* يعتبر الكتاب إضافة مهمة إلى الفكر العربي؛ ويساهم في بناء المعرفة العربية لأجل عقلنة وتطوير العمل الإصلاحي والتنموي سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي والطبقي
* يتناول الكتاب موضوع الدولة بما هي مؤسسة الحكم بمعنى السيادة على إقليم بحدود معينة وسكان هذا الإقليم؛ واحتكار التشريع والعنف الشرعي وجباية الضرائب
* أهم مكونات تعريف الدولة الحديثة هي المواطنة واحتكار العنف؛ وتختلف الدولة الحديثة أيضا في التمييز بين شرعية الدولة وشرعية الحكام
* تجد المقاربة التاريخية التي يقدمها الكتاب أن الدولة الأوروبية الحديثة لا تضرب جذورها في ماض سحيق، بل تعود إلى العصر الوسيط
نخبة بوست – كتب: إبراهيم الغرايبة
مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظريات والسياقات؛ تأليف د. عزمي بشارة ( المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2023)
يعتبر الكتاب إضافة مهمة إلى الفكر العربي، ويساهم في بناء المعرفة العربية لأجل عقلنة وتطوير العمل الإصلاحي والتنموي سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي والطبقي، ويساعد في بناء دليل منهجي واضح للعاملين والمهتمين ببناء الدولة والتنمية السياسية؛ ويصلح الكتاب في تنظيمه والمجهود البحثي والمعرفي أن يكون محتوى نموذجيا للموضوع أو تدريسيا لطلبة الجامعات أو فكرا متخصصا موجها للمثقف العام.
يتناول الكتاب موضوع الدولة بما هي مؤسسة الحكم بمعنى السيادة على إقليم بحدود معينة وسكان هذا الإقليم، واحتكار التشريع والعنف الشرعي وجباية الضرائب ويعرض نظريات الدولة في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وتطورها التاريخي من الإقطاع والملكيات والمدن المستقلة، وتأثير التطور التكنولوجي على طبيعة الدولة ومفهومها ودورها، وخاصة المفاهيم الحديثة المتعلقة بالدولة، وأهمها المواطنة والسيادة والشرعية.
يتلخص مفهوم الدولة كما يعرفه المؤلف في:
1- مؤسسات حاكمة لإقليم ترابي، وشعب يجمع بينها كيان واحد ذو نظام قانوني مستقل عن الأنظمة القانونية الأخرى.
2- سلطة تشريعية تسنّ القوانين السارية التي تدار بموجبها شؤون المواطنين.
3- سلطة تحتكر وسائل العنف، منصوص على صلاحياتها وحدود هذه الصلاحيات بالقانون.
4- تمارس سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية على نحو حصري ضمن حدود إقليم ترابي، وتمثل شعبها بوصفها مؤسسة السلطة المخولة بتمثيله رسميا امام الدول الأخرى.
5- جهاز بيروقراطي متخصص في إدارة الشأن العام
6- مواطنة بالولادة أساسا أو بموجب قوانين الجنسية. أهم ما يحول الرعايا إلى مواطنين عضويتهم المباشرة في الدولة بحمل جنسيتها، وكون القانون يحدد لهم حقوقا وواجبات، وخضوعهم لقانون واحد، وجواز أن يتوقعوا من أجهزته ان تضع مصلحة المواطنين في قمة سلم أولوياتها.
إشكالية الدولة الحديثة وخصوصيتها
تطورت الدولة في نموذجها الأوروبي الذي طبق في جميع أنحاء العالم الحديث من تشكل الدولة الإقليمية التي بدأت بوصفها ملكيات مطلقة بمركزة السلطات وتطور المدن الحرة وثقافتها. وصار أهم مكونات تعريف الدولة الحديثة هي المواطنة واحتكار العنف، وتختلف الدولة الحديثة أيضا في التمييز بين شرعية الدولة وشرعية الحكام.
تجد المقاربة التاريخية التي يقدمها الكتاب أن الدولة الأوروبية الحديثة لا تضرب جذورها في ماض سحيق، بل تعود إلى العصر الوسيط، ولا سيما الفترة الوقعة لتكون دولا ذات سيادة منذ عام 1300 لكن الدولة الأوروبية الحديثة توطدت خلال القرن الثامن عشر.
