نخبة بوست – معهد السياسة والمجتمع – بينما تدخل الولايات المتحدة موسمًا انتخابيًّا حاسمًا، ترتفع بشكل يومي وتيرة الاحتجاجات الشعبية الأميركية على الحرب الإسرائيلية على غزة وتتوسع دائرة الأصوات المطالبة بوقف إطلاق النار. في أوساط هذه الاحتجاجات من يندد بالدور الأميركي المباشر في دعم إسرائيل وفي عرقلة الجهود الدولية لإنهاء الحرب؛ فالانتقادات اللاذعة للرئيس الأميركي تنعته بـ Genocide Joe، أي تحميل الرئيس “جو بايدن” مسؤولية ما بات مؤكدًا لدى شرائح واسعة من الأميركيين وحول العالم بأن ما يحدث في غزة هي حملة إبادة جماعية.
في خضم هذا الحراك، أقدم الجندي في القوات الجوية الأميركية “آرون بوشنل” في 25 فبراير/شباط الماضي على إضرام النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن معلنًا ليس فقط تنديده بالحرب على غزة، بل عن رفضه أن يكون متواطئًا في الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين -على حد قوله-. حادثة الانتحار حرقًا هذه لم تكن الأولى في هذه الاحتجاجات أو في تاريخ مناهضة الحروب في أميركا، بل سبقتها أكثر من خمس حالات إضرام نار لأميركيين في ستينيات القرن الماضي احتجاجًا على حرب فيتنام. إلا أن حادثة “بوشنل” شكلت صدمة للرأي العام والإدارة الأميركية على حد سواء لأن مرتكبها هو جندي في الخدمة الفعلية العسكرية، وعنوان حادثته تنديد بقضيتين مقدستين في السردية الأميركية: الجيش الأميركي وإسرائيل.
السؤال الأهم، هل شكلت الحادثة نقطة تحول لدى الإدارة الأميركية أو حتى الرأي العام الأميركي تجاه الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في غزة؟ فبعد عشرة أيام، وباستثناء وقفات تأبين للتذكير ببوشنل وحادثته، فعليًّا تم دفن الحادثة إعلاميًّا ورسميًّا؛ فمن الصعب تقدير ما إذا كانت التغيرات في الخطاب الرسمي الأميركي وحتى الإعلامي لها علاقة بالحادثة، فالحادثة أتت في وقت كانت التوجهات هذه على وشك التحول نحو التهدئة ومحاولة الإدارة الأميركية النأي بنفسها عن ممارسات إسرائيل.
تحولات شخصيّة مع وعي عالمي
بوشنل، ذو الخامسة والعشرين عامًا، كان يعمل باختصاص عمليات الدفاع السيبراني في القوات الجوية الأميركية. ترعرع بوشنل في طائفة مسيحية متشددة في ولاية ماساتشوستس وانضم إلى القوات الجوية الأميركية خلال فترة وباء كورونا وتعرضه لضائقة مالية. إلا أن أفكاره السياسية والاجتماعية -بحسب روايات أصدقاء له- بدأت تتحول خصوصًا بعد حادثة مقتل الشاب الأميركي الأسود “جورج فلويد” على يد الشرطة.
من الجدير بالذكر أن المشاركات المختلفة على الإنترنت المنسوبة لبوشنل تظهر ربطه الأفكار اللاسلطوية بانتقاده للهيمنة الإمبريالية الأميركية في العالم وتأثيرها على المجتمعات الفقيرة في أميركا والعالم. وكانت هناك تعليقات نسبت لبوشنل منتصف العام الماضي يدعم فيها القضية الفلسطينية ويندد بالظلم الذي يواجهه الشعب الفلسطيني هناك. فيبدو أن وعي بوشنل بالقضية الفلسطينية سابق للحرب الحالية، وهذا الوعي بدا واضحًا في تسجيله المبثوث على وسائل التواصل الاجتماعي وهو يصّرح في طريقه للوقوف أمام بوابة السفارة الإسرائيلية بأنه “على وشك المشاركة في عمل احتجاجي متطرف، ولكنه ليس متطرفًا على الإطلاق مقارنة بما يشهده الناس في فلسطين على أيدي مستعمريهم!” وأكمل بوشنل عمله الاحتجاجي بإضرامه النار في نفسه وهو يصرخ مرارًا وتكرارًا “فلسطين حرة”!
