نخبة بوست – كتب : هزاع البراري ( الكاتب والمحلل السياسي)
عند الحديث عن المشروع الإيراني، قلّما ينظر إلى الجذور التاريخية لهذا المشروع، فهو بالتأكيد ضارب في عمق الإرث الراسخ لدى الإيرانيين، عندما كان صراعًا قوميًا/عرقيًا توسّعيًا سبق الإسلام بقرون طويلة، إذ تحوّلت فارس إلى إمبراطورية شاسعة، ووقفت نِدًّا للإمبراطوريتين اليونانية والرومانية.
ولعل تجلّيات جذور هذا المشروع الاستعماري التوسّعي للفرس في المنطقة العربية قديمًا ظهرت بشكل واضح خلال الإمبراطورية الفارسية الثانية، التي أُطلق عليها “الساسانية” نسبةً للأسرة الحاكمة خلال الفترة (226–651م). وقد استولت الإمبراطورية الساسانية على العراق وبلاد الشام وجزء كبير من مصر واليمن وأجزاء من الخليج العربي، بما فيها عُمان، بالإضافة إلى آسيا الصغرى وغيرها.
وكان لإمبراطورية فارس سابقًا دور في تحرير اليهود في بابل من النفي الذي قام به “نبوخذ نصر”، إذ شنّ الفرس حملة على بابل بقيادة “كورش”، وتمكنوا من احتلالها ومكافأة اليهود على خيانتهم وتعاونهم مع الفرس، فأعادهم إلى القدس وأعطاهم الأموال لإعادة بناء الهيكل المزعوم في حدود عام 539 قبل الميلاد.

تعدّ معركة ذي قار أو يوم ذي قار علامة فارقة في الصراع بين العرب والفرس قبل بعثة الرسول محمد، إذ انقلبت الكفّة لصالح العرب، وألحقوا بالفرس وأحلافهم هزيمة نكراء
تعدّ معركة ذي قار أو يوم ذي قار علامة فارقة في الصراع بين العرب والفرس قبل بعثة الرسول محمد، إذ انقلبت الكفّة لصالح العرب، وألحقوا بالفرس وأحلافهم هزيمة نكراء، ضربت كبرياءهم في مقتل وأوغلت صدورهم على العرب قرونًا طويلة، وهم يرون في أنفسهم أرقى عرقًا وحضارة. وجاءت الفتوحات الإسلامية لتكمل ما تحقق للعرب في يوم ذي قار، فتم فتح بلاد فارس/إيران وصارت جزءًا من الدولة الإسلامية التي وصلت حدود الصين شرقًا.
لذا، يرى الفرس أن إمبراطوريتهم، التي ابتلعت فتوحات الإسكندر الأكبر وقارعت البابليين والرومان قرونًا طويلة، سقطت أمام العرب بدءًا من ذي قار ثم جيوش الفتح، وأن العرب استلبوا حضارتهم ودينهم وتراثهم ودان الحكم لهم حتى سقوط الخلافة العباسية وبدايات ظهور الدولة الصفوية، التي أوقفت الدولة العثمانية طموحاتها في التمدد نحو العراق وبلاد الشام في محاولة لإعادة مجد الساسانيين. لكن الدولة الصفوية بدأت تظهر كدولة طائفية راعية للمذهب الشيعي وساعية لنشره.
لم يتراجع المشروع الإيراني في المنطقة إلا نتيجة ظروف داخلية وأخرى إقليمية، لكن بقيت أطماعها التوسّعية المباشرة أو فرض نفوذها وهيمنتها السياسية على المنطقة العربية شغلها الشاغل
لم يتراجع المشروع الإيراني في المنطقة إلا نتيجة ظروف داخلية وأخرى إقليمية، لكن بقيت أطماعها التوسّعية المباشرة أو فرض نفوذها وهيمنتها السياسية على المنطقة العربية شغلها الشاغل. لكن ظهور الدولة العثمانية في أوج قوتها أجهض مشاريعها في الهيمنة، ثم جاءت الحربان العالميتان الأولى والثانية بتحولات جذرية أخذت معها إيران، خلال فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي ومن قبله والده رضا شاه، طابعها العلماني المدني، وتراجعت مشاريعها الطائفية والتوسعية.
مع اندلاع الثورة في إيران، التي قادها من منفاه الخميني، وسقوط شاه إيران واستيلاء رجال الدين المحافظين وعلى رأسهم الخميني عام 1979 على الحكم، بدأت تظهر إيران بطابعها الديني الطائفي، الذي أعاد إيران إلى عقلية التمدد والنفوذ باستخدام البعد الطائفي كقاعدة أساسية لهذه السياسة
لكن مع اندلاع الثورة في إيران، التي قادها من منفاه الخميني، وسقوط شاه إيران واستيلاء رجال الدين المحافظين وعلى رأسهم الخميني عام 1979 على الحكم، بدأت تظهر إيران بطابعها الديني الطائفي، الذي أعاد إيران إلى عقلية التمدد والنفوذ باستخدام البعد الطائفي كقاعدة أساسية لهذه السياسة، التي أعلن عنها الخميني في خطابه في الذكرى الأولى للثورة إذ قال: “إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم”، ومن هنا برز مصطلح تصدير الثورة لدى الإيرانيين، وهو تصريح واضح المعالم وتهديد مباشر للأنظمة في المنطقة وتهديد للبنى الاجتماعية والدينية المترسخة منذ قرون، ومحاولة استنهاض الحس الطائفي لدى الشيعة وبالتالي عزلهم عن فضائهم العروبي الإسلامي، واعتبار الطائفة هي الأساس وليست القومية، وهو مشروع تفتيتي يهدف بالضرورة إلى انقسام المجتمعات وضرب وحدتها الوطنية، وبعث عوامل صراع طائفي يفضي إلى حرب إسلامية-إسلامية، تحقق من خلالها إيران أطماعها في النفوذ والهيمنة الإقليمية، وتحقق في الوقت ذاته ما تصبو إليه إسرائيل ومن بعدها الغرب في إشعال فتيل حرب طائفية إسلامية تُصيب الأمة بالضعف والانقسام، وتصبح لقمة سائغة أمام المشاريع الغربية والشرقية.

