* كانت الثورة الصناعية إطلاقاً للقوة الإنتاجية تشكل المدن لتشكل أغلبية السكان بعدما كانت أقلية ضئيلة، فماذا ننتظر اليوم؟
* تُعتبر الأحداث التي جرت في عالم العرب في أواخر 2010 “الربيع العربي” حالة دراسية معقدة وشاملة، ومهما كانت الأحداث في مسارها ومآلاتها القائمة اليوم، فإنّها ليست نهائية
* كان “الربيع العربي” استجابة لدخول الشبكية في عالم الأعمال والسياسة والثقافة؛ وما نشأ عن ذلك من تحولات كبرى مؤثرة في علاقة الناس بمواردهم وعلاقة المجتمعات بالسلطة والشركات، وهي تحولات حتمية
* لم يكن مفاجأة صعود الحركات الإسلامية السياسية إلى سدة التأثير والمشاركة والحكم، فقد بدأت هذه الحركات منذ أوائل الثمانينات تشكل حالة سياسية جديدة تعبر عن نفسها في تحديات للأنظمة السياسية أو مشاركة سياسية واسعة
نخبة بوست – كتب: إبراهيم الغرايبة
حظيت باهتمام كبير وملفت سلسلة كتب إريك هوبز باوم (عصر الثورة، عصر رأس المال، عصر الإمبراطورية، عصر التطرفات)، يعرض باوم في حوالي (3) آلاف صفحة موجة من التحولات في الطبقات الاجتماعية والعلوم والفلسفة والدين والآداب، والتي ما زالت تشكّل حتى اليوم مرجعية للجامعات والأنظمة الاجتماعية والسياسية، فماذا سنشهد في العقود وربما الأعوام القليلة القادمة؟
ربما تدفعنا صعوبة الإجابة إلى استحضار القرن الـ (18) لعل التشابه يرشدنا في التفكير، لكنّي أخشى أن يضللنا المنهج التاريخي على أهميته وكفاءته، ذلك أنّها تحولات تصلح للاستدلال على تأثير تحولات الموارد والتكنولوجيا على الاقتصاد والاجتماع، لكن لا يمكن اقتباسها حرفياً في الاستدلال والتوقع.
يرتبط بتلك المرحلة بالنسبة إلينا في العالم الإسلامي موجات الإصلاح الفكري والسياسي التي جرت في الحياة الفكرية والسياسية، وبالطبع فقد كانت حركة مصطفى كمال في إلغاء الخلافة الإسلامية وإقامة جمهورية تركية علمانية تمثل ذروة الاستيعاب للتحولات الجارية في الغرب.
كانت الثورة الصناعية إطلاقاً للقوة الإنتاجية تشكل المدن لتشكل أغلبية السكان بعدما كانت أقلية ضئيلة، فماذا ننتظر اليوم؟ لنتذكر التداعيات الهائلة والشاملة للصناعات والنقل والقوة العسكرية بعد تلك الثورة، فقد انطلقت صناعات النسيج والبناء والنقل العملاق عبر البحار وقطارات سكة الحديد، وتغير كليّاً تصميم وشكل المدن والطرق والبيوت والحياة والتجارة والإنتاج والعمل والمهن والتعليم، ولنتخيل العالم الجديد الذي يتشكل اليوم، الموارد والنقل والقوة والحياة عامّة، وربما تكون الإجابة إننا بحاجة بالفعل إلى الفلسفة لنقدر على التفكير الجديد والمبدع والإجابة.
تُعتبر الأحداث التي جرت في عالم العرب في أواخر 2010 “الربيع العربي” حالة دراسية معقدة وشاملة، ومهما كانت الأحداث في مسارها ومآلاتها القائمة اليوم، فإنّها ليست نهائية؛ ذلك أنّها ضمن سلسلة تفاعلات لم تستقر ولم تفهم بعد، لكن يمكن ملاحظة الوعي الجديد المنشئ لهذه الحالة وتداعياتها، والصراعات والحروب الأهلية والطائفية التي اجتاحت مجموعة من الدول والمجتمعات، وكيف تمّ استحضار الدين والمذهب على نحو غير مسبوق استجابة لخوف الناس من بعضها بعضاً ومن المجهول. فما الوعي المنشئ لـ “الربيع العربي”؟ وما الحالة والتفاعلات التي أنشأت هذا الوعي؟
كان “الربيع العربي” استجابة لدخول الشبكية في عالم الأعمال والسياسة والثقافة، وما نشأ عن ذلك من تحولات كبرى مؤثرة في علاقة الناس بمواردهم وعلاقة المجتمعات بالسلطة والشركات، وهي تحولات حتمية، لكنّ الاستجابة لها بالتقدم والإصلاح ليست حتميّة، أو لا تأتي بالسرعة نفسها، وقد استجاب العالم المتقدم من غير ثورات في إعادة تشكيل المدن والمجتمعات والأفراد والمؤسسات والأسواق نحو مزيد من الفردانية والاستقلال والتنظيم الذاتي، إضافة إلى مزيد من التماسك الاجتماعي. ويواجه تحديات كبرى، لكنّه أيضاً يملك ميزة المراجعة والإرادة في الفهم، وهذا ما يساعد الأمم على استيعاب الأحداث والتحولات.
