نخبة بوست – لاحقًا، بعد استقلال الدول العربية، حدثت تغيّرات على خارطة القوى السياسية، وتغيّرت قائمة مراكز الدولة المهيمنة على المنطقة العربية. وتمركزت هذه المراكز ما بين الشرق (الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية وحلف وارسو) والغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية وحلف الناتو)، بما سُمي “ثنائية القطبية” واندلاع الحرب الباردة بينهما. تأثير هذه القطبية الثنائية والحرب الباردة أدى إلى تحولات سياسية في بعض الأنظمة العربية، خاصة التي كانت تتبع المعسكر الشرقي، حيث تحولت من الملكية إلى الجمهورية.
نجح المعسكر الغربي في حربه الباردة، وأسقط المعسكر الشرقي في عقر داره في تسعينيات القرن الماضي. واستمر مخطط تفتيت حلفائه وسقوط أغلب الدول العربية التابعة له، وآخرها الدولة السورية (وللتاريخ، كانت هذه الدول محاور التصدي للمشروع الصهيوني في المنطقة)، ليدخلوا لاحقًا في حقبة جديدة من التحولات السياسية الديمقراطية.
نتاج أحادية القطبية ونظام “الأوتوقراط” الأمريكي، وقع الفراغ على مستوى تحديد هوية نمط النظام السياسي في تلك الدول العربية، مما أتاح الفرصة لصعود ما يُسمى “تيار الإسلام السياسي” بجميع تياراته، وأهمها الإخوان المسلمون. ولعل هذا ما يُفسر تصدّر الأحزاب الإسلامية مشهد الوصول إلى السلطة بعد انهيار كل الأنظمة التي كانت تتبع المعسكر الشرقي وفشلها. ثم ليفشل هذا التيار أيضًا، بسبب غياب المشروع السياسي المتجدد واستيعاب مخطط القوى المهيمنة. بل انخرط في مشروعها، إما بقصد (التابعين له) أو غير قصد (المؤمنين بالنمط التقليدي في إيجاد نظام إسلامي مبني على الشريعة).
لاحقًا، تم الانقلاب عليه، وصُنع مصطلح “الإسلام فوبيا”، مما أدخل الوطن العربي في حالة فراغ سياسي تم تعبئته بما يوائم الحالة السياسية العامة.
حصيلة فشل قيادة هذه الأنظمة وتياراتها السياسية بشقيها القومي والديني كانت سلسلة من صراعات الهويات الدينية والإثنية حول السلطة لإثبات الأحقية. وهو ما أدى إلى تفتيت المفتت، مما أضعف وحدة الجغرافيا والموقف السياسي العربي، ولاحقًا التراجع أمام المشروع الصهيوني.
إذا ما أردنا أن نخضع الأنظمة الجمهورية إلى معايير الديمقراطية، سنجد أنها جميعها شمولية. وهذا ما امتاز به الفكر السياسي اليساري والقومي وفكر الإسلام السياسي، وكلها ديمقراطيات شكلية. لذلك نجد أن ملف حقوق الإنسان والحريات عليها الكثير من الأسئلة والانتقادات.
الأنظمة العربية الملكية إجمالًا كانت أكثر استقرارًا من الأنظمة العربية الجمهورية، رغم أن حالة الديمقراطية فيها ليست مثالية. لكن، بعيدًا عن المجاملات وشهادات أبناء الوطن الأردني المجروحة، يجمع القاصي والداني في الداخل والخارج على أن الأردن يمثل نموذجًا ديمقراطيًا متقدمًا على بقية الأنظمة الملكية العربية، سواء بما يخص الحريات وحقوق الإنسان أو ممارسة الحياة الديمقراطية ومواقفه تجاه القضية الفلسطينية.
الأردن صنع نموذجًا لحكم ملكي معتدل، أدمج وأشرك فيه جميع عناصر وأركان وقوى الحياة السياسية الأردنية وصهرها في فسيفساء فريدة متعددة عكست تنوع الألوان فيه. الأمر الذي شكل نموذجًا من القيادة التشاركية ما بين سلطة الملك وصلاحياته، وإشراك الشعب في أحقية التعبير عن توجهاته السياسية وحقوقه الخدماتية بطريقة ديمقراطية حضارية. كما ساهم في تكوين نهج فكر ونهج مسار الأداء الحكومي، بوجود رقابة برلمانات منتخبة.
هذا كله جاء بفضل دستور يُعتبر من أفضل الدساتير العربية، وهو دستور 1952 وتعديلاته اللاحقة التي كانت استجابة لمتطلبات الظروف السياسية الداخلية والخارجية.