صحيح أن اندلاع الحرب العراقية الإيرانية أوقف مشروع تصدير الثورة الإيراني لفترة من الوقت، لكنه ما لبث أن عاد بشكل شرس بعد غزو العراق وسقوط بغداد، وبدء مشروع مدريد للسلام الذي تعثر وتراجع كثيرًا نتيجة سياسة نتنياهو المناوئة للسلام وتحالفه مع اليمين الإسرائيلي الرافض لأي تسوية عادلة أو شبه عادلة
لا شك أن دخول إيران إلى المنطقة لتنفيذ مشروعها الثوري الطائفي كان يحتاج إلى ذريعة وأذرع، فدخلت من باب يضفي عليها شرعية ما، وهي المقاومة، فقدمت نفسها باعتبارها راعية وداعمة للمقاومة، وهذا خطاب له سحره ومفعوله السريع بين الناس ويضمن تقبّل تدخلاتها ويجمّل فكرها ومعتقدها الطائفي. أما الأذرع التي تحتاجها لحمل هذا الشعار وتسويقه في المنطقة، وهو العامل الأكثر تأثيرًا، فقد عملت على تأسيس حزب الله الشيعي في لبنان باعتباره حزبًا مقاوِمًا وتحرريًا، واعتمدت أيضًا على تحالفها مع النظام السوري القريب من هذا الجانب رغم علمانيته، ودعمت ميليشيات وأحزابًا موالية لها في العراق، كما ظهر دورها الواضح في دعم وتسليح الحوثيين في اليمن، وحاولت غير مرة استنهاض الشيعة في البحرين والكويت.

خلال العقدين الماضيين على أقل تقدير، أصبح المشروع الإيراني في الهيمنة والتوسع سياسيًا وعسكريًا بالارتكاز على البعد الطائفي واضحًا ومؤثرًا، ما هدد استقرار المنطقة وأمنها وأدخل بعض المناطق في دوامة عنف مدمرة
لا شك أن المشروع الإيراني لقي قبولًا ومهادنة غربية ولو مؤقتًا، في سبيل تحقيق بعض المصالح الغربية، وهذا ما أطلق يدها هنا وهناك. لكنها اليوم، ذات القوى الغربية، ولمصالح أخرى أيضًا، تعمل على مجابهة المشروع الإيراني، وإن كانت المجابهة ليست على وتيرة واحدة، فهي بين مد وجزر، في محاولة للاستفادة من هذا الصراع قدر الإمكان، فهي ترى وجود إيران بهذا الشكل الضاغط وضمن معايير يرضاها الغرب يصب في مصلحتهم، كونه يجعل المنطقة برمتها تنظر للغرب باعتباره الحليف القادر على كبح جماح إيران، وهذه معادلة انتهازية بشكل فاضح.
ويجب على العرب خلق معادلة خاصة بهم، تكون ضاغطة على إيران، وتعيد بناء العلاقات بين الطرفين على أساس حتمية وأبدية الجوار والمصالح المشتركة، وتخليص المنطقة من التجاذبات الطائفية، وأن يتم إعادة تأهيل النظام في إيران لتكون دولة مدنية تعددية ذات ديمقراطية حقيقية تضمن العدالة للجميع، وأن تكون العلاقة مع المنطقة على أساس حسن الجوار والمصالح المشتركة واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي طرف.