نخبة بوست – كتب: مراد بطل الشيشاني ( العربي الجديد)
قد يبدو لبعضهم أننا نطوي صفحة غزّة وجنوب لبنان لنفتح الملفّ السوري في هذا الشرق الأوسط المتخوم بصراعاته السياسية، وكأنّ قدر المنطقة أن تتنقل من صراعٍ إلى آخر، لكنّ هذا الشرق الأوسط أيضاً تتشابك فيه العلاقات والصراعات بشكل كبير، ولعلّ في السَنَة وأزيد، الدموية الماضية، كثير يروى عن تلك التشابكات، إحداها حال الجماعات الإسلامية السنّية المقاتلة.
بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، أعادت حركة حماس، بنظر المتعاطفين، الاعتبار للمجموعات الإسلامية المحلّية أو الوطنية المقاتلة، على حساب المجموعات الإسلامية الجهادية العالمية أو العابرة للحدود، ومثالها الأبرز طبعاً “القاعدة”، وتنظيم ما يعرف بـ”الدولة الإسلامية” (داعش)، وهذه كانت (وما زالت) تعيش حالةَ ضعف وإنهاك من “الحرب على الإرهاب”، وضربات “التحالف الدولي ضدّ داعش”، على التوالي خلال العقدَين الماضيَين.
وكانت النماذج التي تُعدّ، بعد السابع من أكتوبر، من الجماعات الإسلامية المحلّية المقاتلة، تلك التي ترتبط بإيران، إمّا عضوياً مثل حزب الله في لبنان، أو إدارةً مثل الفصائل العراقية المسلّحة، أو تحالفاً يرتبط بملفّ جغرافي محدّد (الخليج)، وهنا أنصار الله الحوثيون، أو تحالفاً ودعماً تكنولوجياً كما في حالة “حماس”، الوحيدة المفارقة مذهبياً لإيران. خارج تلك المجموعات، وفي الجانب السنّي لم تكن تُذكَر نماذجُ كثيرة، لعلّ أشهرها حركة طالبان، وهناك مجموعة “أنصار الدين” في مالي بعلاقتها الملتبسة بتنظيم القاعدة، ولكنّ النموذج الأبرز هو تنظيم هيئة تحرير الشام، الذي عُرِف بشكل أشهر باسمه الأول “جبهة النصرة”، والذي شكّل تعبيراً عن تحوّلٍ من الجهادية العالمية إلى المحلّية، وإظهار القدرة على إدارة حكم محلّي بطريقة براغماتية، كما في إدلب، ومناطقها المحدودة جغرافياً، لا بل إنها شنّت حملات داخلية في إدلب والشمال السوري بمنطق “الحرب على الإرهاب”، باستهداف جماعات مناوئة، ولا أدلّ على هذا التغيّر أكثر من شخصية قائد الهيئة أبو محمد الجولاني، بانتقاله من الزيّ التاريخي الأفغاني أو البزّة العسكرية إلى البدلة الرسمية، وتقديم نفسه لاعباً سياسياً، وليس زعيم مجموعة مسلّحة.
يلعب ضرب (أو تراجع) إيران وحلفائها دوراً أساساً في رسم استراتيجية تقدّم قوات المعارضة في سورية وصولاً إلى حلب وحماة، والأكثر أهمية أن مثل هذا التقدّم يُعلي من قيمة المجموعات الإسلامية المحلّية المقاتلة وتأثيرها، ونتحدّث بصيغة الجمع باعتبار أن هيئة تحرير الشام ليست اللاعب الأوحد في هذا التوسّع، لكنّه قد يكون الأكثر أهميةً، وتحالفه مع المجموعات الثورية الأخرى، ومجموعات “الجيش الحرّ”، تعبّر عن ذلك التحوّل.
لكنّ قياس قدرة هذا التوسّع على الاستمرار والسيطرة على مناطق يسيطر عليها النظام السوري، والحفاظ عليها (أو إدارتها)، سيقيّد اختباراً أساساً لنجاح هذا النموذج، الذي دخل في مواجهات مع التيّار العالمي من المسلّحين الإسلاميين، وفي الحالة السورية فإن هذا التقدّم العسكري قد يشبه (إلى الآن)، وهو أمر مبكّر، بنموذج استعادة غروزني عام 1996، حين نفّذ المقاتلون الشيشان عمليةَ استعادة عاصمتهم من القوات الروسية، بدخول المدينة من أطرافها كافّة في ساعة صفر، مسجّلين هزيمةً مذلّةً لتلك القوات، وكان ذلك النصر عاملاً أساساً في دفع روسيا إلى التفاوض مع المقاتلين الشيشان، والاعتراف بفترة انتقالية للاعتراف بدولتهم المستقلّة، لتجري خلالها العمليات الاستخباراتية كلّها، ونسج التحالفات الجديدة، وتعبيد الطريق أمام المجموعات المتطرّفة لتشنّ بعدها حرباً دموية، تنهي أمل الشيشانيين بالاستقلال عن روسيا، ولو إلى حين.
وبالتالي، في الحالة السورية، مسألة السيطرة على الأرض مرهونةً بردّ النظام العسكري، وحلفائه من الإيرانيين، والأكثر أهميةً الروس، ولعلّ الفرصة سنحت لقوات المعارضة بحكم الضغط الواقع على إيران، وخلافات طهران مع نظام الأسد، وانشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، رافعةً حصص تركيا من النفوذ، وهذا شأن آخر.
وبالتالي، قدرة القوات على بسط النفوذ مرهونة بقبول الحواضن الشعبية، ولعلّ هذا يذكّر بنموذج طالبان (مثالاً آخرَ على الإسلامية المحلّية)، إذ نشرت “نيويورك تايمز” تقريراً يلقي الضوء على إشادات لعائدين أفغان، رغم استمرار طالبان في فرض قوانينها المتشدّدة خاصة ضدّ المرأة، بحال الأمان والهدوء في البلاد (وهذا كلام سمعناه مرّات سابقة حين حَكَم الإسلاميون وانقلبت البلدان حالةً من الفوضى في أكثر من مكان، بما فيها أفغانستان تحت حكم “طالبان”)، لكنّ الجديد أن الإسلامية المحلّية السنّية تقدّم الآن نموذجاً عن التحوّل من التفكير مجموعةً مسلّحةً إلى إدارةً للدولة، وطبعاً، لا ضمانة أنها ناجحة، لكن يبدو أن هذا طريق اتخذته بعد فشل محاولات سابقة من إسلاميين آخرين، لكنّها فرصة البقاء الآن، ومختبرها على ما يبدو سورية.