نخبة بوست – في كل سنة، تتحول ذكرى استشهاد وصفي التل رئيس الوزراء الأردني الأسبق وأحد أهم الشخصيات السياسية في تاريخ الدولة إلى مناسبة إعلامية وسياسية وطنية تثير اهتماما كبيرا لا يتعلق فقط بكبار السن الذي عايشوا الشهيد رئيسا للوزراء بل أيضا نسبة كبيرة من الشباب الذين سمعوا به وقرأوا عنه ولكنهم يعتبرونه رمزا. لم يحظ أي سياسي أردني حكومي بهذه المكانة وربما لن يحظى غيره بها وأسباب ذلك متعددة ومنطقية.
حياة وصفي التل السياسية تضمنت خمسة قيم ربما كانت أساسية في المنظومة التي بنت الدولة الأردنية قبل عقود، ولكنها باتت الآن نادرة الإكتمال في شخص واحد. قد نجد بعض القيم موجودة لدى الكثيرين من السياسيين ورجال الدولة ولكن المجموع الكلي لها لم يعد متواجدا إلا بشكل نادر.
القيمة الأولى هي الإيمان القطعي والمطلق بالدولة الأردنية. لا مجاملة ولا مهادنة ولا أنصاف حلول. وصفي التل كان خط الدفاع الأول عن الدولة سياسيا وإعلاميا ولم يتأخر أو يتوانى يوما عن إظهار هذا الموقف بكل قوته. وعندما كان خارج الحكومة والمناصب الرسمية لم يطعن الدولة في ظهرها ولم يشارك في مزاد العرض والطلب السياسي الذي كان سائدا في منتصف القرن بين التيارات المختلفة التي تصارعت على السلطة. في تلك الأوقات، كان ثمن الولاء للدولة أعلى من المكاسب، وكانت المعارضة أكثر شعبية من الدفاع عن الدولة ولكن وصفي التل اختار موقفا واحدا ولم يتاجر به.
القيمة الثانية هي الشجاعة. منذ اللحظة التي دافع فيها عن ظلم لحق بوالده الشاعر الكبير مصطفى وهبي التل وكان ثمنه السجن ثلاثة اشهر، وفي الموقف الذي إصطدم به مع الرئيس السوري حسني الزعيم وأمضى ثلاثة اشهر أخرى في السجن، إلى إندفاعه الفوري في الإنضمام إلى جيش الإنقاذ والدفاع عن فلسطين ضد العصابات الصهيونية إلى شجاعته في تحمل مسؤولية صعبة تردد الكثيرون في حملها للدفاع عن الدولة مقابل الفوضى انتهاء بشجاعته في الذهاب إل القاهرة التي خاض ضدها حملات سياسية وإعلامية كبيرة دفاعا عن الأردن، ليسقط شهيدا برصاص الغدر بالرغم من كل النصائح الأخوية بعدم السفر.
القيمة الثالثة هي النزاهة، والتي قد تكون من أهم القيم المرتبطة بالشهيد. الحنين إلى تراث وصفي التل هو حنين أردني إلى قيم النزاهة، والتي جسدها وصفي التل عندما عاش متواضعا وبسيطا وقريبا من الناس. كما كان وصفي التل أبرز رؤساء الوزراء الأردنيين في محاربة الفساد في عصره، ولم يجمع بين السياسة والتجارة والمصالح الخاصة ، ولا بين الشركات والاستثمارات بل بقي دائما بتواضعه الأردني المعروف وبقي وفيا لمهامه السياسية وحبه للدولة الأردنية ، وبالنسبة إليه كان منصب رئيس الوزراء تكليفا ومسؤولية، حملهما بشجاعة إلى اليوم الأخير.
القيمة الرابعة هي التنمية والأرض والإنسان. وصفي التل هو من أهم الدوافع التي حركت مسار التنمية في الأردن وخاصة التعليم والزراعة والتنمية الريفية، وهي قيم تراجعت كثيرا في أوقات شهدت سياسات اقتصادية تركز على المظاهر بدلا من المضمون.
القيمة الخامسة كانت العقلانية والواقعية. مراجعة المقالات والدراسات التي كتبها وصفي التل عن الصراع العربي الإسرائيلي تظهر مدى ابتعاده التام عن التلاعب العواطف والمشاعر والتركيز على التخطيط الاستراتيجي وعدم التسرع. وهكذا أيضا كانت توجهاته المعروفة بتقديم النصيحة بعدم المشاركة في حرب 1967 والتي كان من الصعب تقبلها سياسيا نتيجة الموجة العاطفية السائدة، ولكن الأيام اثبتت مدى صحتها عسكريا واستراتيجيا.
تبقى نقطة في غاية الأهمية والحساسية، من الظلم والخطيئة أن يقوم البعض من منطلق المحبة والحنين لتراث وصفي التل أن يستخدموا إسمه وتاريخه في خطاب إقليمي ضيق الآفاق بدأ يظهر السنوات الماضية. وصفي التل كان قوميا وطنيا حتى النخاع وحارب بنفسه ضد العدو الإسرائيلي ولكنه كان يرفض التضليل والتلاعب بالعواطف وحملات التحريض على الأردن التي كانت تقودها الناصرية والقومية في الخمسينات والستينات بالذات، كما رفض سيادة نظام الفوضى على نظام الدولة. وصفي التل كان نقيّا من الإقليمية ويجب أن تبقى ذكراه كذلك.