نخبة بوست – كتب: صهيب جوهر
منذ بدء إسرائيل للعملية العسكرية، ضد لبنان، تسود حالة من التخبط الأوساط السياسية والدبلوماسية لمسار الحرب الإسرائيلية على لبنان. إذ تتضارب المقاربات حول أفق هذه الحرب ومدتها، في ظل الحديث المستمر لدى الفاعلين المحليين والإقليميين عن إمكانية وقف إطلاق النار خلال أسابيع قليلة، فيما الأجواء الميدانية توحي أنها مستمرة لمدة أطول وأن إسرائيل تنوي ضرب قدرات حزب الله العسكرية، في ظل التوغل البري الجاري جنوب لبنان.
ويبدو أن حزب الله والذي كثف عمليات إطلاق الصواريخ والمسيرات ويخوض قتالاً عنيفاً ضد القوات المتوغلة براً، يسعى لإلحاق خسائر كبيرة في صفوف الجنود الإسرائيليين، لتثميرها سياسياً، لكن الحقيقة الماثلة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يتذرع بالحاجة إلى إطالة أمد الحرب وتوسيع نطاقها، خصوصاً أنها في الأيام الأولى كانت تتحدث عن عملية محدودة جداً، وتشتمل على قرى الشريط الحدودي.
بالتوازي فإن المسارات التي تدور المفاوضات فيها حول الملف اللبناني، هو مسارين؛ المسار التفاوضي لوقف إطلاق النار، أما المسار الآخر فيتعلق بالتصورات المحتملة لليوم التالي بعد الحرب وتطبيق القرار الدولي 1701، بما يضمن العودة لبناء الدولة ومؤسساتها الوطنية.
لذلك، يبدو واضحاً الهروب الأمريكي من تغيير أي صيغة أو إضافة ملحق أو تعديل في مشروع القرار 1701، لأن أي تعديل سيكون مرتبطاً بالحاجة إلى التصويت عليه في مجلس الأمن. ما يعني حصول فيتو روسي أو صيني، وهذا السياق يحتاج إلى مفاوضات بين واشنطن مع بكين وموسكو، لتمرير التعديل أو إضافة الملحق. وهو ما يرفضه الأمريكيون الذين لا يريدون إعطاء أي دور لروسيا والصين في الشرق الأوسط، وخصوصاً في الدول المطلة على البحر المتوسط.
لذا فإن المبعوث الأمريكي الخاص آموس هوكشتاين، والذي كان قد عاود نشاطه في اتجاه المنطقة، باشر جولة جديدة انطلاقاً من إسرائيل بعد الضربة الإسرائيلية لطهران، لكنها باءت بالفشل نتيجة تعنت نتنياهو، وهنا يبرز السؤال الأهم حول المنحى الذي ستؤول إليه الحرب الدائرة في جنوب لبنان، وما هو انعكاس هذه التفاهمات في حال وجودها على الجبهات المفتوحة.
كذلك، فإن تصاعد الحديث داخلياً حول احتمال التوصل إلى تفاهم يبدأ بوقف لإطلاق النار ويليه انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. لكن حسم هذا الإطار إما عبر التفاوض أو عبر الحرب سيكون مرتكزاً على واقع لبناني جديد مختلف جذرياً عما كان عليه قبل اندلاع الحرب، عبر إزالة أي إمكانية لوجود خطوط تماس بين إيران وإسرائيل من خلال الساحة اللبنانية.
وعليه، فإن احتمالات الاستمرار في الحرب باتت تتساوى مع احتمالات إنجاز الصفقات السياسية الجدية، لكن لا أحد يستطيع أن يضمن منذ الآن المسار الفعلي للأحداث. أضف إلى ذلك، خصوصاً أن المفاوض الأمريكي حمل شرطاً إسرائيلياً واضحاً أبلغه إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري بوجوب حصوله على التزامات عملية وجدية، تضمن تطبيق مبدأ إبعاد لبنان عن الاصطفاف الإقليمي وضبط الحدود أمام أي وجود للسلاح مستقبلاً. وهذا ما يفسر التشدد الإسرائيلي بإقفال المعابر البرية من خلال استهدافها بالقصف.
لكن ما تقوم به إسرائيل اليوم ما يزال في إطار المناورة السياسية لا أكثر. وفي وخاصة أن نتنياهو وحلفاءه في الحكومة يراعون اليوم إدارة الرئيس جو بايدن التي قدمت لهم كل أنواع الدعم العسكري والسياسي، وتعهدت بمضاعفة هذا الدعم بعد الانتخابات في حال فوز كامالا هاريس. في ظل ما يحكى أن نتنياهو تلقى وعوداً من بايدن بالحصول على دفعات هائلة من السلاح والذخائر مع بقاء منظومة ثاد الدفاعية بالتصرف إذا ما وافق على تمرير صفقة في غزة ولبنان.
وهذا المسار يتيح للديموقراطيين أن يعلنوا نجاحهم في تنفيس الاحتقان ويجيروا ذلك لمصلحتهم في الانتخابات. ولذلك، أبدى نتنياهو الاستعداد لجولات تفاوض ولو شكلية حول مع لبنان، كذلك بقبول الإسرائيليين للعملية العسكرية المنسقة ضد إيران، لكي يوحوا بأن الضربة الموعودة قد جرت فعلاً وانتهت، وأن هذا هو حجمها.
ما يعني أن ذلك سيفرض تحديات أكبر أمام لبنان، خصوصاً أن أي حل سياسي أو تسوية داخلية، وإعادة تشكيل السلطة ما بعد الحرب، سيكون مرتبطاً ببرنامج محدد من الشروط، خصوصاً حول مسألة إعادة الإعمار وطبيعة التوزع الديموغرافي، ما يشير إلى أن الدول المعنية ستفرض شروطها المرتبطة بعملية الإصلاح السياسي والاقتصادي، وتحويل لبنان من دولة مواجهة إلى دولة ملتزمة بالقرار الدولي 1701 بكامل مندرجاته.
وبالتالي، فإن ما يبدو اليوم من ليونة إسرائيلية قد تنتهي بعد 5 نوفمبر/تشرين الثاني، أي بعد أن تضع المعركة الانتخابية الأمريكية أوزارها، وبعد ذلك، وفي ضوء النتائج، سيفتح نتنياهو مساومة مع الإدارة الجديدة حول طبيعة المطالب التي يريد تنفيذها. ومن هنا وحتى تلك اللحظة لا يبدو أن أحداً قادراً على التقليل من حجم الكوارث المتخيلة في لبنان وغزة.