بالنسبة لملف الحريات وحقوق الإنسان، الأنظمة الجمهورية كانت تحكم بالقبضة الأمنية المحكمة، وذلك بسبب طبيعة نشأة هذه الأنظمة وحالة عدم الاستقرار الناشئة عن صراعات أقطاب السلطة والأحزاب المسيطرة فيها والفكر الشمولي.
في الأنظمة الملكية، ملف الحريات وحقوق الإنسان فيه تفاوت وأحيانًا فجوات، وذلك لأسباب عدة، منها الثقافة السياسية والبيئة المجتمعية ومدى الانفتاح أو الانغلاق على العالم والمحيط الخارجي. كما يتأثر بمحاكاة التجارب والنماذج الديمقراطية للوصول إلى النموذج الأمثل في ترجمة ورسم هيكل السلطة الديمقراطية التشريعية، وإعطاء انطباع إيجابي عن انسجام العلاقة مع باقي مؤسسات وهيئات السلطة التنفيذية.
أيضًا، تساهم طبيعة القوانين والتشريعات التي يستند عليها القضاء في تلك الدول، والتي استطاع الأردن تقديم نموذج عالٍ المستوى فيها، بمحاكاة الدول التي تمتلك سمعة محترمة في ملف الحريات وحقوق الإنسان والقضاء وسيادة القانون.
الدولة الأردنية، بقيادتها الهاشمية، امتازت بأنها ليست دولة دموية في علاج الملفات الأمنية. ولطالما كان العفو والصفح والمصالحة عرفًا من أعراف إدارتها، وخلقًا أصيلًا من أخلاق قيادتها الحكيمة، بالرغم من أن الأردن شهد في مراحل عمره بعض الأحداث التي استوجبت فرض النظام واستخدام ما هو مناسب من الأدوات والتشريعات لغايات الوقاية والحماية وضمان استقرار الدولة.
كما حدث في أحداث السبعين، التي توجه بعدها مباشرة الراحل الملك حسين بن طلال، رحمه الله، بخطاب الوحدة لشعبه الأردني بجميع مكوناته وأطيافه، وشرح ملابساتها وظروفها وتجاوزها. وفي أحداث معان عام 1989، تجاوزتها الدولة الأردنية بحكمة القيادة واستيعاب الحالة الشعبية وتدخل الملك ميدانيًا وبشكل شخصي، رغم الضغوطات الاقتصادية وتأثيرها على المملكة.
أطلق الملك آنذاك العملية الديمقراطية وعودة الحياة النيابية والحريات الصحفية والحياة الحزبية. وها هي المسيرة تستمر، حتى في الربيع العربي وخبث مخططه في عهد الملكية الرابعة بقيادة الملك عبد الله الثاني بن الحسين.
واجهت الدولة الأردنية هذه المرحلة بالأمن الناعم، وأُصدرت الأجندة الوطنية والأوراق النقاشية الملكية، تمهيدًا لبناء بنية تحتية وطريق نحو الديمقراطية المتجددة وماهيتها ونموذجها الأردني الذي نريد، وأدواتها وكيفية ترجمتها، حتى نصل إلى الملكية الدستورية الأردنية الخاصة بالدولة الأردنية.
في الأردن، نرفع شعار “المصلحة العامة غاية الحكم”، ولهذا نشهد اليوم مرحلة التحديث السياسي التي جاءت بعد رؤية ملكية سامية كضرورة وطنية نحو دولة أردنية في مئوية ثانية. دولة لا تغفل الماضي وموروثه وأصوله، لكنها تتطلع إلى مواكبة الحداثة والتطور والمدنية.
هذا الربط بين الأجيال فيما يُسمى “انصهار الخبرات” جعل الأردن قادرًا على معالجة أي أخطاء، سواء أكانت حالة فردية صادرة عن شخص مسؤول أو مجموعة أو تيار سياسي داخل أو خارج السلطة.
والسبب في ذلك هو العقد الاجتماعي ما بين السلطة والشعب، والمرجعية الشرعية والقانونية للقيادة الهاشمية، واتباع الحاكمية الرشيدة المؤسسية في مؤسسات صنع القرار، ومتابعتها لشؤون الدولة وملفاتها، ومراجعتها وتقديم الحلول لأي تعديل إذا تطلب الأمر، لمعالجة أي خلل أو إشكال يمكن أن يؤثر على النهج والمسيرة الديمقراطية.