نخبة بوست – أصبحت هناك أغلبيةُ رأيٍ تتشكّل لدى العامة أنَّ الأحداثَ الحالية ما هي إلّا مخططٌ تمَّ نسجُ خيوطه بدهاءٍ وكيدٍ ماهرٍ، اعتمد على الغباء السياسي للآخر الذي وقع فريسةً في خيوطه، فوقعت المنطقةُ ضحيةَ الهواةِ تحت وطأة وحشية الطغاةِ الغزاةِ الذين وجدوا ذريعةً للقيام وتنفيذ ما خططوا له بغطاءٍ من الشرعية الممنوحةِ لهم وكاملِ الصلاحيةِ للقيام بجرائمِ الإبادة الجماعية وتغييرِ ملامحِ المنطقةِ الجغرافية، بمساعدةِ ماكينةٍ غربيةٍ وعربيةٍ إعلامية تعمل على تغييبِ حالةِ الوعي السياسي العربي، وتزرع في اللاوعي أماني الانتصار والصمود وعدم الانكسار.

فيما يخصُّ ملف الدولة الشقيقة سوريا، ووصوله إلى هذه المرحلة من التعقيدات، فقد تجاوز أن يكون الحل السياسي هو مسؤوليةَ القيادة السورية فقط.

جميعنا نتفق أنَّ الدور الأردني هو الدور العربي الوحيد الذي تحمّل المسؤوليةَ السياسية والأخلاقية والوطنية تجاه الشقيقة سوريا

لكن هناك أيضًا مسؤوليةٌ عربية، وخاصةً من الدول التي ساهمت في تعقيدِ الوضع من البداية، وأوصلت سوريا إلى الوضع الراهن. ثمَّ تراجعت لاحقًا إدراكًا منها لدور سوريا في المنطقة وتأثيره، وأنه من الخطأ الفظيع إضعافها إلى حدِّ إسقاطِ الدولة السورية.

هذا التراجعُ عبّر عنه بإعادة مقعد سوريا في الجامعة العربية إليها، بجهدٍ أردنيٍ مشهودٍ ومشكور، ودعوتها إلى المشاركة في مؤتمرات القمة العربية والإسلامية، إعلانًا بوقف القطيعة وعودة العلاقات الدبلوماسية تدريجيًا إلى سابق عهدها مع محيطها العربي.

نتائج عدوانِ الثكنة العسكرية الإسرائيلية على غزة ولبنان في الأيام الأخيرة أظهرت دعواتٍ لسوريا تضمنت إعادةَ النظرِ في تحالفاتها بناءً على مجريات الأحداث وقادمِ الاتفاقيات والتسويات

قيل إنه حان الوقت لفكِّ ارتباطها مع الإيراني الذي ساندها في حين اكتفت الأغلبية العربية بالصمت، بينما سوريا قدمت يد التعاون لها يومًا ما.

هذا التحالف، بالرغم من صعوبته، يمكن إعادةُ النظر فيه ضمن شروطٍ وظروفٍ سياسية يكون الطرف العربيُّ فاعلًا، مع التفاوض مع الإيراني وباقي الأطراف لإقناعه بضرورة النظر إلى سوريا كدولة، وليس كواجهةٍ أو أداة؛ المصلحة اليوم تقتضي انسحاب الإيراني منها مع ضماناتٍ كافيةٍ بدعم استقرار سوريا ووحدة أراضيها، وتعويضها اقتصاديًا، وإعادتها إلى حضنها العربي.

هذا ما أكده القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن في 18 ديسمبر 2015، وأعيد ذكره على لسان التصريحات الأمريكية مؤخرًا

بالإضافة إلى ذلك، يجب إرسال رسالة إلى جارتها تركيا للكفِّ عن التدخل في الشؤون الداخلية السورية. الملف السوري معقد وبأمسّ الحاجة إلى وعيٍ عربيٍّ سياسيٍّ تجاه المشاريع المحيطة، وانفكاكٍ عن المشروع الصهيوني، ودعمٍ عربيٍّ اقتصاديٍّ وسياسي لدعم سوريا، لأن البديل هو الفوضى التي لن تطال سوريا فقط، بل ستشمل دول الخليج والإقليم أيضًا.

الموضوع ليس ملف سوريا ومشاريع تحرر وطنية وحرية، أو صراعات طائفية نتيجة اضطهاد، بل هو صراع الوصاية لأجل حماية مصالح القوى المهيمنة على المنطقة، لكن بواجهات دينية أو عرقية تفتعل المواجهات بالإنابة

الدليل هو بالرجوع إلى الخلف ولنسترجع كيفية إسقاط ليبيا عن طريق الجماعة الإخوانية الإسلامية، ثم إلى السودان وفصل الشمال تحت غطاء عنوان حماية الفئة المسيحية، والحقيقة هي الأطماع في منابع النفط والثروة، وإلى تونس ووصول الغنوشي وجماعته، والعراق وتحويله إلى دولة طائفية دينية.