بين قدسية الجيش وقدسية إسرائيل
وفي تناولها للحادثة، حاولت وسائل الإعلام الأميركية نزع الطابع السياسي عن الحادثة كما تفعل في حالات إطلاق النار الجماعية وذلك لتحييد الحادثة والتعتيم على الرسالة السياسية لها من خلال إثارة الشكوك بإصابة بوشنل بمرض نفسي وتشويش الجدل حول هذا الأسلوب الاحتجاجي الأكثر تطرفًا في التاريخ. وحيث أنها لم تكن الحادثة الأولى تنديدًا بالحرب هذه، بل سبقتها امرأة أضرمت النار في نفسها أمام القنصلية الإسرائيلية في مدينة أتلانتا في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام المنصرم، إلا أن الحادثة لم تحظ بتغطية إعلامية واسعة ولم يتم حتى الإفصاح عن هوية المرأة. تفادت كبرى وسائل الإعلام الأميركية في التغطية الأولية للحادثة ذكر كلمات بوشنل الأخيرة التي كررها والنيران تلتهم جسده، واكتفت بعنونة الحادثة بأنها احتجاج على “الحرب بين إسرائيل وحماس”.
إلا أن للحادثة مآلات مهمة في الداخل الأميركي تجلت في وضعها صوب أعين الرأي العام وفي آن واحد قضيتين حساستين لهما قداسة في المجتمع الأميركي ويعتبر انتقادهما أمرًا محرمًا اجتماعيًّا وهما: الجيش الأميركي وإسرائيل. وبيد أن الأوساط العسكرية الأميركية تتجه تقليديًّا وبشكل عام إلى الابتعاد عن التعبير السياسي، خصوصًا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إلا أن الحادثة مثلت تتويجًا للتحولات الظاهرة في التوجهات المناهضة للدور الأميركي في الحرب على غزة والمناهضة للتدخلات العسكرية الأميركية بشكل عام. تتمثل هذه التحولات بأنشطة سياسية جماعية مثل حركة المحاربين القدامى المناهضين للحرب، وهي جماعة جنود ومحاربين قدامى أنشئت في مرحلة ما بعد “الحرب على الإرهاب” وخصوصًا ضد الحرب الأميركية على العراق، وأيضًا حركة المحاربين القدامى من أجل السلام المطالِبة بوقف إطلاق النار في غزة “Veterans for Ceasefire”. وظهر نشاطهم في عدد من الوقفات التأبينية لبوشنل في مدن أميركية مختلفة تكللها محاربون قدامى يحرقون زيهم العسكري تنديدًا بالإبادة الجماعية في غزة وتكريمًا لما اعتبروه عملًا بطوليًّا ونضاليًّا من قبل بوشنل. وفي تتويج لموجة الاستياء المتصاعدة، تناولت وسائل التواصل الاجتماعي مطلع شهر مارس/آذار الحالي رسالة مفتوحة من “أعضاء في الخدمة الفعلية العسكرية الأميركية” -أي جنود يخدمون حاليًّا في الجيش- يبدون قلقهم تجاه السياسة الأميركية في دعم إسرائيل، مصرحين بأنه “من الواضح ولا يمكن إنكاره أن قوات الدفاع الإسرائيلية ترتكب جرائم حرب بشكل متكرر ومنهجي في غزة … لا يمكننا الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه”.
على الصعيد الآخر، فقدسية “إسرائيل” في الأوساط الأميركية باتت تتزعزع أيضًا، وخصوصًا في أوساط الشباب والحركات التقدمية والأقليات، وتعالت أصوات مناهضة لممارسات إسرائيل ضد المدنيين في غزة حتى من شخصيات محافظة مثل المذيعة والمعلّقة السياسية ذات التوجه اليميني المتشدد “كانديس أونز”. ويُعزى تهاوي الهالة القدسية لإسرائيل أيضًا لدور أوساط يهودية أميركية مناهضة للصهيونية ومنددة بالحرب على غزة والتي أخذت على عاتقها الفصل ما بين الأيديولوجية الصهيونية كمشروع سياسي استعماري استغلالي واليهودية كهوية إثنية دينية ثقافية، وأسقطت بدورها تهمة معاداة الصهيونية عن معاداة السامية. في ظل كل هذا، باتت أوساط التواصل الاجتماعي مولدًا ومحركًا للكثير من هذه التغيرات بأنها وفّرت منصة للأصوات التي تعبر عن توجهات مختلفة عن السردية الإعلامية الموجَّهة والسردية الرسمية المسيطِرة.
في خضم كل هذا، هناك جيل صاعد في أميركا وحول العالم لم يعد يثق بوسائل الإعلام التقليدية ويفضّل الاعتماد على التغطية المباشرة من أرض الواقع، أي الصحفيين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي من صلب قطاع غزة، وتهاوى قناع المهنية الإعلامية -الغربية منها خصوصًا- أمام هذا الجيل خلال هذه الحرب وبات يفضّل “حرية التعبير” على الوسائل البديلة بالرغم من كل محاولات الشركات الكبرى لهذه الوسائل من ضبط وتقييد هذه الحرية في قضية حرب غزة القائمة وفي انتقاد إسرائيل.
