نخبة بوست – كتبت: د. ناهد الحموري
بطهارة البدايات ..بأيام الخريف الأخيرة واجراس الشتاء تقرع ابوابنا …قنديل جدتي اضاء في هذا الشتاء ايضا….
جدتي فلاحة بسيطة … جاءت من سهول اربد لتقطن المدينة عروس غضه لا تعرف من المدينة الا عيون جدي وابناء احاطوها وملؤا دربها يوما بيوم فحققت وحققوا معها ببساطة الموجودات ما حلموا به يوما…
و أما نحن …
وعينا على الدنيا….”انا واخوتي”… وحضن جدتي حضن ثاني كخيار وليس كبديل وبيتها بيتنا الثاني … وكحضنها كان بسيط هادىء و دافي ..”ومن المسلمات” عندي ان ضقت لجأت ..فهي تملك قلب وفكر بسيط لو شو ما زعلتني الدنيا بيراضيني … وكل شي بسيط و بعدي او مايعبر عنها في علم التنمية البشريه الحديث كل الاحداث مؤقته وتمضي … وهي تقابل تفاصيل احداثي ..” شو عليه ياتيتتتته” .. تمد بمنادتها الاخيره فتعزف سيمفونية من حنان تخرج مع حروفها البسيطة لتقمع غضبي و ثورتي دون تكتيكات التربية الحديثة لتقنع طفلة صغيرة بأن الهدوء هو حل أيما واجهك في هذه الحياة …
جدتي أحبت الفرح…
كانت امي الصبيه مباغتتة لها باحفاد خمس لتنطلق بعدها حياتها بسلسلة افراح تتوالى بعدها بمن تفخر من الابناء … رائحة الفرح كانت تفوح من كل زاوية من زوايا بيت جدتي فهي بذاتها زجاجة عطر تفوح بتفاصيل اهازيجها وحناها وشمبرها وشرشها… شرش الفرح مخمل مفصل للمناسبات لماع انيق… اراهن ارقى دور الازياء إن سكبوا يوماً الفرح على جسد إمرأة كما كان ثوبك يا جدتي…. كنت الفرح ياجدتي وموعده… تواعيدن الفرح وتجلبينه دائما … فالعيد وقهوتك ورائحتها ودلتك وقراص العيد هو عين العيد و صبحاته لدى جيل كامل بدأ فينا نحن الاحفاد الخمس وانطلق لمن يلي ويلي وهم ونحن كلنا عيدك فتحتفلين بكل منا عند وصوله على انفراد بخصوصية “الأمراء والأميرات “… لازلت اذكرك ياجدتي عند الباب و لو استعجلنا بفتح الباب عن خطواتك .. فبسماعك حركشات الباب منا كنت تهرولين مسرعة لتلاقينا وننغمس بأحضانك حينها في منتصف الباحه وترافقينا بجوقة الفرح تسرين بها المكان وانا وكل من استقبلتي لسنوات وسنوات ولعمر مضى فينا ….
و ان كان موسم الشتاء لدينا يبدأ بحصاد شتوي …. باستقبال زيت الزيتون وبروتوكله المرافق بسؤالك” زيتات التيته ازكى ..قولي اه..” سؤال ملزم بجواب محدد …اه طبعا ازكى …. لتصدح ضحكتك الطيبة منك بعدها معبرة عن رضا كنا نفرح به ياتيته اكتر من الزيت كله … وبتتمة للقصه وبمزاح الابن مع امه…”يما همه زيتاتك هدول من ارض ابوي ..” هي تصمت قليلا وتستمر بالمناكفه مع حفيد آخر حول روعة زيت الزيتون الجديد .. زيتها .. و سنة عن سنه وشتاء يعبر آخر ونعبره معك ..يتكرر فصل الرواية مين ازكي؟! زيتات التيته ازكى ..قولي اه… يما همه زيتاك همه زيتات ابوي….
جدي لم يتصدر يوما عناوين قصص جدتي وحكايها ..وان كان ذلك مبرر لسؤال داخلي فيّ لاحقا …ولا أذكر ان لمحت في عينيها حزن على فقده يوما .. وقد كنت أقرأ فيها دائما امرأة تحب الحياة والفرح و لاتتوقف عند الحزن كثيرا … فهي مؤمنة صادقة بإيمانها..فقد كان قضاء الله وقدره بوفاة زوج ذو ذكر طيب وابناء مازالوا في عمر غض يحتاجون ما تعجز عنه الكثيرات ..لتصلب عودهم لحظة بلخظة لمواجهة الحياة …فكانت “سيدة الفرح” التي جاهدت وكان ابنائها عنوان لمن كد وجد …
جدتي لم تروي لي رويتها الخاصة مع جدي ولا اخالها باحت بها لغيري .. وحينما يأسرني السؤال ليه… اجد الجواب بثقة عينيها الفرحة التي اذكرها كأمرأة يرافقها ذلك الحبيب و الزوج …فهو لم يرحل حقيقة الا بما خُطٓ على الأوراق المحفوظة في خزانات دائرة الاحوال المدنيه …اما في قرارة نفسها فكان جدي حي وما زال لعشرات من السنين الى ان التحقت به بأيام تحضيراتنا للعيد الأخير .. فكان لقائنا و وداعنا الاخير ياجدتي… رحلت حينها بما يليق بك .. من فرح العيد و اجوائه الندية والمؤذن يعبر بنا من المنابر بأيام ذي الحجه وصوته يُعلي اسم الله الاكبر …فرقدتي حينها بسلام الله وبركاته… هناك الى جانب الاحباء من الأجداد وبركات الزيتون تحف مرقدك …. وتعبر الاشهر بعد العيد ليأتي موسم فرح آخر ياجدتي مع بدء فصل الشتاء..
وصلنا بالامس الزيت ياتيته … زيت الزيتون السنة غير.. اخضر مشرق يبهج النفس …و كأنه لامس بسماتك قبل ان يعصر … فأنت مازلت انت… حتى حينما غفوتي غفوتك الأخيرة آخر ايام الصيف …تحت ظلال اشجار الزيتون … فحرستي لحظات نضوج الزيتون الأخيرة ..وكما كنت دائما تجيدين الرعايه كان زيت السنه غير …… اما شووو زيتات ياتيته…
شكرا جدتي … شكرا على كل بساطة عشتها معك… واثابك الله كل خير على كل فرح حسيت فيه معاك بعيد طفلة.. اونجاح صبيه وآخرها رقصاتك التي رافقت عودتي وامي وابي وانا احمل شهادة الدكتوراه … جدتي اخالك الان تبتسمين واخالني بأحرفي هذه عبرت الى قنديلك وأضأته “بزيتاتك” ليضيأ هذا الشتاء ايضا وتصدح أصواتنا الى اقصى تلال الشمال. منادين بكل الحنين المتزايد فينا .”
ستي يا ستي اشتقت لك يا ستي
علّي صوتك…. صوتك بعيد…
جايي من الكرم جايي و حامل شمس وفيي و لون التين والزيتون…وريحة كل الطيّبون يا ستي..”