نخبة بوست – يروى أنه وفي سياق تأسيس الدولة الأردنية الحديثة، اجتمع وجهاء وشيوخ قبائل شرقي الأردن آنذاك، وتداولوا في أمر الدولة ومالها من حقوق وما عليها من واجبات، فكان من أول ما توافقوا عليه هو أن استخدام العنف هو حق حصري وشرعي للدولة، وقد عبروا عن هذه الفكرة المهمة في مسألة بناء الدول، بعرف عشائري ينص على أن ((الدولة سيفها ظافي، وقتيلها هافي))، فلا تطلب الدولة بدم ولا ثأر، ولا يرفع بوجهها سلاح.
وما فعله أجدادنا بالضبط هو ما تحتاجه الدول حقاً لبنائها ثم لحماية هذا البناء وصيانته، ويعد مبدأ حصرية استخدام العنف الشرعي في الدولة ولأجهزة الدولة ركيزة أساسية من ركائز الفلسفة السياسية الحديثة، وهي ذات علاقة مباشرة بنظرية العقد الإجتماعي التي باشرنا الحديث عنها في المقال السابق، فهذا العقد الإجتماعي الذي انتقل من خلاله الأفراد من حالة الطبيعة –حالة ما قبل الدولة- وما تشتمل عليها من فوضى وصراع وحرب الكل ضد الكل على حد وصف توماس هوبز، الى حالة الدولة وما تعنيه من سلم واستقرار وحماية للحقوق، من خلال السلطة السياسية التي امتلكت وحدها وبشكل حصري حق استخدام القوة، لحماية الأمن والنظام العام، وحقوق الأفراد.
وهذه الفكرة المحورية في بناء الدولة الحديثة نجدها أوضح ما تكون عند الفيلسوف وعالم الإجتماع الألماني الكبير ماكس فيبر ) 1864 – 1920 )، فمفهوم “العنف الشرعي” (Legitimate Violence) هو أحد الأفكار المحورية في نظرية ماكس فيبر حول الدولة والسلطة. فهو يعرف الدولة بأنها : ” الكيان الذي يحتكر الاستخدام الشرعي للقوة ضمن نطاق جغرافي معين.”
وهو بذلك يرى أن الدولة هي الجهة الوحيدة التي تمتلك الحق في استخدام العنف بشكل شرعي، سواء كان ذلك مباشرة من خلال الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية، أو بشكل غير مباشر من خلال القوانين التي تسود على الجميع لضمان استقرار الدولة والمجتمع.
وهنا لا بد من توضيح مسألة مهمة وهي معنى الشرعية والمشروعية في استخدام العنف، فالشعب نفسه الذي دخل في هذا العقد الإجتماعي، هو الذي منح السلطة وأجهزة الدولة هذه المشروعية والحصرية في استخدام القوة، فالشعب إذا هو مصدر هذه الشرعية، ولا يجب أن تمارس إلا بموافقته والمتمثلة في أطار القوانين والتشريعات النافذة التي وضعتها السلطة التشريعية التي تمثل الشعب في النظام السياسي للدولة.
ولذلك فإن الشعب يحتفظ بحق مراقبة استخدام العنف من قبل الدولة والتأكد من انه يتم وفق التشريعات والقوانين السارية، بدون تعسف ولا بغي، وبما لا يتعارض من منظومة الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها المواطنون.
وهذا ما يؤكد عليه فيبر نفسه إذ يعتبر أن استخدام الدولة للعنف ليس كافيًا بحد ذاته للحفاظ على الشرعية؛ بل يجب أن يكون هذا العنف مبررًا ومقبولًا من قبل المجتمع، كما يؤكد على أن فقدان الشرعية يؤدي إلى المقاومة أو الثورات ضد السلطة.
وبناء عليه فإن التطبيق الأمثل للفكرة يتطلب الموازنة دوما في العلاقة بين السلطة والقوة، وكيفية موازنة استخدام القوة مع احترام الحقوق والحريات.