سيبراني، متزامن مع اختراق تجسسي على الأرض، من خلال عملاء أو جواسيس زرعوا على مدى سنوات طويلة. وقد اجتمعت هذه العوامل مع أخرى لم تتضح بعد، لتضع حزب الله كشريحة تحت عدسات مجهر إسرائيل، فترى ما لا يُرى بالعين المجردة، وتسمع ما لا تسمعه الآذان البشرية. هنا صارت العملية تشبه الصيد في صندوق محكم الإغلاق.
لماذا تباطأ الحزب في سد الثغرة ومعالجة الخلل الخطير؟ وهو صاحب الخبرة الطويلة والمتمرس في مواجهة عدو متفوق تقنيًا، تفوق كان ضمن قدرة الحزب على استيعابه والتعامل معه، قبل أن تندلع الأحداث بهذا الشكل المأساوي.
نعم، هو واقع فجائعي بكل ما للكلمة من معنى. لا أتحدث هنا عن عواقب العدد الكبير من القتلى والمصابين الذين هم وبنسبة عالية جدًا من عناصر الحزب المباشرين، وهذه ضربة مؤلمة. ولا أتحدث عن نوعية القادة الذين تم استهدافهم ومكانتهم المتقدمة في الصف الأول للحزب، وما يترتب عليه من حالة الارتباك وعدم القدرة على التوقع للخطوة التالية. لكن المثير للقلق أن حتى محاولة حزب الله معالجة هذه الثغرة غير المسبوقة بكل أبعادها، كانت خطواته مرصودة تمامًا وبالتفاصيل الدقيقة، فتحولت أداة المعالجة “البيجر” إلى أداة في يد إسرائيل لتنفيذ أكبر عملية اختراق واغتيال في العالم، وبشكل غير مسبوق من حيث الرصد ومتابعة الإجراءات، واختراق سلاسل التوريد، لتصبح إسرائيل هي المزود الخفي لهذه الأجهزة، وملاحقة دقيقة لعمليات الاستلام والتسليم والتشغيل، ومن ثم تفجير الأجهزة في وقت متزامن، فتضرب الحزب في خاصرته، محققة ما عجزت عنه الحرب التقليدية.

هنا تحديدًا يداهمنا سؤال: هل الحزب أمام مفترق مصيري؟ خاصة أن هذا الاختراق لكوادر الحزب أينما كانت متزامن مع اختراق الحرس الثوري الإيراني في طهران، وتراجع الخطاب الإيراني العدائي، وعدم رد إيران على عملية اغتيال هنية، وهذا يدعنا نلمس بأن تغيرًا ما يحدث في تعاطي إيران مع مجريات الأحداث في المنطقة. وقد اعتدنا على خطبها الحماسية وتهديداتها عند كل حدث أقل شأنًا مما حدث.
لا شك أن هناك حالة انكماش إيرانية هادئة تحدث، وأن حزب الله ربما يتحول في لحظة ما من ذراع حديدية لإيران إلى نقطة ضعف وإحراج لها. كل هذا سيتوضح خلال الفترة القادمة، والتي أهم ميزاتها الغموض وعدم اليقين إلى أين ستؤول الأوضاع في المستقبل، وهل ستكون الانتخابات الأمريكية حدًا فاصلاً لهدنة ضمن ترتيبات يتضح فيها بشكل جلي من هو الخاسر ومن هو الرابح، وهي ترتيبات تأكيد واقع الحال، أو أن الكرة ستبقى تتدحرج حسب طبوغرافية الأحداث صعودًا وهبوطًا؟
حقيقة الأمر أن الأسئلة أكثر حضورًا من الإجابات، لكن الحقيقة الدامغة أن صمت إيران والتصريحات المغازلة لأمريكا، وبطء حركة حزب الله وتعاظم جراحه بهذا الشكل شبه السينمائي، يجعل من التصورات المستقبلية غارقة في القتامة، ويشي بأن المنطقة مقبلة على إعادة ترتيب، أو إعادة تموضع الأطراف المشتبكة من أجل تخفيف حجم الضرر، ومحاولة وقف حالة النزف الكبرى التي يعاني منها الجميع، وعلى رأسها إسرائيل.