* دخلت الحرب الروسية الأوكرانية مرحلة جديدة تجعل ما حدث منذ 2022 مجرد مزاح خشن؛ أو تمهيداً لمرحلة حقيقية قادمة
* تبدو روسيا بإطلاقها صاروخ “أوريشينك” الخطير وكأنها تسير بسرعة إلى حسم سريع للحرب وفرض شروطها على أوكرانيا
* تفقد أوكرانيا على المدى الطويل هويتها وقدرتها على الاستمرار؛ بعد هجرة أعداد كبيرة من مواطنيها إلى درجة تمنح نظرية المؤامرة قدراً من الصدقية، فأوروبا تحتاج إلى القوة العاملة الأوكرانية وترحب بها
* الحرب تسير إلى مزيد من التصعيد واحتمالات الاستمرار، إذ سوف تُتم بعد ثلاثة أشهر ثلاث سنوات من عمرها ويبدو أنها تزيد قوة وتعقيداً
* يملك الأوكران دوافع معنوية تحررية ودفاعية عن بلادهم وهو ما يفقده الروس
* ربما يكون من خيارات الغرب تشتيت تركيز روسيا بفتح جبهات ومعارك وصراعات جديدة تقلل من قدرتها على الحسم والبقاء مسيطرة
* يبدو تجميد الحرب والدخول في التفاوض واقعياً بالنسبة لترامب وقد تقبل به أوروبا أيضا، فلا أحد سوف يأسف على زيلينسكي
نخبة بوست – كتب: إبراهيم غرايبة
أطلقت روسيا صاروخا متوسط المدى (1000 كيلومتر) على مجمع صناعي عسكري في قلب أوكرانيا في رسالة تهديد سياسية، تغير في مستوى وطبيعة الصراع ومساراته. فهل سيتحول الصراع إلى حرب مدمرة؟ وهل تمتد الحرب إذا حدثت إلى مستويات إقليمية وعالمية؟ أم يكون التصعيد العسكري تمهيدا لإنهاء الحرب وبناء تسويات سياسية وإقليمية؟ كانت أوكرانيا أيضا قد أطلقت مجموعة صواريخ متوسطة المدى؛ أمريكية وبريطانية الصنع.
لم تكن الرسالة الروسية تهديدا سياسيا فقط، لكنها توضح أيضا أن صاروخ أوريشينك الذي أطلق يتحرك بسرعة تزيد على 12 ألف كيلومتر/ الساعة ولا يمكن تعقبه أو التصدي له، ويمكن أن يصل إلى مسافة 5 آلاف كيلو متر بعيدا عن محطة إطلاقه.
تعرف المجتمعات الشبابية الذكورية مقولة “راح المزح اجا الجد” على أنها قاعدة تطورية شبه حتمية. هكذا فقد دخلت الحرب الروسية الأوكرانية (ربما) مرحلة جديدة تجعل ما حدث منذ 2022 مجرد مزاح خشن، أو تمهيد لمرحلة حقيقية قادمة. وبالطبع كما هو شأن كل التحليلات السياسية فإن ذلك مجرد احتمال أو سيناريو، وهناك احتمال توقف الحرب وليس اشتعالها، وتجميد الأوضاع على ما هي عليه؛ لإفساح المجال للتفاوض؛ وذلك يفتح المجال لأكثر من سيناريو؛ العودة إلى ما قبل 23 شباط 2022 أو تسويات تتنازل فيها أوكرانيا وتمنح مكاسب جديدة لروسيا، وربما تتعرض روسيا لمخاسر وأزمات سياسية واقتصادية وعسكرية أيضا وبخاصة إذا ما زودت الولايات المتحدة أوكرانيا بصواريخ مدمرة بعيدة المدى تضرب قلب روسيا.
ربما تواجه أوكرانيا خطراً داخلياً كبيراً في تداعيات الحرب والصراع يؤثر على اتجاهات المواطنين والناخبين، بل والتماسك السياسي والاجتماعي في الحد الذي تستطيع فيه أوكرانيا أن تبقى دولة موحدة مستقرة
تعتمد تقديرات نتائج وسيناريوهات الصراع على الأضرار الاقتصادية والخسائر السكانية (قتلى ومصابين ولاجئين ومهاجرين) وتكاليف الحرب والردع والدفاع، وربما تواجه أوكرانيا خطرا داخليا كبيرا في تداعيات الحرب والصراع يؤثر على اتجاهات المواطنين والناخبين، بل والتماسك السياسي والاجتماعي في الحد الذي تستطيع فيه أوكرانيا أن تبقى دولة موحدة مستقرة. ثم سوف تخوض الدولتان (روسيا وأوكرانيا) في تحديات أصعب من الحرب نفسها لأجل بناء نمو اقتصادي ينهض بالمقومات الأساسية للدول والمجتمعات ويعوض خسائر الحرب (التعافي) إن النتائج الاقتصادية والاجتماعية للحروب أخطر من الحروب نفسها.

