نخبة بوست – من ماحص، كانت البداية، وفي ثراها كان المُستَقَرّ.
وبين الولادة والرحيل، مسيرة رجل دولة، ومثقف وعسكري، وسياسي استراتيجي، عروبي، ترك اسمه، علامةً فارقة، في الحياة السياسية الأردنية.
في آذار، من عام 1947م، ولد معروف البخيت، في بلدة آبائه وأجداده، ماحص القرية الوادعة، آنذاك، المشرفة والمتوسطة، والشقيقة التوأم لقرية الفحيص، حيث النموذج المميز من التآخي بين عشائر القريتين، المسلمة والمسيحية؛ وحيث الارتباط العضوي بالقضية الفلسطينية، إذ قدّمت عشائر عباد كوكبة من زهرات شبابها شهداء وثواراً ومساندين لأشقائهم في فلسطين..
كانت ماحص، منذ عشرينيات القرن الفائت، إحدى ملاذات العرب الدروز، الذين جاؤوا إلى الأردن معززين مكرمين، إثر الثورة السورية الكبرى. وترك بنو معروف أثراً حسناً وسيرة كريمة لدى أهالي القرية، انعكست حتى على الأسماء، ومن هنا، اكتسب معروف اسمه، الذي ارتبط في وعيه، بواحدة من أبرز ثورات الاستقلال العربي، في القرن العشرين.
من مطلع الوعي، في ماحص، القرية، ومن حقولها ومراعيها وحياة الحرّاثين وأحلامهم وكفاحهم، انتقل البخيت، طفلاً، برفقة عائلته إلى المحطة، حيث حطّ والده رحاله، ولتبدأ معارفه وثقافته تنمو من هناك، في أحد الأحياء التي شهدت تشكل البذرة الأولى للطبقة الوسطى في البلاد، وحيث تندمج الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في بيئة واحدة، جامعة صاهرة.
ومن مفارقات القدر، أن يشهد الطفل ذو الأربع سنوات، حادثةً سياسية هزّت الأردن والمنطقة، في حينها، عندما رأى بأم عينه عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رياض الصلح، على بوابة محطة عمان، وهي الحادثة التي بقي يذكرها، بتفاصيلها ووجوهها، طيلة سنيّ حياته.
أحبّ البخيت عمان وانتمى إليها، وعاش تفاصيلها طفلا وطالباً، شجّعته والدتُه في سنّ مبكرة على الاعتماد على الذات واستقلال الشخصية والعصامية؛ فكان أن عمل، خلال فترة دراسته الإعدادية، في عدة مهن، من بينها بيع السجائر وبيع الجرائد؛ ولعل هاتين المهنتين تركتا أثراً خالداً في حياته، استمر حتى رحيله؛ السجائر والقراءة..!
التحاقه بالجيش العربي والقوات المسلحة
الفصل الأهم في مسيرة البخيت، كان التحاقه بالجيش العربي، القوات المسلحة الأردنية؛ ليندمج التلميذ الشاب بهذه المؤسسة المنضبطة، وتتشكل ملامحُ شخصيته ومعارفه في رحابها، مثلما تشكل وجدانه.
قضى البخيت نحو نصف عمره ضابطاً في القوات المسلحة، متنقلاً بين قطاعاتها، شاهداً على معاركها وبطولاتها، مؤمناً برسالتها، ودورها ليس فقط في الدفاع عن الوطن، ولكن كذلك في ميادين التنمية وفي صهر الأردنيين، وغرس القيم النبيلة، وهو ما كان يتحدث عنه باعتزاز وإجلال ويقدم الأمثلة والشواهد عليه، وطبقه في حياته العملية والسياسية..
عاصر البخيت حروب حزيران والكرامة ورمضان، كان على رأس عمله، من رادار عجلون إلى قواعد سلاح الجو في المفرق والصفاوي والأزرق، وتنقّل في كافة بقاع الأردن، ضابطاً ومدرّباً ومشرفاً، وعرف الناس ، وأنماط حياتهم وإنتاجهم، و أدرك همومهم وآمالهم..
غادر البخيت الخدمة العسكرية، بإحالته على التقاعد عام 99، برتبة لواء ركن، لكنها لم تغادره أبداً؛ إذ بقي عسكرياً حتى آخر لحظات حياته، متمثلاً قيم وأخلاق المؤسسة العسكرية، التي منحته اللقبَ الأحبَ إلى قلوب كل معارفه؛ “الباشا”، وهو لقبٌ تتكثّف فيه شخصية معروف البخيت، الذي أعطى “الباشوية” حقَها كاملاً من الرقي والتسامي والترفّع عن الصغائر وعن الصغار.
