نخبة بوست – محرر الشؤون السياسية

تُعدّ معاناة السجناء المفرج عنهم من السجون السورية واحدة من أقسى الأزمات الإنسانية التي تواجه سوريا اليوم. فبعد سنوات طويلة من التعذيب الوحشي والاحتجاز التعسفي في ظروف لا يمكن وصفها إلا بأنها جريمة ضد الإنسانية، يخرج هؤلاء الناجون ليواجهوا تحديًا جديدًا يتمثل في إعادة بناء حياتهم في ظل ندوب نفسية وجسدية عميقة؛ فلم تكن هذه السجون مجرد أماكن احتجاز، بل مراكز لإلغاء إنسانية السجين، وتحطيمه جسديًا ونفسيًا بأساليب تعذيب تجاوزت كل الحدود.

ومع الإفراج عنهم، لم ينتهِ الكابوس؛ فالصدمات النفسية الحادة والأمراض المزمنة التي خلفها سنوات الاعتقال تشكل عائقًا كبيرًا أمام اندماجهم في المجتمع؛ فهذا الملف، الذي يكشف وحشية نظام تعمد تحويل السجون إلى أدوات للانتقام والإذلال، يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولية تاريخية؛ تشمل تقديم الدعم الشامل لهؤلاء الناجين، والعمل على محاسبة الجناة لضمان تحقيق العدالة ومنع تكرار هذه الجرائم.

فيُعتبر سجن صيدنايا واحداً من رموز المعاناة والانتهاكات التي تعرض لها آلاف السجناء في سوريا، حيث اشتهر بممارسات التعذيب الممنهج والإعدامات الجماعية التي وثقتها منظمات حقوقية دولية.

سجن صيدنايا

هذا السجن؛ الذي وصفته منظمة العفو الدولية بـ“المسلخ البشري”، شكّل لعقود مركزًا للقهر والوحشية، ما جعله شاهدًا على إحدى أحلك مراحل التاريخ السوري.

ومع الإفراج عن الناجين منه بعد سنوات طويلة من العزلة والتعذيب، برزت أزمة جديدة تتمثل في إعادة تأهيل هؤلاء الأفراد وإدماجهم في المجتمع، وسط ندوب نفسية وجسدية عميقة تتطلب جهودًا كبيرة على المستويين المحلي والدولي.

وهنا يكمن السؤال الأبرز: كيف يمكن للمجتمع السوري والدولي أن يواجه التحديات الناتجة عن سنوات التعذيب داخل السجون، ويعمل على تأهيل الناجين وإعادة بناء حياتهم في ظل غياب المحاسبة والمساءلة؟

ناصر: محاكمة المسؤولين عن جرائم التعذيب ضرورة؛ لتحقيق العدالة

وفي هذا الصدد؛ قال الباحث ومؤسس مركز “إدماج” عبدالله الناصر، في تصريح خاص لـ“نخبة بوست”، إن قضية السجناء في سوريا تُعدّ واحدة من أكبر الكوارث البشرية التي عرفها التاريخ؛ موضحاً أن ما حدث في هذه السجون لم يكن مجرد اعتقال، بل تعذيب ممنهج استمر لعقود؛ تحديداً في سجن صيدنايا.

نحن نتحدث عن معظم الأشخاص قضوا ما يقارب 30 سنة في ظروف قاسية اضطروا خلالها لمحاكاة الحياة مع الحشرات لتخفيف شعور الوحدة

وأشار إلى أن السجناء الذين تم الإفراج عنهم سيعانون من اضطرابات نفسية وجسدية حادة؛ مؤكداً أن السجناء بحاجة إلى برامج تأهيل مكثفة قد لا تستطيع المؤسسات المحلية توفيرها، ما يجعل التدخل الدولي أمرًا ضروريًا.

أشخاص يشاهدون عملية البحث عن معتقلين تحت الأرض في سجن صيدنايا (رويترز)

ولفت الناصر إلى أن الوضع الحالي يتطلب العمل على الأولويات، بدءًا بمعالجة الأمراض النفسية والجسدية التي أصابت الناجين، إضافة إلى تقديم دعم مستدام على المستوى الإقليمي والدولي لإرساء مستقبل أفضل لهم.

ما حدث في سوريا لا يمكن مقارنته بأي كارثة طبيعية أو تاريخية أخرى. هذا الشعب يحتاج إلى مساندة حقيقية لإعادة بناء حياته

“وحشية لا تُصدق”

وتابع الناصر حديثه بأن السجون السورية كانت مراكز تعذيب لا تعرف الرحمة، حيث تجاوزت أساليب القمع كل أشكال الوحشية.

