نخبة بوست – بقلم: سهم محمد العبادي ( الكاتب والصحفي)
كان للأردن في العقود الماضية نخبة سياسية وفكرية تُشكّل العمود الفقري لاتخاذ القرارات وتوجيه السياسات، هذه النخب كانت تتمتع بالكفاءة العالية والخبرة الطويلة والرؤية الاستراتيجية، مما جعلها محل ثقة الشعب والقيادة.
عند الإعلان عن شغور أي منصب حكومي، سواء كان رئيسًا لوزارة أو عضوًا في مجلس الأعيان أو حتى منصب إداري في مؤسسة حكومية، كانت الأسماء المطروحة دائمًا أسماء ذات ثقل معرفي وشعبي.
لم يكن اختيار القادة والنخب مسألة عشوائية، بل كان يعتمد على تقييم واضح للأداء السابق والقدرة على إحداث تغييرات إيجابية، حتى على المستوى الخارجي، كان الوزراء والرؤساء الأردنيون يُعرفون بقدرتهم على بناء علاقات دولية قوية تعزز مكانة الأردن وتخدم مصالحه، كانت النخب مؤثرة في كل القضايا الوطنية والإقليمية، وتُحدث فرقًا في السياسات الداخلية والخارجية.
اليوم، يبدو المشهد مختلفًا تمامًا، مع شغور أي منصب، نجد أن الخيارات المتاحة محدودة جدًا، إن لم تكن معدومة.
لم يعد بالإمكان ترشيح أسماء تتمتع بالكفاءة العالية كما كان في الماضي، حتى على مستوى الحديث عن تشكيل الحكومات أو اختيار أعضاء في مجالس الأعيان والنواب، أصبحت الخيارات تثير التساؤلات أكثر مما تُطمئن.
هذا التراجع لا يقتصر فقط على المناصب الكبرى، بل يمتد حتى إلى المناصب الإدارية البسيطة، يبدو أننا انتقلنا من البحث عن الأفضل والقادر، إلى القبول بـ”أحسن الأسوأ”.
جزء كبير من الأزمة الحالية يتعلق بطبيعة النخب الجديدة، التي يبدو أنها تفتقر إلى الحس الوطني والشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع، عوضا عن أن تكون هذه النخب قائمة على الكفاءة والخبرة، أصبحت تُعبر عن مصالح شخصية أكثر من كونها نخبًا وطنية حقيقية.
اليوم، نجد بعض من يطلقون على أنفسهم “نخبًا” مهمتهم الأساسية هي تزكية أنفسهم للمناصب والعمل على إرضاء الجميع لضمان بقائهم أو ترقيهم في السلطة بغض النظر عن قدرتهم على تحقيق تغيير حقيقي، يقول أحد المراقبين “هذه النخب أصبحت تهتم بالمكاسب الشخصية، ولا تملك رؤية لخدمة الوطن أو تحسين حياة المواطنين.”
المشكلة الأكبر أن هناك شخصيات تسعى جاهدة لتلميع نفسها على حساب الوطن، بالنسبة لهؤلاء، المناصب والألقاب أصبحت هدفًا بحد ذاتها، وليس وسيلة لخدمة الوطن وتحقيق التنمية.
ما يحدث هو أن عقدة الألقاب لدى البعض تدفعهم إلى ممارسة كل أنواع التملق والبحث عن الأضواء لتثبيت أنفسهم كـ”قيادات”، حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة، هذه الفئة لا تهتم ببناء الوطن بقدر اهتمامها بتسجيل أسمائها في قائمة المناصب والمواقع المرموقة، مما يُضعف الثقة الشعبية، ويؤثر سلبًا على الأداء العام.
غياب النخب الحقيقية لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة لتراكمات عدة، من أهم هذه التحديات غياب البيئة الداعمة لتطوير القيادات والكفاءات الشابة وتركيز النظام العام على الولاءات بدلًا من الكفاءات وانشغال الأفراد بمصالحهم الشخصية بدلًا من المصلحة الوطنية وضعف التعليم والتدريب الذي يخلق جيلًا قادرًا على التفكير الاستراتيجي.
في الوقت الذي تفتقر فيه الساحة الأردنية إلى القيادات الجديدة، نجد أن العديد من الدول الأخرى تعمل على صناعة قادتها من خلال توفير الدعم الكامل والتدريب اللازم، هذه الدول تستثمر في تطوير مهارات الأفراد وإثراء معارفهم عبر برامج تدريبية متقدمة، ومنح تعليمية وفرص لاكتساب الخبرات.
الهدف الأساسي من هذا الاستثمار هو إعداد كوادر قيادية جاهزة لخدمة الوطن في اللحظات الحرجة وضمان وجود قاعدة من القيادات القادرة على تحمل المسؤولية في أي وقت، فهذه الاستراتيجية تضمن استمرارية الدولة وتماسك مؤسساتها.
أمام هذا المشهد، لا يمكن للأردن أن يستمر دون رؤية واضحة لصناعة نخب جديدة قادرة على تحمل المسؤولية في ظل التحديات الإقليمية والمحلية المتزايدة، فهذه النخب لا يمكن أن تُخلق بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى برامج حقيقية لبناء القدرات وتعزيز التعليم ودعم الكفاءات الشابة مع التركيز على اختيار الأشخاص بناءً على مهاراتهم وإمكاناتهم بدلًا من الولاءات والعلاقات، يقول أحد المحللين “لا يمكن بناء المستقبل دون وجود قادة مؤهلين يمتلكون رؤية وطنية وقدرة على اتخاذ قرارات تخدم البلاد.”
غياب النخب الحقيقية في الأردن اليوم هو أزمة يجب التعامل معها بجدية، لا يمكن للبلاد أن تعتمد على “أحسن الأسوأ” في شغل المناصب، بل تحتاج إلى استعادة تقليدها القديم في اختيار القادة بناءً على الكفاءة والقدرة على تحقيق التغيير الإيجابي.
صناعة النخب ليست ترفًا، بل هي ضرورة لضمان استمرارية الدولة في مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة.
استعادة النخب الأردنية لا تعني فقط استعادة أسماء مؤثرة، بل استعادة قيم القيادة الحقيقية التي تضع الوطن فوق كل اعتبار.
بناء المستقبل يبدأ من الآن، والمسؤولية تقع على الجميع لإعادة إحياء روح القيادة الوطنية.