نخبة بوست كتب أحمد عوض ( الخبير الاقتصادي )

انتهى عهد نظام الأسد في سورية، مخلفا وراءه تركة ثقيلة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية الصعبة. فبعد سنوات من سيطرة (عائلة الأسد) وحلفائها على مقدرات الدولة السورية لأكثر من نصف قرن والحرب الطاحنة والعقوبات الدولية الخانقة، بات الاقتصاد السوري يعاني من شلل شبه كامل، حيث دمرت البنية التحتية، وتعطلت عجلة الإنتاج، وتفاقمت معدلات الفقر والبطالة، وهُجرت الكفاءات إلى خارج البلاد.

ومع سقوط النظام، يتطلع السوريون إلى إعادة بناء اقتصاد بلادهم، واستعادة عافيته، وتحقيق تنمية مستدامة. يتطلب ذلك تضافر جهود الجميع، بدءا من الحكومة الجديدة، مرورا بالقطاع الخاص، وصولا إلى المجتمع الدولي، في رسم خريطة طريق واضحة المعالم، تحدد أولويات العمل، وتوجه الاستثمارات نحو القطاعات الاقتصادية الحيوية.

قبل الخوض في مسارات إعادة بناء الاقتصاد السوري، لا بد من تسليط الضوء على أهمية إعادة بناء قطاع الطاقة، وإعطائه الأولوية القصوى، إذ تمتلك سورية موارد نفطية كبيرة، يمكن أن تشكل رافعة أساسية لتمويل مسارات التنمية الشاملة، وخاصة البنية التحتية.

ويتطلب ذلك استعادة السيطرة على حقول النفط، إعادة تأهيلها، وتطوير البنية التحتية اللازمة لاستخراج النفط وتكريره وتوزيعه. كما يتطلب الأمر توفير استثمارات لهذا القطاع وإعادة تأهيله، وتوفير بيئة تشريعية وتنظيمية ملائمة. من شأن إعادة بناء قطاع الطاقة أن يسهم في توفير الطاقة اللازمة للقطاعات الإنتاجية الأخرى، وأن يحقق إيرادات مالية كبيرة للدولة، يمكن استخدامها في تمويل مشاريع إعادة الإعمار والتنمية.

هناك ثلاثة مسارات رئيسية ومتداخلة لإعادة بناء الاقتصاد السوري. أولها مسار إعادة الإعمار، الذي يرتكز على ضخ استثمارات ضخمة في إعادة إعمار البنية التحتية المدمرة، بما في ذلك الطرق، الجسور، المباني والمرافق العامة. يتطلب هذا المسار تعاونا دوليا واسعا، وتقديم مساعدات مالية وفنية من الدول المانحة والمؤسسات الدولية.

من شأن هذا المسار أن يخلق فرص عمل واسعة في قطاع الإنشاءات، ويحفز النمو الاقتصادي الشمولي، ويعيد بناء البنية التحتية الأساسية للاقتصاد. لكنه في المقابل يواجه تحديات كبيرة، منها ارتفاع تكلفة إعادة الإعمار، استغلال المساعدات الدولية لأغراض سياسية، وصعوبة جذب الاستثمارات الأجنبية في ظل عدم الاستقرار الأمني.

أما الثاني، فهو مسار التنمية المستدامة، الذي يركز على بناء اقتصاد متنوع ومستدام، يعتمد على قطاعات إنتاجية مختلفة، مثل الزراعة، الصناعة والسياحة. يتطلب هذا المسار إصلاحات اقتصادية عميقة، وتطوير بيئة الأعمال، وتشجيع ريادة الأعمال. من شأن هذا المسار أن يحقق نموا اقتصاديا مستداما وشاملا، ويقلل الاعتماد على المساعدات الخارجية، ويخلق فرص عمل في قطاعات متنوعة. لكنه في المقابل يحتاج إلى وقت طويل لتحقيق نتائج ملموسة، ويواجه صعوبة في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية في ظل الظروف الراهنة، كما يحتاج إلى استثمارات كبيرة خاصة في التعليم والتدريب.

وأخيرا، يطرح مسار الاقتصاد الرقمي، الذي يستفيد من التطور التكنولوجي، ويشجع على الاستثمار في قطاع التكنولوجيا والاتصالات، وتطوير البنية التحتية الرقمية. يتطلب هذا المسار توفير بيئة داعمة للابتكار، وجذب الاستثمارات في الشركات الناشئة. من شأن هذا المسار أن يخلق فرص عمل جديدة في قطاع التكنولوجيا، ويعزز النمو الاقتصادي، ويجذب الاستثمارات. لكنه في المقابل يحتاج إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية الرقمية، ويواجه احتمالية زيادة الفجوة الرقمية بين مختلف فئات المجتمع، كما يواجه صعوبة في توفير بيئة داعمة للابتكار في ظل عدم الاستقرار السياسي.

تضاف إلى ذلك، عوامل أخرى تؤثر على مستقبل الاقتصاد السوري، منها الاستقرار السياسي والأمني، القائم على الحريات العامة والمؤسسات الدستورية القوية، الذي يعد شرطا أساسيا لجذب الاستثمارات، وتحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز مسارات التنمية المختلفة.

ولا يمكن إغفال أهمية الدعم الدولي في توفير الموارد المالية والفنية اللازمة لإعادة بناء الاقتصاد السوري. كما يلعب القطاع الخاص دورا مهما في خلق فرص العمل، وتحفيز النمو الاقتصادي. وأخيرا، يتطلب الأمر الاستثمار في التعليم والتدريب، لتطوير مهارات القوى العاملة السورية.

يمر الاقتصاد السوري بمرحلة حرجة، تتطلب تضافر جهود جميع الأطراف، واتخاذ قرارات حاسمة، لضمان مستقبل أفضل لسورية.

إن إعادة بناء الاقتصاد السوري لن تكون مهمة سهلة، لكنها ليست مستحيلة. فمن خلال تبني سياسات اقتصادية سليمة وعادلة، وتوفير بيئة داعمة للاستثمار والتنمية، يمكن لسورية أن تستعيد عافيتها الاقتصادية، وتحقق نموا مستداما، يسهم في تحسين مستوى معيشة الشعب السوري، ويُؤسس لمرحلة جديدة من الازدهار والرخاء.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version