نخبة بوست – كتب: د.تيسير شواش (المستشار النفسي لمركز عدالة)
حملت لنا الأيام الماضية مجموعة كبيرة من الحقائق والشهادات المؤلمة والقاسية حول مستوى التعذيب الذي تعرض له عشرات الآلاف من المواطنين السوريين وغيرهم من المساجين في السجون السورية في السنوات الماضية وخاصة في سجن صيدنايا سيء الصيت.
هذه الشهادات تركت في أذهاننا الكثير من التساؤلات حول قدرة هؤلاء الضحايا على متابعة حياتهم وتجاوز الضرر النفسي والجسدي الذي لحق بهم في تلك السنوات السوداء التي عاشوها بين القضبان وفي أقبية التعذيب؛ وفي الواقع لا نكون مبالغين إذا قلنا أن من يتعرض إلى التعذيب هم من يحملوا النصيب الأوفى من الألم النفسي في تجارب الحياة والذي يتفوق في آثاره على ألم الفقد أو معايشة كارثة طبيعية.
ويعمق هذا الألم ما ينجم عن التعذيب من آثار نفسية متنوعة الشدة وأبسطها الإحساس بالامتهان والهدر المباشر والمتكرر للكرامة وانحطاط القيمة الإنسانية للضحية في نظر نفسه.
ونلمس هذه الجوانب بشكل خاص لدى الاشخاص الذين يقعون ضحايا التعذيب على أيدي أبناء جلدتهم أو مواطنيهم مما يخالف فطرة الأخوة أو أبناء الوطن الواحد مقابل صمود من يلقى التعذيب على يد جلادين من أعداءه ويكون متمتعا بقدرة أكبر على التحمل في مقارعة العدو.
ولا تزال ممارسات التعذيب مستمرة على الرغم من الإجماع الدولي والمتمثل في التوقيع الدولي على اتفاقية مناهضة التعذيب والتي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرار 39/46 المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1984 والتي بدأ بدء نفاذها في 26 حزيران 1987، وكذلك إشتراطات مناهضة التعذيب على مستوى الدول العربية في المادة 8 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان لسنة 2004.
وفي الشرق الأوسط لا يزال التعذيب يمارس بشكل منهجي من قبل بعض الدول العربية وإسرائيل وكذلك بعض الدول الغربية التي تعتبر نفسها متقدمة وتنادي للحفاظ على حقوق الإنسان، فقد شهدنا أساليب التعذيب بحق الشعب العراقي وخاصة في سجن أبو غريب إبان الاحتلال الأمريكي للعراق ونشهد يومياً تعذيب الأخوة في فلسطين وعلى الأخص في غزة.
ومن أجل فهم ظاهرة التعذيب لا بد من تحديد المصطلحات، وأن نعرف بالضبط ماذا نعني بالتعذيب وأهدافه وأساليبه ونتائجه؟
تقدم الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب تعريفا للتعذيب على أنه “أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسدياً كان أو عقلياً يلحق عمداً بشخص “ما” بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث على معلومات أو اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه، أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو شخص ثالث، أو تخويفه أو إرغامه هو وشخص ثالث أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أياً كان نوعه أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط عن عقوبات قانونية أو الملازم لهذه العقوبة أو الذي يكون نتيجة عرضية لها.
أما الهدف الأساسي للتعذيب فهو التدمير الجسدي والنفسي لإرادة الشخص الواقع تحت التعذيب، ومن أجل ذلك يقوم المعتدي ببذل جهود عديدة وممنهجة لإحداث الرعب من أجل خلق الشعور بالعجز واليأس ليصبح مسلوب الإرادة للإقرار وانتزاع المعلومات التي يرغب بها السجان.
وتنقسم اساليب التعذيب إلى نوعين: أحدهما فردي ومنها ما هو جماعي، وتعتبر أساليب التعذيب الفردية متنوعة منها جسدية نفسية واجتماعية؛ حيث تشتمل أساليب التعذيب الجسدي على الضرب وتكسير العظم وافقاد البصر والسمع والحرق ، والحرمان من أساسيات الحياة كالطعام والشراب والنوم وحتى العلاج.
ومن أساليب التعذيب النفسي المستخدمة العزل الانفرادي في اقبية غير صحية لفترات زمنية طويلة يمارسها مما يقود الى والحرمان الحسي Sensory Deprivation بها يمارس التعذيب وبأساليب متنوعة. يؤدي هذا الحرمان الحسي إلى تعطيل العمليات العقلية cognitive impairment مثل التركيز والتفكير المنطقي ويعاني البعض من هلاوس سمعية و بصرية وفقدان الإحساس بالزمان والمكان بحيث يصل الضحية الى مرحلة الإنهاك واليأس وتآكل القدرة على ادراك هويته الشخصية وفقدان الشعور بالذات والانفصال عن الواقع و يمكن أن يؤدي العزل المطول إلى اضطرابات عقلية دائمة.
