نخبة بوست – التقارير المتواترة حول صفقة قريبة بشأن الأسرى تستوجب اعتماد درجة عالية من الحذر. حتى الآن، لم تنشر حركة حماس أي بيان رسمي، ووثيقة الموافقة التي كان من المفترض أن تنقلها الحركة إلى مصر لم يجر تقديمها بعد وليس بالإمكان معرفة ما إذا كان ردّها سيكون كافيًا لتفكيك جميع الألغام التي أعاقت، حتى الآن، استكمال الصفقة بصورة تستطيع الحكومة الإسرائيلية، أو أغلبيتها على الأقل، المصادقة عليها.

لكن، وفقًا للتقارير، وبمدى ما كانت دقيقة حقًا، يمكن الاستنتاج أن الأسس الحيوية للتقدم نحو تنفيذ الجزء الأول من الصفقة قد تم إرساؤها فعليًا. فبحسب التقرير المفصل الذي نُشر على موقع “الشرق نيوز” السعودي، ستشمل المرحلة الأولى هذه الإفراج عن 33 أسيرا إسرائيليًا، من بينهم مواطنون مدنيون ومُجنَّدات، مقابل الإفراج عن نحو ألف أسير فلسطيني. وسيكون بإمكان سكان غزة الذي هربوا من شمال القطاع العودة إلى منازلهم وتقوم قوات الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من المناطق التي سيعود إليها المهجَّرون. ويفترض أن تستمر هذه المرحلة 16 يومًا يسري خلالها وقف مؤقت لإطلاق النار، تبدأ بعدها المداولات حول شروط تطبيق وقف دائم وثابت لإطلاق النار. في المرحلة الثانية، التي سوف تستمر 42 يومًا، تجري مفاوضات حول الإفراج عن المزيد من الأسرى ـ بينهم جنود وضباط ـ مقابل إطلاق سراح مجموعة إضافية أخرى من الأسرى الفلسطينيين. في المرحلة الثالثة، التي ستستمر 42 يومًا هي الأخرى، سوف تجري مفاوضات حول انسحاب كامل للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، بعد تبادل جثامين الشهداء الإسرائيليين والقتلى الفلسطينيين الموجودة في حوزة إسرائيل.

غياب التخطيط سيضع إسرائيل في مواجهة واقع "مرير"
نشطاء يعتصمون لإعادة الأسرى الاسرائيليين لدى حماس

ينبغي التشديد هنا على أن هذا تقرير واحد فقط من بين وفرة من التفاصيل والتقارير الأخرى التي نُشرت في وسائل إعلام عربية ومن غير الممكن تحديد مدى دقة هذا التقرير ومصداقيته. ناهيك عن أنه من غير المعروف ماذا سيكون رد حكومة إسرائيل بعد تلقي الرد النهائي من حركة حماس.

مقابل علامات الاستفهام العملية العديدة التي تثيرها هذه التقارير، هنالك يقين عميق في مجال واحد: إسرائيل لا تزال غير جاهزة، بعد، ولا تمتلك خطة استراتيجية للسيطرة على قطاع غزة وإدارته، سواء فشلت صفقة الأسرى أو تم استكمالها وتجاوزت جميع العقبات. وقد بدأت في إسرائيل، منذ يوم أمس، تلك “الهستيريا” ـ كما وصفها بيني غانتس ـ التي ليس من الصعب التكهن بحقيقة مصدرها موضحة أن الحرب ستستمر سواء تم التوصل إلى صفقة أم بدونها، وأن احتلال رفح ليس جزءًا من المعادلة التي تشمل وقف إطلاق النار. إلا أن دعوات الحرب هذه لا تنسجم مع الفهم، ولا مع الموافقة التي تم نقلها إلى حماس كما يبدو، بأنها سوف تحصل على ضمانات أمريكية وعربية لوقف إطلاق النار، ثم لوقف الحرب لاحقًا. هذه الضمانات، التي أفادت بعض التقارير بأنها قد قُدِّمت لحركة حماس، هي شرط أساس لمجرد عقد الصفقة، إذ أنها هي (الضمانات) التي ستضمن قدرة مئات آلاف المهجَّرين الغزيين على العودة إلى شمال القطاع بصورة آمنة.