الحرب تلد حروباً أخرى، وللحرب فوائد أيضاً، وفيها مصالح للنخب الحاكمة والنافذة، إذ تنشئ تماسكاً اجتماعيا، وتأييداً للأنظمة السياسية وتمنحها شرعية إضافية، وتبرر القمع والفشل والاستبداد
ينزع السوسيولوجيون إلى تحليل سياسي مفاده أن الأمم تنزع نحو اختيارات عقلانية لأجل تفضيل وإحلال السلام والمصالح الاقتصادية والمعيشية، وبرغم صحة ومنطقية التحليل فإنه لشديد الأسف لا يفسر بكفاءة ما يحدث، ويخطئ كثيرا في تقدير المستقبل. فما يحدث غالبا هو صعوبة تقدير أو تخيل السلام في أثناء الحرب، فالحرب تلد حروبا أخرى. فالحرب لها فوائد أيضا، وفيها مصالح بالنسبة للنخب الحاكمة والنافذة، إذ تنشئ تماسكا اجتماعيا، وتأييدا سياسيا للأنظمة السياسية، وتمنحها شرعية إضافية، وتبرر القمع والفشل والاستبداد.
تبدو روسيا أكثر استعداداً للحرب من أوكرانيا وحلفائها، وأكثر قدرة على احتمالها والصبر عليها، وبخلاف أوكرانيا فلا يبدو بوتين يواجه أزمة شرعية أو سياسية
تبدو روسيا أكثر استعدادا للحرب من أوكرانيا وحلفائها، وأكثر قدرة على احتمالها والصبر عليها، وبخلاف أوكرانيا فلا يبدو بوتين يواجه أزمة شرعية أو سياسية، وإن كانت مسألة خلافته تفتح المجال لاحتمالات الفوضى والهشاشة السياسية. وأما أوكرانيا فإنها تبدو على المدى الطويل تفقد هويتها وقدرتها على الاستمرار، بعد هجرة أعداد كبيرة من مواطنيها إلى درجة تمنح نظرية المؤامرة قدرا من الصدقية والقبول، فأوروبا تحتاج إلى القوة العاملة الأوكرانية وترحب بها.

روسيا اليوم في حال من الزهو لا تقبل معه أقل من استسلام أوكرانيا وتحويلها إلى دولة رديفة لها، إذ تشكل نتائج أقل أزمة سياسية وانتخابية لنخبة النظام السياسي في روسيا
الحرب تسير إلى مزيد من التصعيد واحتمالات الاستمرار، إذ سوف تتم بعد ثلاثة أشهر ثلاث سنوات من عمرها، ويبدو أنها تزيد قوة وتعقيدا. وروسيا تبدو اليوم في حال من الزهو لا تقبل معه اقل من استسلام أوكرانيا وتحويلها إلى دولة رديفة لروسيا، إذ تشكل نتائج أقل من ذلك (تحول أوكرانيا إلى دولة محايدة على سبيل المثال) أزمة سياسية وانتخابية لنخبة النظام السياسي في روسيا.
الحرب تسير واقعيا باتجاه كونها حربا استنزافية طويلة الأمد، تخسر فيها روسيا كثيرا وإن كانت منتصرة على أوكرانيا، وقد توافق الدولتان بدعم عالمي على تجميد الصراع، فهما (روسيا وأوكرانيا) محتاجتان لإعادة بناء (تعافي) سياسي اقتصادي اجتماعي، وصيانة قواهما المستنفذة. قد يبدو ذلك استعدادا لأجل مزيد من القتال، لكنه قد يتحول إلى هدنة واقعية دائمة.
وفي حين تعزز روسيا في ظل تجميد الصراع مكاسبها والواقع الجديد الذي أنشأته الحرب؛ فإن أوكرانيا قد تستطيع بمساعدة الغرب أن تتحول إلى دولة أوروبية أطلسية تحظى بإصلاحات اقتصادية وسياسية كبيرة، وتهدد السيطرة الروسية على جزيرة القرم.

لكن روسيا بإطلاقها لصاروخ “أوريشينك” الخطير تبدو تسير بسرعة إلى حسم الحرب بهزيمة كبرى لأوكرانيا وتفرض عليها شروط الاستسلام الروسية؛ تغيير الحكومة التي تعتبرها روسيا نازية، ونزع سلاحها، والحياد السياسي والعسكري، وربما يحدث تقسيم فعلي أو واقعي لأوكرانيا. ويرجح أن أوكرانيا مستعدة لتنازلات إقليمية من أجل تقليل خسائر الحرب ونتائجها، وتخفيف الشروط الروسية، والرهان الاستراتيجي على عدم استقرار روسيا في المستقبل وعجزها عن الاحتفاظ بالتماسك السياسي والاجتماعي، وربما حدوث تمرد خطير يهدد سيطرتها الإقليمية. وقد تواجه حرب عصابات تهدد استمرارها في الحفاظ على المناطق التي استولت عليها.
يملك الأوكران دوافع معنوية تحررية ودفاعية عن بلادهم، وهو ما يفقده الروس الذين يبدون في نظر أنفسهم (إلى حدّ ما) ونظر العالم محتلين، وقد ينشئ ذلك تماسكا أوكرانيا وتفككا روسيا، وقد تصعد معارضة قوية لبوتين في استمرار حربه التوسعية، وبخاصة في ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية. لكن لم تظهر بعد مثل هذه المعارضة.