الموسم الانتخابي وتحوّل “لغة” الإدارة الأميركية نحو التهدئة
عودة إلى تقدير ما إذا كانت حادثة بوشنل ستشّكل انعطافة مهمة في الداخل الأميركي -سواء الرسمي أو الرأي العام- تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، فمن الصعوبة بمكان فصل الحادثة عن التحولات الجارية في الخطاب الرسمي للإدارة الأميركية وفي الرأي العام الأميركي. فهذه التحولات مسايرة طباقاً لتوقعات النشطاء السياسيين وبالذات نشطاء الحراك المناهض للحرب على غزة الذين توقعوا بدء التحول التدريجي للخطابين الرسمي والإعلامي الأميركي في سياقين؛ الأول، هو سياق استنفاد آلة الحرب والعزلة الدولية المتزايدة لأميركا في دعمها المباشر لإبادة جماعية عرّت المنظومة الدولية لمفاهيم حقوق الإنسان والقوانين الدولية والإنسانية وقيم الديمقراطية وهالة التحضر الغربي، فكلما طالت الحرب بانت المعايير المزدوجة والنفاق الأميركي تجاه الوضع في فلسطين وخصوصًا عند مقارنتها بالخطاب والسياسة الأميركية تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا.
والسياق الآخر والأكثر إلحاحاً هو بدء الموسم الانتخابي. فكان وما زال من المتوقع أن نشاهد تحولات مهمة في الخطاب السياسي الداخلي بالذات من قيادات الحزب الديمقراطي وعلى رأسهم الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس. ويدخل الحزبان التقليديان الديمقراطي والجمهوري هذا الموسم الانتخابي في منافسة حاسمة تظهر تقدم الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب على كل منافسيه من داخل حزبه في الانتخابات التمهيدية، مما يشير إلى احتمالية عالية لعودته إلى سدة الحكم في البيت الأبيض خصوصًا في ظل تراجع شعبية الرئيس بايدن على عدة أصعدة، منها المحلية ومنها السياسة الخارجية وبالتأكيد سياسة إدارته تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة. فمن المؤكد أننا سنشهد تحولات قادمة أكثر انعطافًا في خطاب الإدارة الأميركية الديمقراطية خصوصًا بعد التصويت المدوّي للحراك المناهض للحرب في ولاية ميشغان (حيث صوت أكثر من مئة ألف ناخب لصوت “غير ملتزم“) وهو ما يعتبر تصويتًا احتجاجيًّا يشي بتحذير أوساط شعبية واسعة من العرب الأميركيين والشباب والأوساط التقدمية بأنهم لن يصوتوا لبايدن احتجاجًا على سياسة إدارته للحرب على غزة.
وفي الخامس من مارس/آذار، في يوم الثلاثاء الكبير للانتخابات التمهيدية، مكّن كل من ترامب وبايدن نفسيهما كمرشحين رئيسيين بالرغم من الحراك المنظم للجالية العربية والأوساط الشبابية في ولايات مختلفة للتصويت الاحتجاجي ضد بايدن. فيما يتعلق بغزة، اكتفى بايدن في استخدام لغة المراوغة في خطابه عن حالة الاتحاد، فطالب بـ “وقف فوري ومؤقت لإطلاق النار” بدلًا من استخدام مصطلح “هدنة”، وأعلن عن رصيف بحري للمساعدات لأهل غزة. تأتي هذه اللغة والتحول الميكروسكوبي في توجه الإدارة الأميركية تجاه الحرب وقد كان موكبه قد اضطر إلى سلك طريق أطول تجاه مبنى الكونغرس بسبب قطع محتجين للطريق في مظاهرة غاضبة مطالبة بوقف دائم وفوري لإطلاق النار في غزة.
خاتمة
خلاصة المشهد، على الرغم من تصاعد وتيرة الاحتجاج والرفض للسياسة الأمريكية والتحولات التي يشهدها الرأي العام الأمريكي الذي يدفع الإدارة الديمقراطية اليوم نحو مزيد من لغة المراوغة، إلا إن الخطاب الموجّه من الإدارة الأميركية إلى الشعب الأميركي وإلى العالم أجمع مُحفَز أكثر بمصالح جيوسياسية واقتصادية على الصعيد الدولي أكبر حتى من تنافس الحزبين التقليديين على الحكم، وبالتالي هو أكبر أيضًا من قدرة شاب جندي أبيض انتحر حرقًا على خلق انعطافة مُهمة في سياسة الهيمنة الأميركية التي توفر الغطاء والرعاية المستمرين لإسرائيل وسياسات حربها على غزة.