تناقض صارخ مع الموقف الأمريكي!؟

لقد أصبح واضحًا بشكل بارز، منذ الآن، غياب التخطيط الذي سيضع إسرائيل في مواجهة واقع لم تكن مستعدة له. وبدون البنى التحتية في مجال المياه والكهرباء، بدون مستشفيات قادرة على العمل، بدون عيادات، بدون مواد بناء تتيح للغزيين ترميم وإعادة بناء بيوتهم، ولو بصورة مؤقتة، وبدون إدارة مدنية ما يكون في مقدورها تمثيل السكان أمام الجيش الإسرائيلي ـ سوف تضطر إسرائيل إلى أن ترتجل، على عجل، بعض التدابير التي كان ينبغي عليها تبنيها واتخاذها قبل أشهر. هل ينبغي تشكيل حكم عسكري إسرائيلي في شمال قطاع غزة، في تناقض صارخ مع الموقف الأمريكي؟ أم هل ينبغي تعيين مجموعات إدارية محلية، إن تم العثور على مثل هؤلاء من بين ذوي المكانة الاجتماعية، رؤساء العصابات أو رؤساء العشائر أو من بين الموظفين الذين كانوا يعملون في سلطة حماس؟ أم ينبغي ربما لفلفة الموقف الإيديولوجي والسماح للسلطة الفلسطينية بالبدء بإدارة شؤون القطاع، بافتراض أنها ستقبل بأن تأخذ على عاتقها هذه المهمة الجسيمة وكأنها مقاول ثانوي يعمل لدى إسرائيل.

لا يمكن المبالغة في مدى حيوية هذه التدابير. لأنه فور بدء تحرك مئات آلاف السكان إلى شمال قطاع غزة، وكذلك قوافل المساعدات الإنسانية ـ حتى لو ازداد حجمها بصورة كبيرة مع بدء تشغيل الميناء المؤقت الذي ستنشئه الولايات المتحدة ـ لن يستطيعوا الاكتفاء فقط بالمعلبات، بأكياس الأرز وأطقم الإسعافات الأولية. ستكون رعاية هؤلاء السكان أكثر تركيبًا وتعقيدًا بكثير مما عرفته إسرائيل حتى اليوم، لأن الجيش الإسرائيلي ـ بموجب شروط صفقة الاسرى ـ سوف يضطر إلى إبعاد نقاط تواجده عن المناطق المأهولة بالسكان في شمال القطاع. وعليه، فحتى لو أوكلت إليه بعض مهام الإدارة المدنية المباشرة، سيكون من الصعب عليه القيام بذلك من دون خرق شروط الصفقة. وهكذا، فبدون مشاركة السلطة الفلسطينية، وبافتراض أن أية قوة عربية أخرى لن تقبل بالحلول مكان السلطة الفلسطينية، فمن المؤكد أن قوات حماس ستعود لتكون صاحبة القول والفعل.

إذا افترضنا أنه سيتم تنفيذ الجزء الأول من الصفقة، الذي سيستمر 16 يومًا، فليست ثمة لدى إسرائيل خطة بشأن كيفية التصرف في حال فشل المرحلة الثانية. لأنه في مثل هذا الوضع، سوف يضطر الجيش الإسرائيلي إلى التعامل مع عشرات، وربما مئات، آلاف الغزيين الذين عادوا إلى شمال القطاع، وفي الوت نفسه إيجاد حل لنحو مليون من السكان المحاصَرين في رفح، والذين بما يخصهم أيضًا لا تملك إسرائيل خطة عمل واقعية، علمًا بأن الخطط التي قدمتها إسرائيل إلى الأمريكيين في هذا الصدد تُعتبر غير كافية وغير مُرضية. وبالمناسبة، من شأن هذا الطريق المسدود أن يبقى قائمًا حتى لو قررت إسرائيل التخلي عن احتلال رفح، سواء بسبب تعقل رئيس الحكومة بصورة غير متوقعة أو بسبب إنزال مكابس الضغط الأمريكية كامل ثقلها على رأس إسرائيل.