وتطرق إلى أن التعذيب في هذه السجون لم يكن يهدف إلى إيذاء الجسد فقط، بل إلى القضاء على إنسانية السجين بالكامل؛ فالفيديوهات التي ظهرت، من وجهة نظر ناصر، تفوق في فظاعتها كل ما قرأ أو تخيل، مستعرضًا إحدى الحالات التي تعرض فيها أحد السجناء لحقن بمادة تُسبب عدوى شديدة في الجسم قبل إطلاق سراحه.

امرأة تسير وسط الأغراض المتناثرة داخل سجن صيدنايا (رويترز)

وأوضح أن هناك حالات تعذيب تضمنت أساليب مروعة مثل حرق الأكياس البلاستيكية على أجساد السجناء، مشددًا على أن الهدف من هذه الممارسات لم يكن سياسيًا أو أمنيًا، بل كان انتقامًا من الشعب السوري بشكل عام.

وبيّن أن هذه السجون لم تكن مؤهلة للتعامل مع السجناء كأفراد، بل كانت أماكن مخصصة لتحطيم النفس البشرية بطرق غير مسبوقة.

التعذيب كان يتم بأساليب مستوحاة من النظام الروسي قبل التدخل العسكري في سوريا؛ والنظام السوري طوّر هذه الأساليب لتصبح أكثر بشاعة؛ المعتقلات كانت تُبنى بطريقة تجعل اكتشاف أماكن السجناء صعبًا، حيث كان بعضها موجودًا في طوابق تحت الأرض ولا يمكن الوصول إليها بسهولة

دعوة إلى المحاسبة

وفيما يتعلق بالمساءلة، شدد الناصر على أهمية محاكمة جميع المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري، وعلى رأسهم بشار الأسد.

وبيّن أن أي نظام عادل لا يمكنه تجاهل حجم الجرائم التي ارتكبت في السجون السورية، مشيرًا إلى ضرورة وجود محاكمات دولية تشمل كل من تورط في هذه الانتهاكات الوحشية.

وشرح بأن الأدلة على هذه الجرائم متوفرة بشكل كبير، من خلال الفيديوهات والشهادات التي توثق المأساة التي تعرض لها الشعب السوري؛ موضحاً أن المظاهرات التي تشهدها مختلف أنحاء العالم تعكس المطالبة الشعبية والدولية بتحقيق العدالة، ومعتبرًا أن محاكمة بشار الأسد والمسؤولين عن هذه الجرائم ليست خيارًا، بل ضرورة أخلاقية وقانونية.

سجن صيدنايا سيء السمعة شهد عمليات تعذيب وتصفية واسعة للسجناء (الفرنسية)

النظام السوري مارس أساليب تعذيب غير مسبوقة، شملت حتى الأطفال والنساء

وتحدث عن حالات اعتقال النساء والأطفال دون أي تهم واضحة، واصفًا ذلك بالجريمة في حد ذاتها، وأضاف أن اعتقال وتعذيب الأطفال في سن الرابعة عشرة دون أي ذنب يُظهر مدى الوحشية التي وصلت إليها هذه الانتهاكات، وهو أمر يتجاوز قدرة العقل البشري على التصور.

واختتم الناصر حديثه بالتأكيد على أن المحاكمات الدولية يجب أن تكون من أولويات المرحلة المقبلة لتحقيق العدالة للشعب السوري؛ مضيفاً أن ما حدث في سوريا يتطلب تدخلًا عالميًا لا لإنصاف الضحايا فقط، بل لمعاقبة الجناة المسؤولين عن هذه الجرائم البشعة، ومؤكدًا أن ذلك ليس مجرد حق للشعب السوري، بل واجب على المجتمع الدولي بأسره.

هل يكفي الدعم الدولي لإنقاذ الناجين من كابوس السجون السورية؟

تظل الأزمة التي يواجهها المفرج عنهم من السجون السورية واحدة من أعقد التحديات الإنسانية في العصر الحديث؛ فبين حاجتهم إلى تأهيل نفسي وجسدي شامل، ودعوات تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، يقف العالم أمام اختبار حقيقي لإنصاف هؤلاء الضحايا.

فهل سيتحرك المجتمع الدولي بشكل فعّال لمعالجة هذه الجراح العميقة، أم أن ملف السجون السورية سيبقى شاهدًا على عجز العالم عن مواجهة أبشع الانتهاكات الإنسانية؟

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version