بدت هذه المسألة في صعود الوطنية الأوكرانية والقدر على التنظيم الذاتي للمناطق، مقابل ضعف الحماس الشعبي والجماهيري الروسي للحرب، لكنها حالة اجتماعية وتطوعية في أوكرانيا تحتاج إلى إمكانيات موسسية واسعة في التدريب والاستيعاب والتحول، ولا يبدو أن ذلك متحقق.
إذا طالت الحرب فإن ذلك لمصلحة روسيا أكثر من أوكرانيا، وهذا ما يدركه الغرب جيدا؛ ما يجعل خيارات حلفاء أوكرانيا بين حسم الحرب وبين تجميد الصراع والدخول في صراع سياسي وتفاوضي وحرب باردة
إذا طالت الحرب (يبدو هذا هو السيناريو المرجح والأكثر واقعية) فإن ذلك لمصلحة روسيا أكثر من أوكرانيا، وهذا ما يدركه الغرب جيدا؛ ما يجعل خيارات حلفاء أوكرانيا بين حسم الحرب (وهو احتمال مستبعد) وبين تجميد الصراع والدخول في صراع سياسي وتفاوضي وحرب باردة. وإذا حسمت روسيا الحرب عسكريا لصالحها فإنها في مواجهة حرب استنزاف طويلة سوف تحول النصر إلى هزيمة.
أخطر ما يمكن أن يضعف روسيا هو الحصار الاقتصادي والتكنولوجي، وبخاصة في مجالات ما زالت ضعيفة فيها وتحتاج الى الغرب؛ النفط والغاز والدواء والحواسيب وصناعة الشرائح المتقدمة والدقيقة
ربما يكون من خيارات الغرب تشتيت تركيز روسيا، بفتح جبهات ومعارك وصراعات جديدة تقلل من قدرتها على الحسم والبقاء مسيطرة في أوكرانيا، فقد تنشأ تحديات أمام روسيا في سوريا أو إيران أو في الجمهوريات الإثنية والعرقية الداخلية، لكن أخطر ما يمكن أن يضعف روسيا هو الحصار الاقتصادي والتكنولوجي، وبخاصة في مجالات ما زالت روسيا ضعيفة فيها وتحتاج الى الغرب؛ النفط والغاز والدواء والحواسيب وصناعة الشرائح المتقدمة والدقيقة. واما إذا نجحت روسيا في تخفيف الضغوط مع الاستمرار في حرب طويلة الأمد فإن أوكرانيا سوف تفقد مع الزمن رأسمالها الاجتماعي والاستمرار كدولة قادرة على أداء أدوارها وخدماتها الأساسية. وقد تنشب فيها حرب أهلية وإن كان الخطر الخارجي (روسيا) يقلل من احتمالات الانقسام الداخلي الخطير ويعزز التماسك الاجتماعي والسياسي.
إذا نجحت روسيا في تخفيف الضغوط مع الاستمرار في حرب طويلة الأمد فإن أوكرانيا سوف تفقد مع الزمن رأسمالها الاجتماعي والاستمرار كدولة قادرة على أداء أدوارها وخدماتها الأساسية
هل يحدث وقف إطلاق للنيران؛ يجمد الأوضاع القائمة لحظة الاتفاق؟ يعتمد ذلك على استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا؟ وموقف ترمب الرئيس الأمريكي المنتخب والذي سيباشر صلاحياته بعد أقل من شهرين، وتميل التحليلات السياسية إلى أنه سيطلب من الحلفاء تمويل مشاركته في الحرب، وتوزيع الأعباء، وقد يكون ينزع أيديولوجيا إلى وقف الحرب والمصالحة بين روسيا وأوكرانيا.

يبدو تجميد الحرب والدخول في التفاوض واقعيا بالنسبة لترمب وقد تقبل به أوروبا أيضا، فلا أحد سوف يأسف على زيلينسكي أو يشغله مكاسب معنوية وسياسية في أوكرانيا، تلك لعبة حزبية أوكرانية صغيرة. ويمكن لانتخابات جديدة في أوكرانيا أن تغير المزاج السياسي نحو القبول بالأمر الواقع، ولا عزاء للمهزومين من السياسيين والجنرالات، بل قد يتحولوا إلى مقصرين وخونة ويقدموا إلى المحاكم والسجون طويلة الأمد.
تميل التحليلات السياسية إلى أن ترامب سيطلب من الحلفاء تمويل مشاركته في الحرب، وتوزيع الأعباء، وقد ينزع أيديولوجياً إلى وقف الحرب والمصالحة بين روسيا وأوكرانيا
وسوف تعوض المساعدات السلمية الأوكران عن الهزيمة والمذلة، وقد تكون أوروبيا (مؤامراتيا) تريد أوكران ذليلين يسعون إلى العمل والهجرة، حتى زيلينسكي نفسه يمكن أن يلجأ إلى أوروبا ويعود للعمل في التسلية والترفيه.