نخبة بوست – كتب د. محمد أبو رمان (العربي الجديد)
ضمّ العدد الصادر أخيراً لمجلة الشؤون الخارجية الأميركية (Foreign Affairs) مقالين رئيسين عن موضوع الديمقراطية، الأول للباحث في مجال “النظرية الديمقراطية”، لاري دايموند، بعنوان “كيفية إنهاء الركود الديمقراطي: النضال ضد الأتوقراطية يحتاج دليل عمل جديد”، والثاني للاري بارتلز بعنوان “شبح الشعبوية: الأخطار على الديمقراطية تبدأ من الأعلى”، وهما مقالان متزامنان، بطبيعة الحال، مع فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية (يبدو أنّهما كُتبا قبل ذلك، بالرغم من أنّ العدد يغطي شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول 2024)، وصعود اليمين الأوروبي في عديد من البلدان الأوروبية، فضلاً عن ارتفاع منسوب النقاش النظري والأكاديمي العالمي حول ما اعتُبر أزمة الديمقراطية أو الديمقراطية الجديدة، بعدما بدت عوامل الانحطاط والتراجع والركود تعتري نظماً ومؤسسات ديمقراطية معاصرة عديدة!
يجادل مقال “شبح الشعبوية …” ضد الفرضيات التي ربطت الشعبوية بتحوّلات اجتماعية وثقافية في القاعدة، أو حتى بالأزمات الاقتصادية (خاصة الأزمة المالية العالمية 2008)، بينما يحيل بارتلز إلى عوامل متعلقة بالنخب اليمينية المحافظة، ويعطي الأهمية بدرجة أكبر للمسألة الثقافية على حساب الاقتصادية، لكنّه، في الوقت نفسه، يقلّل من شأن صعود الشعبويات، ويرى أنّها ظاهرة فوقية وليست متجذّرة، وهي مرتبطة، بدرجة كبيرة أيضاً، بالمبالغة والتهويل الإعلامي، بحيث تبدو أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، حتى مع الحالة الأميركية، يعود ويناقش الأسباب والسياقات التي أدّت إلى صعود ظاهرة “الترامبية” في أوساط الجمهوريين أولاً، ثم الانتخابات الأميركية الرئاسية في 2016.
يأخذ مقال دايموند درجة كبيرة من الأهمية الأكاديمية، لأنّ صاحبه أحد الدارسين الكبار في مجال التنظير الديمقراطي؛ وفيه إقرار بحالة الركود الديمقراطي، بل التراجع الكمّي في النظم الديمقراطية منذ العام 2005، تقريباً، بالرغم من طفراتٍ حدثت فيما بعد الحرب الباردة، والربيع العربي، الذي جرى إجهاده خلال الأعوام الأخيرة. ويصل دايموند إلى أنّ هنالك بالفعل مشكلة كبيرة اليوم، مرتبطة بتآكل المصداقية والثقة في المؤسّسات الديمقراطية في دول عديدة، وتراجع اهتمام (وحرص) المعسكر الليبرالي الديمقراطي الغربي بنشر القيم الديمقراطية وحماية الديمقراطية من الوقوع في فخّ السلطوية، في مقابل بروز قطبٍ عالمي يدعم النظم السلطوية، مكوّن بدرجة رئيسية من الصين وروسيا وإيران، ومعهم كوبا وكوريا الشمالية، من جهة، وضعف مصداقية الولايات المتحدة والغرب، بخاصة بعد حرب العراق 2003، واستخدام القوة العسكرية بذريعة نشر الديمقراطية.
يؤشّر دايموند إلى مفهوم إجرائي مهم يستخدمه الباحثان لوكان واي وستيفن ليفتسكي إلى الأنظمة السلطوية التنافسية (The Competitive Authoritarian Regimes)، وتكمن خطورة هذا النوع من الأنظمة أنّه يوحي وكأنّ هنالك ديمقراطية أو لعبة انتخابات، لكن في الحقيقة هي في إطار مضبوط ومؤطّر من السيطرة من النخبة الحاكمة، بالرغم من وجود أكثر من حزب، ومن وجود احتمالات للمعارضة بالفوز في مقاعد أكبر أو تحقيق قدر أكبر من الانتصارات، وهي الحالة التي تميّز النماذج العربية غالباً، إذا أردنا تصنيفها على مؤشّر الديمقراطية والسلطوية العالمية!
بعيداً عن الدليل الهشّ غير العميق الذي يقترحه دايموند لمواجهة حالة الركود الديمقراطي، فإنّ أكثر ما يثير الاستغراب فعلاً في هذا المقال الذي يأتي بعد عام على “طوفان الأقصى” وما تلاه من إبادة للشعب الفلسطيني في غزّة، من إسرائيل وبدعم أميركي، وما أثاره ذلك من حراك جامعي وشبابي ودولي، واهتزاز كبير في القيم الإنسانية والأخلاقية والديمقراطية العالمية، ذلك كلّه لم يأت البتة على سرده أو تحليله المؤلف، بالرغم من أنّه يشكّل الأزمة العالمية الكبرى في مدى مصداقية الخطاب الأميركي والغربي نحو الديمقراطية، ومدى الثقة فيه، فعن أيّ ديمقراطية يمكن أن تتحدّث الإدارات الأميركية مع الشعوب العربية والمسلمة ومع جيل الشباب، الذي، كما يقرّ تقرير مسرّب من السفارة الأميركية في الأردن، لوزارة الخارجية الأميركية، بأنّ الأميركيين قد خسروه بسبب مواقفهم في حرب الإبادة في غزّة!