نخبة بوست – يشهد قطاع التكنولوجيا المالية (Fintech) تطورًا غير مسبوق يسهم في تعزيز التحول الرقمي وإعادة تشكيل المفاهيم الاقتصادية التقليدية. بفضل هذه التقنيات، لم يقتصر الأمر على تحسين كفاءة التعاملات المالية، بل أحدثت ثورة في آلية انتقال الأموال وتوزيعها، مما زاد من سرعة دوران المال، وهو مفهوم أساسي لتعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق الاستقرار المالي.
يشير مصطلح «سرعة دوران المال» إلى عدد مرات استخدام الأموال في الاقتصاد لشراء السلع والخدمات خلال فترة زمنية محددة. وعندما تكون سرعة دوران المال مرتفعة، فإن الأموال تنتقل بشكل أسرع بين الأيدي، ما يعزز النشاط الاقتصادي ويزيد من الإنتاجية. وهنا يأتي دور التكنولوجيا المالية، حيث أسهمت في تسريع عملية تبادل الأموال من خلال تطبيقات الدفع الإلكتروني والمحافظ الرقمية. فأصبح بمقدور الأفراد والمؤسسات إجراء المعاملات بشكل فوري ودون قيود زمنية أو مكانية، مما يزيد من سرعة دوران المال ويعزز النمو الاقتصادي.
التكنولوجيا المالية تعمل أيضًا على تمكين الشمول المالي، إذ توسّع نطاق الخدمات المالية لتشمل شرائح أوسع من السكان، خاصة في الدول النامية والمجتمعات الريفية التي كانت تفتقر إلى الخدمات المصرفية التقليدية. ويعزز هذا من القدرة الشرائية للعديد من الفئات الاجتماعية، مما يؤدي إلى ضخ مزيد من الأموال في الاقتصاد وزيادة سرعة دورانها. كما أن التحول الرقمي قد خفض التكاليف التشغيلية للمؤسسات المالية وساهم في زيادة كفاءة المعاملات، ما يشجع المزيد من الأفراد والمؤسسات على المشاركة في الاقتصاد الرقمي.
الذكاء الاصطناعي التوليدي، والذي أصبح جزءًا محوريًا في صناعة التكنولوجيا المالية، يسهم بدوره في تعزيز سرعة دوران المال من خلال تقديم خدمات مالية مبتكرة ودقيقة. إذ يعمل الذكاء الاصطناعي على تحليل البيانات المالية واستخلاص رؤى مخصصة تساعد المؤسسات المالية على اتخاذ قرارات استثمارية أكثر فاعلية وتوفير حلول أكثر دقة للأفراد، ما يعزز ثقتهم في التعاملات الرقمية ويزيد من رغبتهم في الاستفادة منها بشكل متكرر. كما يعزز الذكاء الاصطناعي من الشفافية ويحد من المخاطر المالية من خلال التتبع الذكي للمعاملات المالية وتقليل فرص الاحتيال، مما يسهم في توفير بيئة مالية آمنة وثقة عالية تدفع لزيادة المعاملات وسرعة انتقال الأموال.
ومع التطور الرقمي في القطاع المالي، نجد أن سرعة دوران المال تُحدث آثارًا واضحة على الاقتصاد الكلي، حيث يتطلب التعامل مع هذا النمو السريع تطوير سياسات نقدية جديدة. فالتحول من النقد التقليدي إلى المدفوعات الرقمية أثر على آليات التحكم في السيولة وأسعار الفائدة، مما دفع البنوك المركزية في العالم للتفكير بجدية في اعتماد عملات رقمية مثل العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) التي من شأنها أن تعيد تشكيل النظام المالي وتحافظ على استقراره. سرعة دوران المال هذه تعزز من فاعلية الاقتصاد في الأوقات الجيدة، لكنها قد تشكل تحديًا للبنوك المركزية في فترات التباطؤ الاقتصادي أو الأزمات المالية، ما يستدعي سياسات استباقية تحكم هذا التحول.
لكنّ تسريع وتيرة التحول الرقمي وزيادة الاعتماد على التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي تطرح تحديات تتطلب حلولًا شاملة. ولضمان الاستفادة القصوى من هذا التحول الرقمي، يجب سد الفجوة التقنية بين الأجيال، خاصة الجيل غير الشاب الذي لا يزال يدير العمليات في العديد من المؤسسات. فالاعتماد المتزايد على التكنولوجيا يستدعي رفع مستوى مهارات هذا الجيل، ليتمكن من استيعاب الأدوات الرقمية الجديدة وإدارتها بفعالية بما يتناسب مع احتياجات العصر. من هنا، يتطلب هذا التحول استثمارات في برامج تدريبية متخصصة تستهدف رفع كفاءة القوى العاملة الحالية لضمان الانتقال السلس والناجح نحو الاقتصاد الرقمي.
وللأردن، الساعي لتعزيز مكانته كمركز إقليمي للابتكار التكنولوجي، فإن التركيز على تحسين البنية التحتية الرقمية وتوفير إنترنت عال السرعة يعدّ ضروريًا لدعم انتشار التكنولوجيا المالية وزيادة سرعة دوران المال. كما أن تطوير تشريعات مرنة لمواكبة الابتكارات التكنولوجية بات أمرًا ملحًا لضمان حماية المستخدمين وتشجيع الاستثمار في قطاع التكنولوجيا المالية. وأخيرًا، يتطلب التحول الرقمي الشامل في الأردن تعزيز المهارات الرقمية لدى القوى العاملة في القطاع المالي لضمان الاستفادة الكاملة من إمكانيات التكنولوجيا المالية وتحقيق اقتصاد رقمي نشط ومستقر.