* نحتاج إلى عقد اجتماعي جديد، يضمن بالإضافة إلى الحريات العامة والعدالة الاجتماعية؛ وجود قيادات اجتماعية جديدة تؤدي رسالة المجتمعات الجديدة بنزاهة وكفاءة
* الطبقات الوسطى تحوّلت إلى التحالف الفاسد وغير المشروع في كثير من الأحيان مع أصحاب العمل بدلا من أن تكون الحصن الطبيعي لحماية جميع المواطنين وخاصة الفقراء
* مع الإغراق الذي يتعرض له العالم في محتوى يغلب عليه الضرر والتلوث الأخلاقي والذوقي؛ تحتاج الأمم بجميع مكوناتها أن تتوافق لردّ الاعتبار للمعارف والمهارات الأساسية في العلم والحياة والثقافة
* يمكن الملاحظة كيف أن الطبقات الفقيرة مشبعة بالتعليم الديني، في حين أن أبناء الطبقات الوسطى يدرس معظمهم إن لم يكن جميعهم في مدارس خاصة لا يقدم كثيرٌ منها تعليماً دينياً
* ما يحتاجه الفقراء وعي مهني وتعليمي وتنظيم نقابي ومطلبي باتجاه تحسين حياتهم، والقدرة على التفاوض والتأثير، وليس تعميق الفجوة الاجتماعية والشعورية بين طبقات الأمة ومؤسساتها
* العلاقة بين المثقف والسلطة أحد الإشارات والأمثلة التقليدية لملاحظة الصواب والخلل في دور الطبقات وتبدلاتها وانتقال الأدوار والمسؤوليات من طبقات مختصة إلى أخرى ليست مؤهلة ولا قادرة
نخبة بوست – كتب: إبراهيم الغرايبة
تقع كل يوم حوادث وأمثلة صغيرة أو كبيرة تؤشر إلى الاختلال الكبير في رسالة وتراث الطبقات الاجتماعية والمهنية والمؤسسات الاقتصادية والخدمات، وأظن أن ذلك يؤشر إلى مسألة جوهرية في فهم كثير من مواضع الخلل في المشهد الاقتصادي والاجتماعي السائد اليوم.
تقدم الطبقة الوسطى تقليديا (يفترض) القيم الأساسية المنضبطة والدقيقة لتنظيم العمل والعلاقات في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فهي الأمينة على التراث العام؛ السياسي والثقافي والاجتماعي والديني على النحو الذي يشكل التيارات السياسية والأيديولوجية والمفاهيم والمبادئ والأفكار الأساسية التي تحكم وتنظم اتجاهات ومواقف النقابات المهنية والأحزاب السياسية، وثقافة وتقاليد عملها، هكذا فإن الأمم وعلى اختلاف طبقاتها ومكوناتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية تسترشد بالطبقة الوسطى، وبذلك تساعد النخب والطبقات الغنية والمتنفذة على ترشيد سلوكها وثقافتها مقتدية بالطبقة الوسطى، وترقى بالطبقات والفئات الاجتماعية والحرفية الأقل ثراء أو تعليما لتكون أفضل في سلوكها الاجتماعي وفي محاولتها لتحسين مستواها المعيشي والاجتماعي والثقافي.
وفي ذلك تكون الطبقات الوسطى محضن الاتجاهات السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، وأما الطبقات والمجتمعات العاملة أو منخفضة الدخل فإنها ترشد المجتمعات والطبقات إلى المطالب العادلة والمساواة والتوزيع الصحيح للموارد والخدمات، وتؤثر في اتجاهات السياسات والتشريعات والموازنات والموارد والضرائب لتكون أكثر عدالة ورحمة وأكثر كفاءة، فهي بطبيعتها احتجاجية مباشرة، تحكمها المطالب والأولويات والاحتياجات الأساسية بما هي كذلك من غير إطار ديني أو أيديولوجي أو سياسي.
