نخبة بوست – فرح أبو عياده
في خطوة تعكس تغييرات على المستوى الدولي تجاه هيئة تحرير الشام وقادتها الذين ما تزال خفايا شبكتهم “العنكبوتية” محط اهتمام وتساؤل، حيث تشهد الساحة السورية حراكًا دبلوماسيًا واسع النطاق، إذ التقى “أحمد الشرع” مع وفد دبلوماسي أميركي رفيع المستوى، بالإضافة إلى لقاءه بوزير الخارجية التركي “هاكان فيدان”، وعلى مستوى الدول العربية فقد التقى وفدًا رفيع المستوى من قطر.
كما استقبل الشرع وفدًا لبنانيًا برئاسة الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، بالإضافة إلى زيارة نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية أيمن الصفدي، نوقش خلال كل من تلك الزيارات ملفات عديدة ضمن سياق التطورات الأخيرة بعد سقوط نظام الأسد.
إلا أنه كان من اللافت في مخرجات لقاء الشرع مع الوفد الأميركي، إعلان واشنطن أنها ستوقف برنامج “مكافآت من أجل العدالة” المتعلق بالشرع عندما كان “أبو محمد الجولاني”، والذي كانت قد عرضت مكافأة مالية بلغت نحو 10 ملايين دولار مقابل شخصه حينها، لكن الأمر الأكثر أهمية هو الإعلان عن تعيين أسعد حسن الشيباني وزيرًا للخارجية في حكومة تسيير الأعمال.
هذا التعليق يحاول تفكيكك أحجية شخص الشيباني الذي طالما قاد العلاقات التي ارتبطت بها هيئة تحرير الشام مع الفصائل الأخرى، بالإضافة إلى علاقاته على المستوى الدولي متلبسًا أسماء عديدة وفقًا لمتطلبات كل مرحلة من مراحل التنظيم، إضافة إلى الدلالات المرتبطة بتوقيت تعيينه. كما يناقش إلى تعيين وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، لا سيما إن كلًا من الوزارتين تعتبران وزارتين سيادتين.
مهندس السياسة الجهادية والعلاقات الخارجية
قبل نحو أيام، عاد “زيد العطار” اسمًا يتردد صداه في الأوساط المحيطة بهيئة تحرير الشام، الذي كان قد جلب العديد من التساؤلات حوله، وعن علاقته بالشرع، وبالهيئة.
“العطار” كان قد عُرف بأسماء أخرى من بينها “نسيم”، “أبو عائشة”، و”حسام الشافعي”، وفي ظهور أول، بعد الإعلان عن تعيين “أسعد الشيباني” -الذي كان قد عرف بزيد- وزيرًا لخارجية حكومة تسيير الأعمال، بدأت المعالم تتشكل بصورة أكثر وضوحًا حول هذه الشخصية الغامضة، وفي الخلفية التي يمتلكها بناءً على المعلومات القليلة التي تدور حوله، فهو من محافظة الحسكة وترعرع في دمشق وحمل الإجازة في الأدب الإنجليزي من جامعتها، كما أنه حاصل على درجة الدكتوراة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من تركيا عام 2024، ويبدو أن له ثقل قبلي وعشائري نتيجة لولادته منطقة تعرف بتعددها العرقي والديني، كما يبدو وجود تأثير البيئة السياسية والثقافية الدمشقية عليه.
وعن موقفه من الثورة، فكان من الأشخاص الذين انضموا لها منذ بدايتها وعايش كل مراحلها، وقدشارك في تأسيس حكومة الإنقاذ بإدلب عام 2017 “الوجه السياسي” لهيئة تحرير الشام، وأسس إدارة الشؤون السياسية فيها، وقد عمل في الجانب الإنساني وله علاقات مع الأمم المتحدة ووكالاتها، بالإضافة إلى عمله الوثيق لصالح “أبو محمد الجولاني” على ملف العلاقات مع الفصائل المختلفة والمتعددة في منطقة إدلب وتحديدًا مع الفعاليات الشعبية إبان الحراك الشعبي المناهض للهيئة.
وفي رواية أخرى لتاريخه الثوري، أشارت مصادر إلى صلة الشيباني ومشاركته في تأسيس جبهة النصرة، وتطويرها وعمله في الجهاز الإعلامي التابع لها تحت اسم “أبو عائشة منارة”، وبعد التحولات في تنظيم النصرة عقب انشقاقها عن القاعدة، تولى دور المتحدث الرسمي في “جبهة فتح الشام” تحت اسم “حسام الشافعي”، إلا أنه ومع الاستقرار على تنظيم “هيئة تحرير الشام” شغل منصب رئيس إدارة الشؤون السياسية فيها باسم “زيد العطار”، فضلًا عن توليه ملف العلاقات الخارجية، حيث سافر مع يوسف الهجر إلى قطر في إبريل/نيسان 2017 أثناء مفاوضات اتفاق “المدن الأربع”، وكان أحد الموقعين على الاتفاق.