أما أساليب التعذيب النفسي الجماعي فهي تتضمن التجويع، ومشاهدة عملية التعذيب والقتل، إضافة إلى تعمد الإذلال الجماعي بتعريض ضحايا التعذيب إلى مواقف مهينة كخلع ملابسهم وإجبارهم على القيام بأعمال مهينة أمام الآخرين؛ أما القمع الثقافي والديني بمنع السجناء من ممارسة الطقوس الدينية، التهجير القسري للعائلات، وتدمير البيوت كما هو حاصل في غزة وسوريا.
الآثار النفسية والجسدية نتيجة التعذيب
يشكل التعذيب عامل ضغط نفسي ويُعدّ التعذيب عاملاً مهيئاً ومثوراً ومستديماً للاضطرابات النفسية؛ وتقسم الآثار النفسية الى مستووين:
- المستوى الأول آثار قصيرة المدى
- والمستوى الثاني آثار طويلة المدى
ومن الأمثلة على المستوى الأول قصير المدى: (التبلد العاطفي بعدم إظهار السجين أي ردود عاطفة ، الحزن الشديد، الخوف والقلق، الشك، عدم الثقة، ، الشعور بالذنب والعار والإهانة، الشعور بعدم القيمة، أو العجز، فقدان الثقة، عدم الاهتمام بالأنشطة الممتعة سابقاً، الغضب، أفكار الموت أو الانتحار، صعوبة النوم، فقدان التركيز…).
-أما الأعراض النفسية طويلة الأثر فهي تشتمل على: (المعاناة من اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، الاكتئاب الرئيسي Major Depression، الحزن، اضطرابات القلق (اضطرابات الهلع أو الفزع)، سوء التكيف، تغيير الشخصية، الاضطرابات الجسدية، ظهور المخاوف المرضية، والذهان – الفصام واضطراب المزاج….).
وقد أشارت الدراسات إلى أن 80% ممن تعرضوا لصدمة التعذيب عانوا من أعراض إضطراب ما بعد الصدمة PTSD ويليه المعاناة من الاكتئاب والقلق وقد كانت النساء في هذه الدراسات اكثر عرضة للنتائج المذكورة سابقا.
– أما الآثار الجسدية نتيجة التعذيب فهي تشمل الكدمات وآثار الحروق – والجروح –والكسور-شلل، إعاقات جسمية او حسية دائمة (شلل – فقدان البصر والسمع )، مشكلات في التنفس أو القلب أو البطن، تلف في الأعصاب والدماغ والقدرات العقلية، انتقال الامراض الجنسية، عجز جنسي ناتج عن إصابة الأعضاء الجنسية.
كما يعاني ضحايا التعذيب من عدة آثار اجتماعية منها العزلة الاجتماعية حيث أن الضحايا غالبًا ما يعانون الخجل مما مروا به، مما يدفعهم إلى الانعزال عن الآخرين وصعوبة الانخراط بالمجتمع؛ وقد يخشون الحديث عن تجاربهم خوفًا من الوصمة الاجتماعية، كما يعانون من فقدان الثقة بالمجتمع والآخرين، ويعانون من حدوث مشاكل أسرية وقانونية .
أما بالنسبة للصعوبات الاقتصادية؛ فإن التعذيب قد يؤدي إلى عدم القدرة على العمل بسبب الإعاقات الجسدية أو النفسية، هذا يمكن أن يضع الضحية وأسرته في موقف اجتماعي واقتصادي هش. وهنالك أيضا تأثيرات للتعذيب تظهر من خلال ضعف المشاركة في الحياة العامة وتجنب الأنشطة الاجتماعية.
تأهيل ضحايا التعذيب
يعتبر تأهيل ضحايا التعذيب جزءا من حقوق الضحايا القانونية بموجب الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وخاصة الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللا إنسانية أو الحاطة بكرامة الإنسان، والتي صدرت في العام 1984.
يهدف التأهيل إلى تقديم المساعدة النفسية والصحية والاجتماعية والقانونية إلى ضحايا التعذيب وإشعارهم بالأمان بتوفير بيئة آمنة وإشباع احتياجاتهم الأساسية وتخفيف آلامهم ومساعدتهم في التغلب على أعراضهم النفسية الظاهرة، وكذلك مشكلاتهم الصحية التي عانوا منها جراء التعذيب بغية مساعدتهم للتكيف مع أنفسهم ومع المجتمع الذي يعيشون فيه والعودة الى الحياة الطبيعية والتعامل المناسب مع تحديات المستقبل.
يوجد في الأردن مركز متخصص للعناية بضحايا التعذيب وهو مركز عدالة لدراسات حقوق الإنسان والذي يقدم خدماته للضحايا و وذيهم منذ تأسيسه في العام 2003.
