نخبة بوست – كتب: مراد بطل الشيشاني
لمتابعي كرة القدم تسمياتهم الخاصّة للمباريات التي تُطبع في ذاكرتهم، مثل “هزيمة ماركانا”، حين هزمت الأوروغواي البرازيل في نهائي كأس العالم 1950، و”واقعة برشلونة”، حين هزمت إيطاليا فريق البرازيل الذهبي في كأس العالم عام 1982، أو “مؤامرة خيخون”، حين اعتبر كثيرون من محبّي الكرة العربية أن كلّاً من ألمانيا والنمسا تآمرتا لإخراج الجزائر من البطولة نفسها، أو “مجزرة هيسل” (بلجيكا، عام 1985 )، حين فقد 39 بسبب انهيار حائط الملعب بسبب التدافع قبيل مباراة ليفربول الإنجليزي ويوفنتوس الإيطالي في نهائي أبطال أوروبا، أو “ليلة إسطنبول”، في المباراة التاريخية بين ليفربول وإي سي ميلان الإيطالي عام 1997، في نهائي أبطال أوروبا أيضاً، التي صُوِّرت في فيلم درامي. الأمثلة كثيرة، لكنّ ليلة مباراة فريق مكابي الإسرائيلي مع أياكس أمستردام الهولندي، في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، لن تُذكَر لأيّ سبب رياضي، بل قلّة سيهتمّون بنتيجتها، بل ستُذكر لأنها مثّلت التداعيات السياسية المتوقّعة لحرب غزّة الدموية في قلب أوروبا، وستُذكّر بأولوية إنهاء المقتلة البشرية هناك، فالصدامات التي جرت بين مؤيّدي الفلسطينيين ومشجّعي نادي مكابي من الإسرائيليين جاءت فعلاً صادماً على خلفية تلك الحرب، إلى درجة أن الحكومة الهولندية طالبت بنقاش الأحداث في المفوضية الأوروبية. جرحى بالعشرات، ومعتقلين كُثر، وإسرائيل جهّزت طائراتٍ لإخراج جمهورها. وبعيداً عمّن كان وراء إطلاق الأحداث (يلقي كلُّ طرف اللائمةَ على الآخر)، فأسباب التوتّر قائمة منذ زمن، واتّخذت طابعاً تصعيدياً أكثر منذ عام ونيّف، وطبعاً العنوان هو غزّة.
أمستردام مدينة ذات طابع خاصّ، كانت تاريخياً ملاذاً للهاربين من الاضطهاد الديني، وتعدّ أكثر المدن الأوروبية ليبراليةً، ولعلّ صدمة المدينة كانت كبيرةً حين اغتال محمد بويري (من أصول مغربية)، حفيد الرسام فان غوخ عام 2004، فأشار كثيرون إلى أن حال التسامح الذي تعيشه المدينة لم يحتمل إثارة حساسياتٍ دينية آنذاك. واليوم أيضاً، يبدو أن الحساسية السياسية تضرب في أكثر المدن ليبراليةً. منذ 7 أكتوبر (2023)، هناك مظاهرات أسبوعية في أمستردام لوقف الحرب في غزّة، وتأييداً للفلسطينيين، لا يخطئها زائر المدينة، ولا تقتصر تلك التظاهرات على تلك المدينة، بل هي عنوان رئيس في مدن غربية كثيرة. ومن ثم، الشحن السياسي قائم.
تثير صدامات “ليلة أمستردام” نقطتَين أساسيّتَين. الأولى، حال العزلة التي تواجهها إسرائيل بفعل الحرب في غزّة. ففي حين كانت التظاهرات تنحصر في مطالبات سياسية وبرفض زيارات سياسيين إسرائيليين مثلاً، أو في الوقفات الاحتجاجية أمام بعثاتها الدبلوماسية، أو في المطالبة بوقف فعّاليات اجتماعية، أو رياضية، أو أكاديمية، وغيرها، تشارك فيها إسرائيل، لكنها أخيراً دخلت حيّز العنف، خاصّة في شكله غير المنظّم، بحيث يؤشّر إلى حال العزلة لإسرائيل ومجتمعها، وتصاعد المشاعر ضدّها في الجانب الآخر، بفعل استمرار الحرب في غزّة، الأمر الذي يثير إمكانية إنتاج حرب غزّة العنف في الخارج، فالمتوقع أن لا يكون هذا العنف تنظيمياً (أي مرتبطاً بتنظيمات سياسية معيّنة) بحكم غياب الأطر الجامعة لمنفّذي العنف، ولو آنياً. ثم إنّ هناك عامل “الإلهام” لمثل هذه المجموعات بشكل يجعل من إمكانية تكرارها محتملاً، وبشكلٍ كبيرٍ في أكثر من مكان. لا ترتبط مثل هذه الحوادث بقضايا الاندماج أو نقاشات التطرّف بين أوساط المسلمين في الغرب (بشكلها الحالي تحديداً)، كما كانت الصورة في مراحل سابقة في أكثر من مدينة أوروبية. ولعلّ التحدّي المقبل سيكون في مباراة مكابي في إسطنبول، وهو لن يقف في حدود مباريات كرة القدم، عدا عن أن عامل “الإلهام” يبقى مثيراً لأولئك الشبّان في نسج شبكات ممتدّة تستفيد من الحدود الأوروبية المفتوحة، وهو ما يفسّر اعتبار الحكومة الهولندية “ليلة أمستردام” مشكلةً أوروبيةً.
مواجهات أمستردام واحدةٌ من أنماط العنف التي ستنتجها غزّة، ولعلّ سمتها الأكثر وضوحاً (إلى الآن) غياب التنظيم، وهي في ذلك تحديداً تتشابه مع حالات الهجمات الفردية (الذئاب المنفردة) التي شهدتها الأردن (في المعبر مع إسرائيل)، أو بعض الهجمات في عدّة مدن غربية في غياب القيادة والتنظيم، وهما عاملان إن تحققا، فنحن إزاء مجموعات عنيفة أكثر تنظيماً، وهذا متوقّع في سياقات تطوّر مجموعات العنف السياسي، فشبح غزّة يحوم فوق أوروبا… وبالمناسبة فاز أياكس أمستردام على الفريق الإسرائيلي بخمسة أهداف نظيفة ليلتها.