نخبة بوست – يفترض في الانتخابات النيابية أنها مراجعة شاملة للسنوات الأربع الماضية وتقدير لما سيكون عليه الحال بعد أربع سنوات، إنها إعادة تنظيم سياسي واجتماعي باتجاه المصالح والأفكار التي يشكلها المواطنون أفرادا وجماعات وطبقات، وأن يعكس النواب المنتخبون هذه التوقعات والمصالح والأفكار.
لقد تكرست الانتخابات النيابية على نحو متكرر ومنتظم منذ العام 1989 وهي تجربة يجب أن تكون كافية ليتشكل وعي جمعي عملي وحدسي للتغير الإيجابي والسلبي في الحياة العامة والمؤشرات الأساسية للتنمية والتقدم (الكرامة والصحة والتعليم والخدمات ونوعية الحياة ومستوى الدخل والمعيشة)، فالتطلعات والمراجعات والأفكار تحملها ببساطة ووضوح طبقة تعبر عنها وتتحمل مسؤوليتها. وإذا لم تتمكن الأمة بأفرادها وجماعاتها ومؤسساتها وطبقاتها من تنظيم نفسها وإعادة وصيانة تنظيمها الاجتماعي والسياسي تتحول الانتخابات النيابية إلى زينة غير ضارة.
هكذا يجب أن نتساءل ونكرر السؤال وبخاصة في المواسم الانتخابية أين كنا في العام 2020 وأين صرنا في العام 2024 وأين سنكون في العام 2028. لم تعد الإجابة صعبة، ولا تحتاج إلى متخصصين، حتى لو كانت كذلك فإن المواطنة تقتضي بالضرورة القدرة على تقييم الأداء العام؛ التشريعي الرقابي والتنفيذي، وبناء تصور لما يجب أن يكون عليه الواقع وما يمكن فعله للاقتراب من الواجب إن لم يكن تحقيقه.
المواطن مسؤول أساسا عن الواقع القائم. ويعبر عن مسؤوليته هذه باختيار النائب الذي يحقق تطلعاته التي يحب أن تكون صحيحة ومستمدة مما نريد أن نكون عليه وما يجب فعله لتحقيق ما نحب أن نكون. والنائب مسؤول أساسا عن الأداء الحكومي، بالثقة التي يمنحها للحكومة وبعمله التشريعي والرقابي الذي يفترض أن ينظم ويوجه الحكومة، ويقيس الإنجاز والقصور.
المواطن مسؤول دستوريا عما يجري، فالدستور ينص على أن “الأمة مصدر السلطات” فالسلطات تؤدي عملها وتكتسب وجودها وشرعيتها من رضا الأمة (المواطنين) وموافقتها، وهذا ليس فقط امتيازا وولاية للأمة لكنه مسؤولية كبرى وأمانة ثقيلة. والمواطن يمول الموازنة العامة من الضرائب التي يدفعها. فهو ينفق على السلطات والمؤسسات العامة، وهو في ذلك شريك في الولاية والمسؤولية على المؤسسات والسياسات.
إذن نريد بوضوح انتخابات نيابية تعكس ولاية المواطن ومسؤوليته، وهي مسؤولية لا تقف عند الانتخاب، لكنها تمتد إلى تقييم العمل العام وأداء السلطات، وأن يظل النائب بعد انتخابه قادرا على متابعة وتحقيق إرادة الأمة (الناخبين) وهذا ليس مطلبا مثاليا (ولا بأس بالمثالية على أي حال) لكنه سياسات وبرامج واقعية تحملها وتحرسها الأمة ممثلة قانونيا بمجلس النواب، وعمليا بسلوك واتجاهات الأفراد والجماعات والطبقات وسائر مكونات المجتمع.
لا تعمل الانتخابات تلقائيا حتى لو كانت نزيهة باتجاه الإصلاح والتقدم، ولا تكفي نزاهتها منزوعة عن السياق العملي والفلسفي (الفلسفة هنا بمعنى المبادئ والأفكار الأساسية) لا تنشئ أفضل القوانين والإدارات الفنية للانتخاب مجالس ومؤسسات ملائمة إذا لم تكن تعمل في بيئة محيطة من إدراك المواطنين إدراكا صحيحا بما يجب فعله وتحقيقه، ووعي راسخ يشبه الأيديولوجيا بأن الانتخابات تعكس شعورنا العميق بنقص المعرفة، إذ لا حرية ولا ديمقراطية إلا وتنشأ عن عدم يقيننا بالصواب والشخص الملائم والكفؤ والأفكار والبرامج الصحيحة، وبسبب نقص المعرفة وغياب اليقين تتعدد خياراتنا على نحو حقيقي بين المرشحين والأفكار. فالحرية في الانتخاب والعمل والمواقف ليست سوى تعدد الخيارات، كيف تكون الحرية إذا لم يكن لدى الناخب خيارات عدة حقيقية، وبالتالي لا تنمية ولا إصلاح من غير تعدد الخيارات وجدلها والترجيح بينها.
إن المواطن يلغي حريته ويتنازل عن مسؤوليته عندما لا ينشئ خيارات متعددة، وحين لا يقارن ويوازن بين المرشحين والبرامج معتقدا تمام الاعتقاد بأنهم جميعا يحملون إمكانية الصواب والخطأ والمعقولية. فإذا ذهب إلى الصندوق منشئا خيارا وحيدا منحازا من غير جدل حقيقي وحاسم مع احتمالات خطئه في الاختيار وصوابية وأفضلية الاختيارات الأخرى، يكون قد أطلق الرصاصة القاتلة على الانتخابات، ولا أهمية بعد ذلك أن يكون القانون جيدا وعادلا وأن تكون الإجراءات والسياسات الانتخابية صحيحة ودقيقة ونزيهة. ما أهمية ذلك في ظل خيار محسوم لمرشح أو اتجاه. ما معنى الحرية إذا لم تنشئ عدة خيارات؟ ما قيمة الحرية المتاحة أو الممكنة إذا لم توظف فعليا وتوظيفا حقيقيا في دراسة الخيارات والترجيح بينها. إنها تتحول إلى أحادية لا تختلف عن الاستبداد. المواطن يقمع نفسه ويظلمها ويستبد بها حين يلغي خياراته المتعددة بين المرشحين والبرامج والأفكار والاتجاهات.
إذن المفتاح الأساسي للنجاح السياسي والانتخابي هو وعي المواطن بما يريده في الصحة والتعليم والتكامل الاجتماعي والخدمات ونوعية الحياة وبناء تصور نظري عقلاني للخيارات والفرص المتاحة والإيمان العميق باحتمال خطأ الذات وصحة ومعقولية الآخر. وبعد ذلك وفقط بعد ذلك يمكن الحديث عن عدالة القوانين والسياسات والإجراءات، ومراقبة ومحاسبة السلطات.