الباشا؛ دبلوماسيّا
ثمّ كانت تجربته القصيرة، ولكن الثرية، في العمل الدبلوماسي، مستشاراً في وزارة الخارجية، مشرفاً على ملف اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وسفيراً في أنقرة، لأقل من ثلاثة أعوام، وسفيراً في تل أبيب، لأقل من سبعة شهور؛ عمل فيها، بجدّ ودأب، على ملف الأسرى الأردنيين في سجون الاحتلال، حتى نجحت الدبلوماسية الأردنية في استعادتهم، وواصل اشتباكه، دبلوماسيّاً، مع كل ما يمسّ مصالح الأردن وهويته وحقوقه التاريخية؛ إلى أن اختاره جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، نائباً ثم رئيساً لهيئة الأمن الوطني، ومديراً لمكتب جلالته، لفترة لم تتعدَ الشهور القليلة، حتى جاءت تفجيرات عمان الإرهالية، وليكلف جلالة الملك، بعدها بأسالبيع، معروف البخيت بتشكيل حكومته الأولى.
مفاجأة البخيت استلهمت رؤى الملك عبدالله الثاني
على وقع الاعتداءات الآثمة على أمن الأردن، وصل الباشا إلى الدوار الرابع، في مرحلة كانت تمورُ بالتحديات والمخاطر، من تنامي ظاهرة الإرهاب، إلى صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف، إلى تطورات الأزمة العراقية إثر احتلال بغداد، إلى مقدمات حرب تموز في لبنان، وما تلاها، إلى تطورات الساحة الفلسطينية.
كان الانطباع الأولي، لدى عدد من المراقبين، أن البخيت؛ جاء ببرنامج عرفيّ، يحدّ من الحريات، ويتجه مباشرة لمجابهة التحديات الأمنية الصريحة..
وكانت المفاجأة أن الرجل جاء ببرنامج للإصلاح السياسي، ينتهي بالوصول إلى تداول تأليف الوزارات، على أسس حزبية برلمانية، أعلن عنه بجرأة في ملتقى عام، رعاه ودعم مخرجاته جلالة الملك بنفسه، وبحضور كافة سياسيي ونخب البلاد وممثلين عن قطاع الشباب.
كانت مفاجأة البخيت تستلهم رؤى الملك عبدالله الثاني، المبكرة، لتطوير الحياة السياسية وإدماج الشباب وزيادة مساهمة المرأة فيها.
وكان البخيت القادم من حقول الحرّاثين، وميادين القوات المسلحة، أول رئيس حكومة يضع هذه الرؤية ضمن برنامج سياسي تنفيذي قابل للتطبيق..
لولا أن المعارضة، لم تلتقط الفرصة، واستطولت المدة التي اقترحها رئيس الوزراء، لتحقيق أهداف برنامج الإصلاح، فيما سنّ فريقٌ آخر، من الداخل والخارج، سكاكينه ضد مشروع البخيت، ورأوا فيه خروجاً عن المألوف، واقتحاماً لعمل سياسي ريادي طالما أحجم عنه آخرون لكان الإصلاح السياسي قد أنجزونضج وتحقق..
آمن الباشا البخيت، أن الأمن الوطني بمعناه الشامل، لا يعني، أبداً، تغليظ العصا على المعارضين، وتكميم أفواههم، ولكن، يعني، بالضرورة؛ توسيع قاعدة المشاركة، وتمتين الوحدة الوطنية وإتاحة منابر التعبير الديموقراطي، واحترام وصون الحريات الصحافية، وتنمية الحياة الحزبية، وتمكين المرأة تشريعياً ودعمها للوصول إلى قبة البرلمان ومواقع صنع القرار.. وفي عهد حكومة البخيت الأولى تمّ إقرار الكوتا النسائية البرلمانية، وتم تعيين أول سيدة أردنية بوظيفة محافظ في وزارة الداخلية.
غادر الباشا الدوار الرابع، متخناً بالجراح، وفي رصيده المظلوم جملةٌ من القرارات والسياسات المهمة؛ ومنها إنجاز المخطط الشمولي لاستعمالات الأراضي، دعم حرية الرأي والرأي الآخر وكما أنه شجّع وحفز تنظيم وإقامة الأسواق الشعبية، للتغلب على ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتأمينها للمواطنين، ودعم البخيت قطاع المتقاعدين العسكريين، بجملة من القرارات والإجراءات ؛ بالإضافة إلى مواقفه المنحازة قلباً وقالباً للطبقة الوسطى والشرائح الفقيرة، وتمسكه بدور الدولة الاجتماعي الإيجابي..