إذا ما تحقق الأمل في أن يتم استكمال جميع عناصر الصفقة وإجراءاتها بشكل تام، وفق الجدول الزمني الذي تحدثت عنه تقارير وسائل الإعلام العربية، فسيكون معنى ذلك أن وقف إطلاق النار سوف يستمر لفترة 142 يومًا بالإجمال، طبقًا للتفاهمات التي سيتم التوصل إليها بشأن الإفراج عن كل جندي مُختَطَف، أي ما يقارب خمسة أشهر ـ هي الفترة نفسها التي امتدت الحرب عليها، تقريبًا.

في مثل هذه الفترة الطويلة، وبينما تتخبط إسرائيل بشأن كيفية إدارة قطاع غزة في ظل تقييدات وقف إطلاق النار والضغوط الدولية، قد تكون الساحة الفلسطينية بالذات ولّادة الحلول الأصيلة التي ستؤثر على مصير قطاع غزة. فقيادة حماس في الخارج، التي تحرص على مستقبلها ومستقبل التنظيم، تواصل الدفع بفكرة المصالحة مع حركة “فتح”. ويعمل قادتها، الذين التقوا في الصين الأسبوع الماضي مع ممثلي فتح، من أجل صياغة “خطوط أساس” جديدة تتيح انضمام حماس إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الفكرة التي تدفع بها مجموعة من قيادات الجيل الشاب في حركة “فتح”.

حماس تشترط إطلاق سراح مروان البرغوثي

في موقع “الشرق” السعودي، الذي كان قد نشر تفاصيل صفقة الأسرى، نشر أمس أن حماس طلبت إطلاق سراح مروان البرغوثي وأن إسرائيل لا تعارض ذلك شريطة أن يتم إبعاده إلى غزة. ومثل بقية التقارير حول تفاصيل الصفقة، ليس من الواضح بعد مدى موثوقية هذه المعلومات، لكن حماس كانت قد طالبت، في أية صفقة تبادل في السابق، بإطلاق سراح البرغوثي الذي يحظى بتأييد جارف بين الجمهور الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن شأن إطلاق سراح البرغوثي أن يكون بمثابة اختراقة ترسي الأسس لإعادة بناء قيادة فلسطينية جديدة.

مروان البرغوثي في المحكمة المركزية في تل أبيب

البرغوثي، أحد واضعي “وثيقة الأسرى للوفاق الوطني” من العام 2006، والتي وافقت فيها جميع الفصائل الفلسطيني وبضمنها حماس، على إقامة دولة فلسطينية في حدود الخط الأخضر وعاصمتها القدس ـ عمل من داخل السجن على دفع المصالحة بين حماس وفتح لمنح منظمة التحرير الفلسطينية شرعية واسعة كمنظمة تمثل كل الفلسطينيين بصورة حصرية. ومنظمة التحرير الفلسطينية هي التي وقعت على اتفاقيات أوسلو وهي مصدر صلاحيات السلطة الفلسطينية ومرجعيتها. ومن شأن منظمة تحرير “مجدَّدة” وتضم حركة حماس أن تضمن ليس بقاء ووجود المنظمة السياسي فحسب، بل أن تكون العنوان المخول صلاحية إدارة قطاع غزة والضفة الغربية ويحظى بدعم دولي. وهكذا، بينما تنظر إسرائيل، بدرجة عالية من التوتر، في التقارير حول نوايا أو استعداد قطر لطرد قيادة حماس ن أراضيها، وكأن حياة هذا التنظيم مرهونة بذلك، تنشأ في فلسطين تطورات وتحركات لا تمتلك إسرائيل، حيالها أيضًا، أية خطط استراتيجية.

هآرتس بالعربي
شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version