ربما كانت المفاجأة في توقيتها أو أنّها تأخرت. فقد جرت في أواخر الثمانينات وعلى مدى التسعينات في أنحاء أخرى من العالم أحداث كبرى تفوق “الربيع العربي” ضخامة وقوة وتأثيراً وشمولاً؛ انهيار جدار برلين والوحدة الألمانية، ونهاية الشيوعية في عالم الاتحاد السوفييتي ومحيطه، وتفكك الاتحاد نفسه، وتفكك الجمهوريات اليوغسلافية وما تبعها من حرب أهلية، وبالطبع فإنّ الحرب الروسية الأوكرانية هي من تداعيات هذه التحولات (الثورة الصناعية الرابعة)، وفي مشهد آخر فقد نهضت دول جديدة، مثل الصين والهند وجنوب أفريقيا التي شهدت في أوائل التسعينات أعظم حدث في تاريخها عندما انتهت سياسات الفصل العنصري، والبرازيل ودول جنوب شرق آسيا، وهناك أحداث وتحولات مأساوية في أفريقيا مثل الصومال والكونغو، لكن في المقابل هناك تقدم إيجابي في رواندا وبوتسوانا، وهناك أحداث أخرى كبيرة لم تستقر بعد على نحو واضح مثل ما يجري في النيجر ومالي.
كان مفترضاً أن تجري تغييرات سياسية واسعة في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، كما حدث في أجزاء واسعة من العالم، مثل الاتحاد السوفييتي السابق وأوروبا الشرقية والبلقان وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا وجنوب أفريقيا، وقد جرت بالفعل في دول عربية عدة تحولات سياسية، ولكنّها لأسباب عدة لم تتطور إلى حالة سياسية ديمقراطية، فقد جرت تحولات ومبادرات سياسية واسعة في الجزائر (1988)، ولكنّها انتكست عام 1992، وتحولت إلى صراع دموي طويل، والسودان (1985) ثم أجهضت عام 1989، والأردن عام 1989، وتونس (1987)، كما أجريت انتخابات نيابية وبلدية وشكلت مجالس استشارية في دول الخليج.
لم يكن مفاجأة صعود الحركات الإسلامية السياسية إلى سدة التأثير والمشاركة والحكم، فقد بدأت هذه الحركات منذ أوائل الثمانينات تشكل حالة سياسية جديدة تعبر عن نفسها في تحديات للأنظمة السياسية أو مشاركة سياسية واسعة، هناك الثورة الإسلامية في إيران (1979) والمشاركة الإسلامية المؤثرة في تركيا وماليزيا منذ أوائل السبعينات والتي توجت بحصولهم على الأغلبية البرلمانية عام 2002، والثورة الإسلامية في أفغانستان (1979).
وفي مصر اكتسحت الجماعات الإسلامية الجامعات في السبعينات، وقتل السادات على يد الجماعات الإسلامية (1981)، وبدأ الإخوان المسلمون مشاركة فاعلة في مجلس النواب في الثمانينات، ووافق نواب الإخوان على التجديد للرئيس مبارك عام 1987، والثورة الإسلامية في سوريا (1979)، والمشاركة الإسلامية السياسية الواسعة في السودان منذ منتصف السبعينات، ثم توجت باستيلاء الإسلاميين على السلطة بانقلاب عسكري عام 1989، وكذلك الحال في المغرب والجزائر والأردن والعراق واليمن ودول الخليج.
يمكن ملاحظة شبكة واسعة من الأحداث والتفاعلات التي شكلت البيئة المحيطة بـ “الربيع العربي”، وأدت في النهاية إلى وقوعه، ولأغراض الإيجاز وتنظيم الأفكار يمكن عرض أبعاد هذه الشبكة في النقاط التالية:
- العولمة الشاملة؛ الاتصالاتية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
- لتأثير السياسي والاجتماعي للطبقة الوسطى.
- التداعيات والتحولات المتشكلة حول المعلوماتية والاتصالات واقتصاد المعرفة.
- الإحاطة المتاحة والشاملة بالمعلومات والمعرفة والأحداث والتطورات التي أصبحت تمتلكها المجتمعات بمختلف شرائحها الاجتماعية والاقتصادية، والتي منحتها فرصة واسعة للاطلاع والمعرفة.
- الفرص والآفاق المتاحة للعمل والتأثير من خلال شبكات الإنترنت والتواصل الاجتماعي.
- التحولات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة للخصخصة والتغيير في علاقات الدولة والمجتمع والدور الاقتصادي والاجتماعي والرعائي للدولة.
- تحولات وصراعات النخب السياسية والاقتصادية، التي تعكس التحولات التي جرت في التقنية والموارد والتأثير.
- الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي أدت إلى مراجعة برامج الخصخصة والليبرالية الاقتصادية، وأعادت الاعتبار للدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة في ظل الرأسمالية الاقتصادية ومشاركة الدولة والمجتمعات والشركات.