عودة الباشا إلى الدوار الرابع
ومرّة أخرى، وعلى وقع الأحداث العاصفة التي ألمت بالمنطقة العربية، وغيّرت خرائطها السياسية وتحالفاتها، عاد الباشا إلى الدوار الرابع رئيساً للوزراء؛ ليواجه تحديات غير مسبوقة اختلط فيها السياسي بالاقتصادي بالمطلبي بالإنتهازي
بدأ البخيت عهد حكومته الأولى بالحوار الواسع والمتنوع؛ حيث شكّل لجنة الحوار الوطني، وأيدها بكل الدعم؛ وفتح بيته ومكتبه، مثلما فتح عقله وقلبه، لحوارات مصغرة مع ممثلي القوى السياسية والشباب في كافة المحافظات.
وقدّم البخيت برنامجاً حكومياً، ينصُّ لأول مرة، على مفهوم الاقتصاد الاجتماعي، والذي يلبّي رؤيته باتجاه الطريق الثالث في الاقتصاد؛ كما أطلق مشروعاً شاملاً لإعادة هيكلة الإدارة العامة، وتعديل الرواتب، وتكريس مفاهيم العدالة والتوازن والكفاءة والإنجاز..
أنجزت حكومة البخيت الثانية، إصلاحات أساسية في الحياة السياسية والنقابية، من ضمنها؛ تعديل قانون الاجتماعات العامة، نقابة المعلمين الأردنيين، التعديلات الدستورية التي نصّت ضمن موادها على إنشاء المحكمة الدستورية والهيئة المستقلة للانتخابات، وغير ذلك ممّا أسهم في تحقيق نقلة متدرّجة وآمنة وتوافقية، كما يؤمن البخيت، للحياة السياسية الأردنية، دون مغامرات ولا قفزات في المجهول.
غادر البخيت الرئاسة للمرة الثانية، وقد أنصفه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، بكلمات معبّرة، في كتاب قبول الاستقالة، قال فيها: “كنتَ عند ثقتي بك، فنهضتَ بأمانة المسؤولية أنت وزملاؤك الوزراء بشجاعة وثقة بالنفس وحرص على تحقيق الانجاز، وبالرغم من الظروف الاستثنائية التي مرت بها مسيرتنا الوطنية خلال الشهور الماضية، فقد تمكنتم من تحقيق انجازات جوهرية ستظل علامات واضحة في مسيرة الأردن العزيز من اجل الإصلاح والتحديث وتحقيق التنمية المنشودة، وسيسجل كل الأردنيين انجازاتكم المتميزة بدءا بالتعديلات الدستورية ومرورا بكل القوانين التي تؤسس لتطوير العمل السياسي في الأردن ومرورا بإعادة هيكلة مؤسسات الدولة وانتهاء بمحاولاتكم الجادة والجريئة على صعيد تعزيز مبدأ الشفافية والمساءلة وسيادة القانون وملاحقة كل شبهات الفساد، دون محاباة لأحد أو خوف من أن تأخذكم بالحق لومة لائم. وسيسجل لك الأردنيون أيضا ما تحليت به من الصبر والحكمة وسعة الصدر في التعامل مع الظروف الاستثنائية التي مر بها الوطن طيلة الفترة الماضية، فقد تعاملت مع كل أطياف المعارضة ووسائل الإعلام بروح التسامح والانفتاح واحترام الرأي الآخر وعقلية رجل الدولة الذي يقدم المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح والاعتبارات”.
البخيت ترك بصمة بمواقفه ورؤيته
بين الحكومتين، وبعدهما، قدّم الباشا رؤيته لمستقبل الأردن، ودوره الإقليمي، وضرورة تجديد شباب الدولة الأردنية، وتحديث قطاعاتها، بالإضافة إلى قراءات في الشخصية الوطنية الأردنية وفي تاريخ الأردن ورجالاته، وتضحيات قواته المسلحة وإسهاماتها.
وكان البخيت واضحاً حاسماً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بوصفها وعلى حد تعبيره “مسألة أمن وطني أردني”، بالدرجة الأولى، معلناً أن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، هو مصلحة عليا للدولة الأردنية، ويترتب عليه حل ملف اللاجئين والنازحين، وفقاً لحق العودة، والذي أصر البخيت أن هذا الحق مقدس غير قابل للتحايل أو التصرف.
مشاركات البخيت، في محاضراته وندواته ومقالاته ومقابلاته الصحافية، تشكل اليوم مادة ثرية لقراءة فكر الرجل ومشروعه الوطني، كما تمثل مدرسة سياسية أردنية كان الباشا أحد أبرز أركانها.
رحم الله الباشا الدكتور معروف البخيت وأسكنه فسيح جنانه، والذي رحل في وقت نحن أمس ما نكون فيه لفكره ورؤيته وصلابة مواقفه، وجازاه الله عن الأردن والأردنيين كل خير.