إن الاتجاه السائد في التعامل ومساعدة الناجين من التعذيب وإعادة تأهيلهم يتم عادة باستخدام نهج متعدد التخصصات يستخدم في التأهيل النفسي ويسمى العلاج النفسي التكاملي Integration Therapy، الذي يتضمن الرعاية الطبية، النفسية، الاجتماعية والقانونية والتأهيلية. يتم تقديم الخدمة إما في مراكز متخصصة سواء كانت مؤسسات أو مستشفيات أو عيادات.
يدرك مقدموا الرعاية أن التعذيب الجسدي والنفسي يعدّان من العوامل المهيئة، المثورة والمستديمة للاضطرابات النفسية التي قد تظهر لدى نسبة كبيرة من الضحايا.
ولكن هذا لا يعني بالضرورة ظهور الآثار النفسية على كل من عُذّب حيث من المعروف علمياً أن ظهور الأعراض النفسية يعتمد على عدة عوامل منها: مستوى الصلابة النفسية، الشخصية السابقة، الخبرات السابقة، العقيدة الدينية، العمر، الجنس، والاستعداد لتطوير مرض نفسي.
ولهذا يجب تدريب و تأهيل المتعاملين مع الضحايا على اختلاف تخصصاتهم وهم (طبيب نفسي، اختصاصي نفسي، مرشد نفسي، معالج فيزيائي) ليكونوا على دراية تامة بآلية التعامل مع الضحايا وإدراك الآلية التي يتم بها تحويل بعض الحالات لذوي الاختصاص بينما بعض الحالات الأخرى تحتاج إلى دخول مصحات وخصوصاُ لمن عانى من الذهان العقلي كالفصام واضطراب المزاج وتحويل من عانى من كسور أو أمراض خطيرة الى المختصين.
تأهيل ضحايا التعذيب هو عملية فردية تختلف مدتها الزمنية بشكل كبير من شخص لآخر حسب شدة الأصابة الجسدية والنفسية؛ كما أن مدى نجاح التأهيل يعتمد على عدة عوامل منها مدى تلقي الضحية العلاج الطبي المناسب والعلاج النفسي والدعم الأجتماعي ومدى استجابة الضحية للعلاج بناءً على شخصياتهم وتجاربهم وظروفهم السابقة. وقد تستغرق عملية التاهيل من اسابيع الى اشهر وسنوات .
أساليب العلاج النفسي التكاملي لضحايا التعذيب
تتضمن العلاج الدوائي والعلاج النفسي والإرشاد الأسري والعلاج الفيزيائي الدعم القانوني والاجتماعي لتعزيز حقوق الضحية.
بعد الانتهاء من الخطوة الأولى وهي إشعار الضحية بالأمان (موقع أمن) وإشباع حاجاته الأساسية من مأكل ومشرب ومأوى يتم إجراء التهيئة والتوعية والتثقيف النفسي له والعمل على زيادة الدافعية لتلقي العلاج النفسي.
حيث يتم اختيار إحد برامج العلاج النفسي التي تناسب حالة الضحية والتي تدرب عليها المعالج ويجب ان تراعي هذه البرامج ما يلي:
- التشخيص وشدة الأعراض وغالباً تحتاج بعض هذه الحالات المضطربة إلى علاج دوائي يوصف من قبل طبيب نفسي، وقد يتطلب الوضع دخوله المستشفى ومن ثم يقدم له العلاج النفسي.
أما أهم أساليب العلاج النفسي غير الدوائي الأكثر استخداما مع حالات ضحايا التعذيب فهي:
- العلاج المعرفي السلوكي Cognitive Behavior therapy.
- العلاج السردي Narrative therapy.
- العلاج بالإسناد Supportive therapy.
- التقليل التدريجي للحساسية بحركة العين EMDR.
- العلاج الأسري Family therapy.
- العلاج باللعب مع الأطفال ضحايا التعذيب Play therapy with children.
- العلاج التأهيلي والمهني Rehabilitation and occupational therapy.
- الإرشاد الروحاني Spiritual counseling.
كما يمكن أن يقدم العلاج النفسي بأسلوب فردي أو جماعي حسب الحالات وتصنيفها وما يقرره المعالج للمتابعة – يحتاج الضحايا إلى متابعة وحتى بعد تلقيهم العلاج للمساعدة على تكيفهم الاجتماعي والمهني.
ويمكن للأردن من خلال مركز عدالة أو أي مراكز أخرى أن يكون مصدرا لمساعدة ضحايا التعذيب في المنطقة للعمل على إعادة تأهيلهم من خلال الخبرات الموجودة، وهذا ما يستدعي وجود برنامج إقليمي متكامل لتقديم الدعم النفسي لضحايا التعذيب.
وفي المحصلة فإنني أوصى بضرورة إعداد دليل علمي شامل للمتعاملين مع الضحايا الناجين من التعذيب وذلك لتحقيق الاستفادة القصوى من عملية تدريب الكوادر المتعاملة مع الضحايا.