ولا نعلم، وهل نقبل تقسيم مصر إلى دولة قبطية وسنية وغيرها؟ المعلن أنَّ التقسيم باسم الدين، ولكن الدافع الرئيسي هو السيطرة على المنطقة وحماية مصالح الدولة الكبرى وبقاء الثكنة العسكرية الإسرائيلية متفوقة

إذا هو تغيير لأجل المصالح وليس لخدمة دين أو إشاعة ثقافة الديمقراطية. على العكس، هم يحاولون أن يظهرونا بأننا أقوام وحشية متوحشة تعشق الذبح وسفك الدماء والشهوة، ثم عكس ذلك بتشكيل رأي عام لدى شعوبهم أن هؤلاء لا يستحقون تنمية أو نهضة، بل يحتاجون من يسيطر عليهم ويدير شؤونهم حتى لو بالقوة، وإثارة الحروب بينهم وفرض التشريعات والتربية الديمقراطية المهندسة.

الأردن الدولة لو أرادت تحسين أوضاعها الاقتصادية لحسّنتها مقابل دعم اقتصادي، لكن مقابل تنازل عن ملفات سياسية مفصلية. لهذا حرص الأردن أن يقف موقفًا عروبيًا كما يمليه عليه فكره وروح انتمائه العربية الأصيلة، كما وقف مع العراق في الـ91 ودفعنا الثمن.

لم نوافق على فتح جبهة على سوريا في بداية الأحداث ووافقت تركيا، ولا شك هناك ثمن؛ رفضنا مليارات الدولارات مقابل صفقة القرن؛ أردنيًا لدينا موقف سياسي واضح اليوم ينادي بوحدة الأراضي السورية والحفاظ على سيادتها ضمن عملية سياسية

فعليًا تقسيم سوريا سيكون له آثار وتداعيات سلبية على الأردن. ويبرز السؤال: ما هي التدابير؟ وكيفية التفكير والبحث عن ماهية آلية توفير وسائل الحماية من اضطراب الحالة السورية؟ خاصة أننا عانينا من اضطراب وضع الدولة العراقية الشقيقة وخوارج العصر.

رافعو إشارات النصر اليوم في سوريا هم من حركتهم أدوات الصهيونية ونموذج الأصولية الدينية الداعشية اليمينية المتشددة وعباءة التدين الإخوانية التركية. هؤلاء من أحرقوا معاذ الكساسبة أسيرًا حيًا، وقتلوا آلافًا في العراق وسوريا بفتوى شرعية دينية دنيوية بريئة منها كل الشرائع الربانية.

لم يحققوا أي تحرير للأراضي المحتلة أو حرية، بل مزقوا جسد أمتنا العربية تحت رايات وألوان الطائفية والهويات الفرعية، لتكون هشة وضعيفة وعرضة لتهيئة البنية التحتية لتنفيذ المخططات الصهيونية.

يملك الأردن جملة من التحالفات والعلاقات الدبلوماسية والعسكرية مع مختلف أطراف الدول المتصارعة على المنطقة، وهذا بفضل سياسة الاعتدال والاتزان التي تنتهجها القيادة الهاشمية في إدارة الدولة الأردنية وإقامة علاقاتها الدبلوماسية السياسية

مع أنَّ الاتزان والاعتدال من المهام والأدوار المكلفة ثمنًا غالبًا، وليس أحيانًا، لأن من يقوم بها يكون عرضة للملام وبيانات الاتهام إذا ما اتخذ القرار الذي يصب مع الحق العربي ولا يوافق أهواء الطرف الآخر.

الفهم الحقيقي لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية والهوية الوطنية الجامعة والجبهة الداخلية والبعد عن اللعب والتلاعب والهمز في قنوات الهويات الفرعية والعصبيات العشائرية والتيارات المسيسة دينيًا ومدنيًا وقوميًا والمزاودات داخل غرف المزادات، الصادرة إما عن جهل بقيمة ما يعنيه التصريح أو خبثٍ ومكرٍ في دس السم بالعسل، هي ممارسات مكشوفة. هو حاجة لمواجهة ما هو قادم من تداعيات وتحديات.

هذا الفهم بحاجة إلى وعي نابع عن إخلاص وانتماء لفكرة الوطن والمشاركة في الحماية والبناء وثقافة سماتها العقلانية وتنويع مصادر المعرفة والاعتدال.

نعاني من أنصاف المواقف التي تنتظر وتميل إلى حيث مصلحتها وتحمل مصلحة المغلوب. وهؤلاء المنافقون أشد كفرًا وعنادًا

جملة ما ذكر من تدابير هو تحصين الجبهة الداخلية الأردنية وسد أي فوهة أو فتحة تحاول خرق الجدار.

ولعلي أختم هذا المقال بأبياتٍ يقولها الشاعر العراقي يوسف الصايغ:

أنا لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني…
لكني أنظر من قلبٍ مثقوب…
وأُميز بين الوطن الغالب… والوطن المغلوب.
الله من يتنصت في الليل على قلب…
أو يسترق السمع إلى رئتيه…
وطني لم يشهد زورًا يومًا…
لكن شهدوا بالزور عليه.

شاركها.
Exit mobile version