وقد عمم نموذج الدولة الوطنية بعد مؤتمر الصلح في فرنسا (1919) ولم يعد اليوم ثمة مناطق إضافية خارج نطاق أي دولة يمكن التوسع فيها. بمعنى أن الحدود الترابية السياسية للدول أصبحت تغطي الكوكب كله، ولم يبق سوى القطب الجنوبي الذي يعد ميراثا للإنساني بموجب معاهدة الأمم المتحدة (1982) لم يعد ممكنا العيش من دولة مواطنة.
في نظريات الدولة
جرى إحياء الفلسفة السياسية في عصرنا في سياق الحوارات بشأن المؤسسات والسياسات الأكثر تلاؤما مع القيم المشتركة (الحرية والمساواة) في الدولة الديمقراطية. ويقسم مارتياس فون هاو مقاربات نظرية الدولة إلى أربع:
1- ماركسية، ترى أصل الدولة يكمن في الحفاظ على الملكية الخاصة وأن الدولة الحديثة نشأت مع النظام الرأسمالي بوصلها أداة لتدبير مصالح الطبقة الرأسمالية وقمع الطبقات الأخرى
2- المقاربة الليبرالية التي تحصر الحاجة إلى الدولة في الخطاب على السلم الاجتماعي، ويجب مقاومة تمدد وظائف الدولة وأجهزتها على حساب آليات التنظيم الذاتي للاقتصاد والمجتمع.
3- مقاربة المؤسسية المنسوبة إلى ماكس فيبر التي ترى الدولة كيانا حديثا قائما بذاته، يحتكر العنف والتشريع.
4- المقاربة القومية التي ترى الدولة تعبيرا عن تطلع الأمم إلى حكم ذاتها.
يرى المؤلف (بشارة) أن انتماء الشعب ومؤسسات الحكم إلى كيان يجمعها هو ما يرتقي بالدولة الحديثة عن كونها مجرد سلطة. فمن دونه لا تمييز بين الدولة وشخوص الحكام، ومن شروط هذا التصور: وجود وعي بهوية مشتركة قومية أو وطنية. وجود مؤسسات فعلية قائمة أصبح المواطن الواعي ولا سيما في الدول الديمقراطية يميزها من الحكام باعتبارها مؤسسات الدولة، مثل الجيش والقضاء والوزارات ودوائر التخطيط والمراكز البحثية التي تمولها الدولة والمتاحف. إضافة إلى رمز مثل العلم والنشيد الوطني وطقوس اليوم الوطني وضريح الجندي المجهول، وجميعها معرض للنقد بوصفها تعبير عن سرديات انتقائية وأيديولوجيات بوصفها تعبي عن سرديات انتقائية.
السيادة والشرعية والمواطنة
اعتبر ماكس فيبر أن وظيفة الدولة الرئيسية هي وظيفة إكراهية، وأن من يديرها نخب عقلانية، ابتعادا عن النزوات الشعوبية والجهل، ووضع الحكم بيد موظفين رسميين تقيد من سلطتهم الأحزاب المنتخبة بانتخابات ديمقراطية.
انشغل دوركايم بدور الدولة في مواجهة إشكاليات المجتمع الحديث الناجمة عن تفكيك البنى التقليدية والأزمة الأخلاقية. وعرف الدولة بأنها أرقى أشكال المجتمع المنظم الموجودة، وأن لها وظيفة أخلاقية، فهي لسان حال التفكير الاجتماعي. ويرفض فيبر اختزال الدولة في متطلبات الرأسمالية، فاستقلالها المؤسسي يقوم على احتكارها وسائل الإكراه في إقليم ما.
يعدد فيبر مميزات الدولة الحديثة الشكلية: تمتلك نظاما إداريا وقانونيا قابلا للتغيير بالتشريعات، يعمل بموجبه الطاقم الإداري الذي تضبط عمله قواعد هذا النظام. يملك سلطة ملزمة ليس فقط على أعضاء الدولة المواطنين. إنها منظمة قسرية ذات أساس إقليمي ترابي. يعد استخدام القوة في العصر الحديث شرعيا فقط إذا سمحت به الدولة أو قررته. إن ادعاء الدولة احتكار استخدام العنف هو أمر جوهري بشأن شخصيتها المتعلقة بالتشريع الإلزامي والتشغيل الدائم.
