الازدهار في مواجهة الكراهية التي تكتسح العالم
الازدهار في مواجهة الكراهية التي تكتسح العالم؟ يخلق الازدهار اعتمادًا متبادلًا بين الأمم يجعلها غير قادرة على الاستغناء عن بعضها، لكن التعاون العالمي ليس بالحالة الصلبة المتماسكة، ولا هو مجرد هواية جميلة أو قيم مستقلة بذاتها، إذ تمثل قيم وسياسات التعاون والتضامن والتعايش في التجربة الإنسانية العالمية قشرة رقيقة وهشة. يطغى على التاريخ العالمي الصراع الدموي المدمر الذي لا يرحم، وبطبيعة الحال، تستعيد الجماعات البشرية بسرعة وبشكل تلقائي كل محفزات الدفاع عن نفسها في مواجهة الخوف من المهددات؛ كالآخر، أو ندرة الموارد والتنافس عليها، أو فقدان المكتسبات.
إن جميع أمم العالم تقريبًا يحركها الخوف أكثر من الازدهار، والعداء أكثر من التنافس، والكراهية أكثر من التعايش، وهي ليست مستعدة للنظر في فرص واحتمالات التعاون لمواجهة أزماتها أكثر من العداء والكراهية والصراع؛ فالخوف لا يسمح بالتفكير العقلاني والتأمل والبحث الهادئ عن فرص مواجهة الأزمة، لكنه يحفز دفاعات راسخة ومتراكمة من القتال والكراهية.
موجة التطرف تكتسح العالم
يجب أن نتذكر دائمًا أن الإنسان في تكوينه البيولوجي والفيزيائي يشبه الثدييات بنسبة 98%، وتحركه غرائز الخوف والبقاء مثل جميع الكائنات الحية. ولسوء الحظ، فإن مستثمري الخوف والحروب والتطرف والكراهية يدركون هذه الحقيقة أكثر من الإصلاحيين ومعظم الطبقات والفئات المكونة للأمم. هذا يفسر بوضوح موجة التطرف الديني والقومي الصاعدة التي تكتسح العالم؛ لا يكاد يستثنى من ذلك أمة أو دين.
الناس لا تصغي إلى الفلاسفة والمفكرين المشغولين بالارتقاء والتعايش والتعاون إلا في حالات الشعور بالأمان والاستقرار، بينما في الوقت نفسه، تتبع بشكل كاسح دعاة التعصب والتطرف والشعور بالتميز. على سبيل المثال، يخاف الإنسان من العنكبوت أكثر من أدوية تسكين الألم، رغم أن الأدوية تقتل الملايين كل عام، بينما ضحايا العناكب حول العالم قليلون جدًا؛ فالتجربة المتراكمة على مدى القرون أنشأت لدى الإنسان غريزة تلقائية لا إرادية للحذر من العنكبوت، بينما البارامول لا يمثل سوى تجربة قصيرة لم تنشئ غرائز بنيوية.
سؤال مشروع؟
هنا سؤال مشروع ولو على سبيل التمرين الذهني: ماذا ستكون الحال لو كانت البيئة المحيطة بالمجتمعات والناس مستمدة من الازدهار؟ بالطبع، الازدهار ليس فقط الوفرة أو الثراء؛ إنه ببساطة متوالية من التشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حول الموارد والأماكن. سيكون المحرك الأساسي المفترض لتجمعات الناس وعلاقاتهم في ظل حالة الازدهار قائمًا على تنظيم وتأمين الخدمات والحياة اليومية والاقتصادية والاجتماعية. وعلى هذا الأساس، تقوم مصالح وأعمال وأسواق، ومؤسسات اجتماعية وتعليمية وصحية، وتدبير الموارد والإنفاق، والعلاقة مع الحكومات والدول الخارجية ودورها والإنفاق العام وإدارة الموارد العامة والسياسات الضريبية والمركزية وحماية المستهلك.
وفي ذلك، يتنافس المواطنون ويشكلون أنفسهم في كتل وتيارات وتحالفات. وإن كان ثمة متدينون، فهم يشاركون مع غيرهم على أساس تحسين الحياة وتقديم أفضل الخدمات؛ فلن يعرفهم الناس على أساس أنهم متدينون، بل بأن لديهم فكرة واضحة قابلة للجدل والتجريب والتصويت، متصلة على نحو مباشر بتحسين الحياة بما هي، وكما صار يفهمها جميع الناس -بعد تقرير الأمم المتحدة للتنمية الإنسانية- فهمًا عالميًا موحدًا: أن يعيش الناس حياة صحية مديدة، ويحصلوا على تعليم مناسب ومستوى معيشي لائق.
ستقوم حول هذه المشروعات تجمعات سكنية وعلاقات اجتماعية، ومؤسسات للتأثير والتدريب والتطوير، وصحافة وإعلام، مستمدة من السوق والتفاعل الاجتماعي في اتجاه التأثير والاختلاف والتنافس، ومؤسسات اجتماعية وثقافية تعبر عن هذا التنافس والأفكار المنظمة. هذه المؤسسات في تشكيلها وتعدديتها يفترض أن تنشئ قواعد عملها وتنظيمها، القائمة بداهة على ضرورة بقائها جميعًا وعدم إقصائها، لأنها القاعدة الوحيدة التي تضمن للجميع أن يبقى، ولكن بقاء مشروط باتجاهات الناس وإقبالهم أو رفضهم.