يحدث الخلل عندما تتحول الطبقات الوسطى إلى احتجاجية؛ مخالفة لطبيعتها وتراثها، فتلجأ مثلا إلى الإضراب أو السلوك التعطيلي للمؤسسات والحياة اليومية والخدمات والمعاملات والعلاقات، على سبيل المثال ما قامت بها نقابة الأطباء مؤخرا، ونقابة المعلمين في 2018، أو ما تقوم به مؤسسات اقتصادية كبرى من استخدام وسائل الصغار في التسويق والتحصيل كأنها بائع متجول مجهول الهوية أو مشرد يبيع على الإشارات الضوئية، أو ما تقوم به الإدارة البيروقراطية للمؤسسات الحكومية في ابتزاز المواطنين أو معاقبتهم بسبب أخطاء غيرهم، مثل تعطيل المعاملات لتكتمل شروط أخرى خارجة عن إرادة ومسؤولية المواطن، فيصير من مسؤوليته مثلا عندما يريد أن يشغل عقارا أن يدفع غيره فواتير الماء والكهرباء أو يستكمل مالك العقار شروط الترخيص والضرائب، أو يدفعها هو بنفسه، فينجو المخالف ويعاقب الملتزم، وتفرح الحكومة أنها حصلت على المال، أو التأخير والمماطلة في ردّ الضرائب برغم التشدد في تحصيلها.
على المستوى السياسي والأيديولوجي يتعرض التشكيل الطبقي للخلل عندما تحمل الطبقات أيديولوجيات أو وظائف اجتماعية ودينية وثقافية لا تتفق مع طبيعتها ودورها وإمكانياتها واستعداداتها. يمكن الملاحظة اليوم كيف أن المجتمعات والطبقات الطرفية والفقيرة مشبعة بالتعليم والسلوك الديني، في حين أن أبناء الطبقات الوسطى الذين يدرس معظمهم إن لم يكن جميعهم في مدارس خاصة لا تقدم (كثير منها) تعليما دينيا.
هكذا ففي حين يفترض أن التعليم والوظائف الدينية هي مدينية الطابع والبيئة تغيب عن مجالها، ويحمل أبناء الفقراء والريف ثقافة دينية وتأهيلا دينيا لا مجال له في بيئة وظائف وأعمال قائمة أساسا على التماسك العملي والشعور الجمعي بالفقر والفجوة مع الأغنياء فيكتسب الغضب والتهميش والسلوك الاجتماعي مزيدا من المشاعر والأفكار الدينية، ويتحول العمل المطلبي والنقابي إلى تعصب ديني وعزلة اقتصادية اجتماعية، في حين أن ما يحتاجه الفقراء وعي مهني وتعليمي وتنظيم نقابي ومطلبي باتجاه تحسين حياتهم، والقدرة على التفاوض والتأثير على المؤسسات العامة والشركات وموردي الخدمات والسلع، وليس تعميق الفجوة الاجتماعية والشعورية بين طبقات الأمة ومؤسساتها.
ويلاحظ أيضا حدوث ازدواجية خطيرة في الأفكار والمتطلبات الوظيفية والعملية، ففي حين تشكل هذه المجتمعات والفئات الخزان البشري والتنظيمي لمؤسسات الدولة العامة فإنها تتحول إلى جيوب ومحاضن للتعصب الديني والعشائري والجهوي يؤثر على طبيعة الأعمال والمؤسسات ويلحق ضررا بطبيعتها البالغة الحساسية والقائمة أساسا على الانتماء الوظيفي والوطني العام.
الطبقات الوسطى تحولت إلى التحالف الفاسد وغير المشروع في كثير من الأحيان مع أصحاب العمل بدلا من أن تكون الحصن الطبيعي لحماية جميع المواطنين وخاصة الفقراء منهم من تغول السلطات والشركات وأصحاب العمل ورؤوس الأموال.
تعتبر العلاقة بين المثقف والسلطة أحد الإشارات والأمثلة التقليدية لملاحظة الصواب والخلل في دور الطبقات وتبدلاتها وانتقال الأدوار والمسؤوليات من طبقات مختصة إلى أخرى ليست مؤهلة ولا قادرة، فيكون الأمر مثل اشتغال الأطباء بالفتوى والمهندسين بالاحتفال بالإسراء والمعراج والمشتغلين في الدين إلى نشطاء ومنظرين سياسيين واقتصاديين.