القراءة المتأنية والأولية لتعيين الشيباني بعد حدث سقوط النظام وفي هذا الوقت يشير إلى دلالات عدة محتملة، من بينها أنه وعلى الرغم من الخطوات الأميركية تجاه الشرع ورفعه عن قوائم المطلوبين للعدالة وعن قوائم الإرهاب؛ إلا أنه على ما يبدو توجد حاجة “للشرع” بأن يتصدر وجه آخر برفقته المشهد السوري الحالي، حيث قد توجد تفاهمات داخلية في التنظيم لتولي الشرع الواجهة الداخلية والقيام بلقاءات وتطمينات محلية أو على الأقل المحافظة على تماسك المشهد الداخلي بشكل ما، بينما يتولى الشيباني واجهة سوريا الخارجية، يتقاطع مع ذلك إدراك الهيئة لضرورة تحسين قنوات الاتصال مع الأطراف الإقليمية والدولية، وعلى ما يبدو أن للشيباني علاقات خاصة مع أطراف خارجية على رأسها تركيا التي كان قد أكمل دراسته فيها في خضم عمله بأسمائه المستعارة داخل هيئة تحرير الشام.
وتبعًا لذلك؛ فإن الإشارات التي تُرسل من سلوك الهيئة تدور في فلك البعدين السياسي والاستراتيجي، إذ يبدو أنها تعمل على إظهار نفسها كلاعب سياسي بارز في المشهد دون أن تختزل بمجرد “فصيل عسكري”، واستمرارها في محاولات إعادة تشكيل الصورة الدولية المحيطة بها، عبر الرسائل التي تبعثها للأطراف المختلفة إقليميًا ودوليًا، وحتى محليًا، فيبدو أن التعيينات التي يقوم بها الشرع تعكس خطوات طمأنة للأجنحة المختلفة داخل تنظيم الهيئة بشأن توجهها السياسي والعسكري في المرحلة المقبلة، والتي قد تقرأ على أنها بصدد محاولة تجنب أي تصعيد عسكري داخلي وخارجي، وفتح باب التفاوض والتشاور المستمر.
أبو قصرة؛ من القيادة العسكرية الميدانية إلى وزير للدفاع
يشكل تسارع الأحداث في الساحة السورية وانكشاف الستائر عن شخصيات مهمة في تنظيم الهيئة استدارة استثنائية، ويقرآن ضمن سياق أهداف ومتطلبات المرحلة الحالية؛ عُيّن مرهف أبو قصرة والمعروف بـ “أبو حسن الحموي” أو بلقبه “أبو حسن 600″، وزيرًا للدفاع في حكومة تسيير الأعمال، وهو من مواليد مدينة حماة ويحمل درجة البكالوريوس في الهندسة الزراعية، حيث برز كمهندس للقدرات العسكرية في المناطق المحررة سابقًا وساهم في تعزيز تلك القدرات، وقد شغل منصب القائد العام للجناح العسكري في الهيئة، وبناءً على ذلك فيمكن أن يعتبر شخصية مؤثرة في الساحة العسكرية.
انطلاقًا من النقطة المذكورة؛ يمتلك أبو قصرة خبرة عسكرية ميدانية كبيرة وذلك يتقاطع مع هدف المرحلة المعلن عنه من جانب الشرع بضرورة حل كافة أشكال الفصائل العسكرية المعارضة لنظام الأسد، وحصر السلاح بيد الدولة الجديدة، وضمان استقرار الوضع الأمني والعسكري، إلا أن التحديات التي قد تواجه أبو قصرة كبيرة وسيتم النظر إليها من زاويتين، أولهما أن الفصائل المسلحة تختلف بشكل متباين كل عن الأخرى، من حيث الأيدولوجية، والجهة الداعمة وحتى التصورات العامة لشكل الدولة والمؤسسات -حال تواجدت- ما بعد سقوط الأسد، فضلًا عن التباين الثقافي والاجتماعي في بنى الفصائل، وهذا يطرح تساؤل عن مدى قدرة أبو قصرة للقيام بذلك أو التعامل مع التحديات الناتجة عن تلك العملية، تحديدًا في ظل الإرث الذي يحمله والمرتبط بتنظيم الهيئة.
أما الزاوية الأخرى، التي تطرح تساؤلًا عن مدى القدرة على خلق التوازن التي يحاول الشرع من خلالها تحقيقه على الصعيدين السياسي والعسكري، وذلك عبر تعيين قيادي عسكري في منصب سياسي، وهنا يطرح افتراض يخضع للاختبار، فيبدو أن الشرع اليوم يرى في أبو قصرة رجل مرحلة مطلوب منه القيام بواجب يحقق مصالح داخلية في حل الفصائل وضبط الأمن والاستقرار، دون أن يكون له الدور السياسي وتحديدًا الموجه للخارج.
خاتمة
يعكس أحمد الشرع عبر تعييناته ملامح دقيقة قي المشهد السياسي والعسكري في هذه المرحلة المفصلية، والتي لا بد من قراءتها بشكل مختلف، فتعيين الشيباني كوزارة الخارجية يعكس رغبة الشرع في تطوير قنوات الاتصال الخارجية والانتقال بمستوى العلاقات إلى مكان آخر، تمهيدًا لمرحلة لاحقة، بالإضافة للتعاطي مع تحديات المرحلة الحالية.
ومع ذلك، فيبقى نجاح هذه المرحلة مرهونًا بجوانب عدة، على رأسها قدرة “القيادة العامة” على تجاوز الانقسامات الداخلية بكافة أشكالها وأطيافها من بينها العسكرية، وتحقيق أهداف وطنية جامعة تتجاوز المصالح الفئوية التي تكونت عبر سنوات الثورة السورية، ويتقاطع مع ذلك بناء جسور ثقة مع المجتمع الدولي متجاوزًا أعباء إرث تنظيم هيئة تحرير الشام، على أسس قيادة استراتيجية حكيمة ومتوازنة للتعامل مع المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.