الناس يتجهون بديهيًا، وكما هو متوقع، بعد تأمين بقائهم، إلى التجمع والعمل على أساس الرقي بحياتهم، والبحث عن المعنى والجدوى. وبذلك تنشأ الثقافة والفنون والموسيقى والرواية والقصة والدراما والسينما، والتيارات السياسية والفكرية والفلسفية، وأنماط واتجاهات شتى في أسلوب الحياة. ويكون الفرق بينها كبيرًا، ويبدو بعضها بمعيار الدين والمنظومات الاجتماعية والثقافية، غريبًا أو مرفوضًا أو خارجًا عن المألوف، ولكن يجب أن تظل تتمتع بمقدار متساوٍ من الحرية والفرصة في التعبير.
هنا سيكون الخلاف والصراع، وقد تكسر متوالية التشكل الاقتصادي والاجتماعي، أو تنحرف إلى العنف والصراع المدمر. عدم القدرة على ملاحظة العلاقة بين الحريات والعدالة والازدهار وتحسين الحياة، يجعل الأسواق والمعارف تعمل ضد نفسها تمامًا، مثلما يخطط للديمقراطية والانتخابات بمعزل عن فرص الناس ومواردهم وحياتهم.
الفقر والتطرف
لم يعد جديدًا أو إضافة الحديث عن مجتمعات محصنة من الخطر؛ تملك المناعة والقدرة على مواجهة المخاطر، سواء كانت كوارث أو أزمات اقتصادية أو اجتماعية، أو تطرفًا وتوترًا ثقافيًا ودينيًا. ومن البداهة القول إن مواجهة التطرف بحملات “التنوير والاعتدال”، في المعابد والصحافة والمؤتمرات والندوات، لا تساهم في ذلك بشيء، إلا بمقدار ما تساهم “كتالوجات” المطاعم في توفير الغذاء ومواجهة الجوع!
لقد أصبح الحديث عن الفقر والتطرف يقع في متوالية البناء الاجتماعي والاقتصادي، أكثر مما هو حلول وأفكار ومعونات مباشرة، لأنهما (الفقر والتطرف) يأتيان في متوالية من التشكلات والنتائج والأسباب والمسببات والآثار، ثم سلسلة شبكية من النتائج لا يمكن التعامل معها إلا بتفكيكها.
يمكن اليوم أن نلاحظ بسهولة كيف أن الدول العربية الحديثة اقتبست النموذج الغربي في التحديث، لكنه تحديث منفصل عن متوالياته وشروطه. ففي الغرب، كانت الثورة الصناعية، في أهم جوانبها وتجلياتها، متوالية من الموارد والأسواق الجديدة التي أنشأت مدنًا وطبقات ونخبًا جديدة. وفي هذا الصراع بين النخب والطبقات، تشكلت التعددية السياسية والثقافية، وترسخت الديمقراطية وسيادة القانون، لأجل تنظيم سلمي لهذا التنافس والصراع. هكذا، تحولت الوفرة الجديدة في الموارد والمعارف إلى منظومة اجتماعية وثقافية جديدة؛ سيادة القانون والمساواة التامة بلا استثناء أمام المحاكم، ونهاية الاحتكار الطبقي للسياسة والامتيازات الاقتصادية والحق الإلهي المزعوم لفئة من الناس. كما تشكل معنى جديد للحرية؛ لم تعد الكلمة للمرة الأولى في تاريخ البشرية مصطلحًا قانونيًا يعني نقيض العبودية والرقّ.
في السعي الحتمي والتلقائي للإنسان بعد أن يحلّ مشكلة البقاء ويملك وفرة من الطعام والوقت تسمح له بالتفكير، فإنه يبحث عن المعنى والجدوى. ولعلهما (المعنى والجدوى) كلمتا السرّ في ما جرى ويجري منذ إقامة الدولة الحديثة؛ فلا يمكن أبدًا، مع تطوير المدارس والمؤسسات ووفرة المعرفة والموارد، إلا أن يبحث الناس عن المعنى والجدوى.
المشاركة الإجتماعية تواجه التهميش والتطرف
لماذا لم تنشئ الوفرة في المعرفة والوقت والموارد في أقاليم عدة متوالية من التطور السياسي والاجتماعي والثقافي، كما حدث ويحدث في التاريخ والجغرافيا؟ هي بدلاً من ذلك أنشأت متوالية مضادة من التسلط والقهر وغياب الحيلة، لأنه -وببساطة- لا يمكن حماية هذا التحديث إلا بمنظومة اجتماعية وثقافية جديدة ملائمة من المدن والمجتمعات، التي تجد المعنى والجدوى في الارتقاء بنفسها وحريتها. فلا يمكن أن يذهب الناشئة إلى المدارس والجامعات ويتواصلون مع العالم ويعرفون كل شيء، ثم تواصل النخب السياسية والاجتماعية همها بالقدرة على السيطرة ومواصلة الاحتكار والامتيازات، ورفض المشاركة والحريات والمساواة.
اليوم، لا مجال لمواجهة الصراع العالمي والفقر والتهميش والتطرف الديني والعرقي والطائفي، إلا بالمشاركة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الواسعة للمجتمعات والناس، ليقرروا مصيرهم. أو أن يعود الناس رعاة وصيادين وجامعي ثمار لا يملكون من وقت إلا لتأمين بقائهم!