حاول فيبر الإجابة عن سؤال الشرعية (شرعية الحكم) بدلالتها التي تفيد بمقبولية الحكم وطاعته في إطار تقسيمها إلى ثلاثة نماذج وبموجبه ثلاثة أنواع من السيطرة الشرعية. أو ثلاثة أنماط من السيطرة تناسبها ثلاثة أنواع من الشرعية:
1- الأسس العقلانية القائمة على قانونية القواعد المأمور بها وحق من وصلوا إلى السلطة بموجب هذه القواعد أن يصدروا أوامر (السلطة التشريعية)
2- الأسس التقليدية القائمة على إيمان راسخ بقدسية التقاليد المتوارثة، وشرعية أولئك الممارسين للسلطة في ظلها (سلطة تنفيذية)
3- الأسس الكارزمية القائمة على الإخلاص لقدسية استثنائية أو بطولة (السلطة الكارزمية)
من وجهة نظر القانون؛ الدولة شرعية بحكم تعريفها، ولا معنى لاستخدام الشرعية سمة للدولة إلا من منطلق مبادئ من خارج القانون الوضعي، وهي عادة مبادئ قيمية، أو مسائل متعلقة بالهوية الوطنية. (ص 326) وقد أصبح ممكنا إطلاق الأحكام بعدم شرعية العنف الذي تمارسه سلطة دولة ما، مع أنها تحتكره بحكم تعريف الدولة، ويمارس بموجبه قوانينها، وقد تعتبر القوانين غير عادلة، وتخدم أهدافا غير شرعية بموجب قيم جديدة بدأت تنتشر في المجتمع وتحقق هيمنة.
ثمة محددات للشرعية في المرحلة المعاصرة مثل احترام حقوق الإنسان والشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني. لقد أصبحت الدولة في بعض الحالات تعبيرا عن شرعية لا توجد مصلحة في إعادة النظر فيها وجزءا من نظام دولي لدى أقطابه مصلحة في الحفاظ عليه وعلى توازناته.
اشتق مبدأ المواطنة في العصر القديم والعصر الوسيط من عضوية في جماعة، وليس من حقوق طبيعية لصيقة بالفرد نفسه، فضلا عن أنها كانت محصورة في أقلية من السكان. وكانت جذور المواطنة في بدايات الدولة الحديثة مستمدة من المدن الحرة غير التابعة مباشرة لملوك.
كانت المواطنة مركز خطاب الثورة الفرنسية (1789) ربما بتأثير مباشر من فكر روسّو، وقد عدّ كانط المواطنة الحديثة عضوية في الدولة، وميزها من المواطنة في المدينة، وعمادها المساواة أمام القانون، والمساواة في الاستقلال والحرية. لكل عضو في الدولة الحق في أن يصل إلى منصب بموهبته ومهارته واجتهاده وحظه الجيد، ولا يجوز لأحد من المواطنين أن يقف في طريقة بوساطة امتيازات وراثية أو امتيازات المنصب، بحيث يعوقه ويعوق نسله إلى ما لانهاية.
وكان الأساس في المواطنة في رأي راينهارد بنديكس (1916 – 1991) هو مبدأ المساواة أمام القانون. ليست المواطنة معطى ظهر فجأة في الحداثة، ولا مفهوما نظريا جاهزا للتطبيق. المواطنة الحديثة في الغرب نتاج مسار تطور طويل للحقوق المدنية، وأفكار المساواة والفردية والثورة الصناعية، فضلا عن أنها نتاج لنضال طويل من أجل توسيع الحقوق الاجتماعية.
لا يمكن فهم الدولة المعاصرة من دون مكون المواطنة الذي أصبح الوجه الآخر للسيادة، ففهم السيادة على أنها السلطة العليا على إقليم وسكانه وهي التي شكلت عنصرا مهما في تعريف الدولة الحديثة لم يعد كافيا، وسكان الدولة الحديثة ليسوا مجرد رعايا، إنهم شعب ينتمي إليه الحكام والمحكومون معا.
ثمة تأويلان مختلفان للمواطنة، أحدهما ليبرالي يشتق حقوق الفرد من كونه عضوا في الدولة، ويعدّ حريته قيمة عليا. والآخر جمهوراني حديث يعد انخراط الفرد في الدولة بوصفها جماعة سياسية أخلاقية هو معيار المواطنة، ويعلي هذا التفكير الصالح العام على الحرية الفردية.