منذ بدأ الاستقرار البشري يتحول من طابعة القروي والعشائري إلى مدن أكثر تنظيما وتعقيدا كان المثقفون يحمون وينظمون المدن والطبقات المدينية، لكن العلاقة اليوم ومنذ التغير العميق الذي أصاب الدولة المركزية والأسواق والأعمال والسلع والمعارف تحتاج إلى إعادة تفكير وتقييم.
صار تعريف المثقف بما هو “العارف الذي يتحرك بمعرفته اجتماعيا” يحتاج إلى مراجعة وتقييم، لأنها رسالة أسندتها “الشبكية” إلى جميع الناس، ولم يعد يتميز بها أحد، ولعل الرسالة الاجتماعية التي يحتاجها العالم اليوم هي العناية بالذكاء والتفوق والإبداع وأن يكون المبدعون والأذكياء في مكانهم الصحيح، أو هي الحريات والعدالة الاجتماعية التي تضمن تفويض المتفوقين في اكتشاف المرحلة والغموض الذي يسود العالم اليوم. ويحتاج ذلك بالتأكيد إلى عقد اجتماعي جديد، يضمن بالإضافة إلى الحريات العامة والعدالة الاجتماعية وجود قيادات اجتماعية جديدة تؤدي رسالة المجتمعات الجديدة بنزاهة وكفاءة.
مازالت مشكلة الحريات والعدالة الاجتماعية من أهم الإشكاليات والخلافات بين السلطات والمجتمعات، ومن ثم فإن دور المثقف وتقييمه يتحدد بانحيازاته واتجاهاته في هذين المجالين بغض النظر عن موقعه ودوره الذي يشغله سواء كان في مؤسسات السلطة أو خارجها، لكن تتشكل تحديات مشتركة بين السلطة والمجتمع تحتاج إلى تعاون وعمل مشترك بغض النظر عن المواقف السياسية والتأييد أو المعارضة؛ إذ يمكن أو يجب الجمع بين اختلاف المواقف السياسية وتوافق الرسالة الثقافة والاجتماعية.
ففي الإغراق الذي يتعرض له العالم في محتوى يغلب عليه الضرر والتلوث الأخلاقي والذوقي؛ تحتاج الأمم بجميع مكوناتها (الأفراد والمجتمعات والجماعات والطبقات والسلطات والأسواق والأعمال والمهن) أن تتوافق لردّ الاعتبار للمعارف والمهارات الأساسية في العلم والحياة والثقافة، وأن تدير مستوى متقدما للتعليم يقدم المعرفة الكافية والمهارات العامة والإبداعية التي تضمن للأجيال حيازة المعارف والمهارات والقيم الأساسية والمتقدمة ، وأن يتفاوت الناس في منزلتهم ووظائفهم ومكتسباتهم حسب قدراتهم المعرفية والقيمية على أن يجري ذلك في تنافس عادل.
لكن أيضا يجب الاعتراف بأن العلاقة بين السلطة والمثقف أكثر إشكالية وتعقيدا من العرض السابق، فلا يمكن عمليا الاستقلال أو الحياد بين السلطة والعلم، وفي الوقت نفسه يجب أن تكون العلاقة مستقلة ونزيهة، ومن الواضح أنهما مطلبان متناقضان، فالسلطة ليس في مقدروها العمل من غير غطاء معنوي يجمع الأمة حولها، ومن غير معرفة علمية تمنحها الكفاءة. مسألتا الكفاءة والمشروعية في السلطة وعلاقتها بالمجتمع تحكم التاريخ!
يتساءل عبد المجيد الصغير في كتابه “المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية” كيف يجوز تقويم العلم دون أن نضع في الاعتبار دور السلطة السياسية كإطار اجتماعي؟ وإذا أمكن لرجل السياسة الاستحواذ على “أجساد المحكومين” فكيف تسلم “عقولهم” وينجو إنتاجهم المعرفي من تأثيره وتوجيهه؟
يملك العالم أو الفيلسوف أو المفكر بوجه عام القدرة على النقد والتأثير والتوجيه، وبرغم أنه لا يملك السلطة فإن معرفته سلطة، وبالتالي فهو ينافس رجل السياسة، أو يكون هدفا له لأجل امتلاك السلطة الشرعية؛ هي بالطبع مسألة معقدة ومتحولة، لكنها دعوة للتفكير في ظاهرة انشغال الطبقات بغير رسالتها.