معركة طوفان الأقصى

هل تُحسم الحرب في الميدان؟
أم أن الحرب معركة أفكار وعقول؟
وما هي وظيفة الحرب؟

نخبة بوست – خلال تسعة أشهر وأكثر، والعالم يعيش على إيقاع وارتدادات ما يجري في فلسطين وغزة والإقليم. وليس هناك دليل أشد برهاناً من تعداد إحصائي للتظاهرات الاحتجاجية التي خرجت وجابت عواصم ومدن العالم. وهو أشبه بطوفان ثانٍ في أوروبا وأمريكا وآسيا ودول الغرب.

حيث لا قضية أو حرب داخلية أو خارجية أنتجت احتجاجاً عالمياً وعابراً للدول والقارات يضاهي ويقارن بما أنتجته حرب غزة. القضية الفلسطينية تصدرت أخبار العالم، واليوم لا يوازيها أو ينافسها على شريط أخبار العالم الأمريكي والغربي والعالمي حدث آخر.

تسعة أشهر من حرب غزة أظهرت إقليماً وعالماً جديداً، ورسمت خطوطاً بيانية مختلفة في السياسة العالمية، وخطوطاً بيانية في الرأي العام العالمي، وولادة احتجاجات طلابية وشعبية تطالب بوقف العدوان. ورسمت خطوطاً بيانية متقاطعة لاتجاهات القادة والزعماء والسياسيين ومواقفهم من الصراع وحرب غزة وإسرائيل. وأفرزت الحرب عناوين جديدة في الصراع الجيوسياسي في الإقليم، واليمن واحد من أبرز العناوين.

كما أن الحرب فتحت عيون العالم على قضية فلسطين، وكم أن أجيالاً جديدة تلهث وراء معرفة تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وتطل على مصداقية القضية الفلسطينية، والتدقيق في السردية الإسرائيلية، والبحث عن تاريخ زوّره وحرفه الاحتلال الإسرائيلي.

وتعرف العالم على اليمن، الجغرافيا العنيدة، وتاريخه العصي على الاحتلال، ومعنى أن اليمن لم يخضع يوماً للاحتلال، وكان طارداً للاستعمار. ما هو سر هذه القوة الوطنية؟ ومن أين جاءت؟ وما هو الدور النفسي والاجتماعي والتعبوي للإسلام في حرب غزة؟ وكيف يزرع الطمأنينة في النفوس، وكيف أن كلمة “الحمد لله” ثقيلة كجبل من أحمال المآسي والموت والنكبات والفقد والرحيل والمآتم.

الإسلام يزرع ثقة ويزرع الشجاعة والصمود، وروح التحدي واليقين في النصر. ومن حرب غزة تلاشت وسقطت خدعة وكذبة الصراع الطائفي، برؤية حماس عنواناً جامعاً للنصر، ويقاربه حزب الله وأنصار الله في اليمن. وهي لحظة مواتية للنبش والمراجعة في تاريخ الإسلام ومعرفة كيف تشكل الإسلام المتطرف السلفي والداعشي والإخواني، وما في مصادره الفقهية والشرعية، وكيف تشكل سياسياً.

مفهوم الحق بعد حرب غزة تم إعادة صياغته، وكذلك مفهوم القوة، والقوة والحق هما ثنائية السياسة والحرب. وهي أشبه بثورة عالمية. في أمريكا أجيال من الشباب الجامعي تثور وتكتشف بعقل ناقد سياسة وإعلام وثقافة بلادها. غزة مختبر العالم، وليست مختبراً أخلاقياً لضمير الإنسانية، بل إنها مختبر سياسي وثقافي وفكري للعالم اليوم.

ثورة في الأفكار، إعادة النظر ومراجعة مفاهيم كبرى حاكمة ومسيطرة، وكانت أقرب إلى مسلمات وبديهيات في الفكر السياسي. فلسطين في الوعي العالمي في مكانة سؤال، وفي الرأي العام العربي والإسلامي جزء من تحول وتغيير، ولو أن سرعة الاستجابة متباينة وبطيئة.

ودليل ذلك، كيف أن العرب أعادوا اكتشاف مظلوميات عربية، واكتشفوا اليمن واكتشفوا غزة مرة أخرى، واكتشفوا حركات المقاومة العربية ومحورها الإقليمي.

وذلك يحدث في عالم يعيش بحالة من اللايقين. عالم سقطت منه النماذج الفكرية والفلسفية الكبرى التي سادت في عصور ما بعد عصر النهضة والثورة الصناعية والثورة الفرنسية. وتراجعت الفلسفة الماركسية مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وانهيار منظومة حلف وارسو لصالح القطب الغربي الأمريكي، الذي أخذ العالم إلى الليبرالية، والأخيرة سقطت لهيمنة مشاريع دينية وإثنية وثقافية لمحور أنجلو-ساكسوني صهيوني يريد التحكم في العالم وثقافته وثرواته واقتصاده وتقاليده.

وتحت شعار العولمة أرادوا تحويل العالم إلى حديقة استعمارية لأمم وكيانات بعينها، واتخذوا بقية البشرية رهائن وعبيداً لحساب أحادية مقيتة ومستبدة. حمل النموذج الليبرالي معه مشاريع لإفقار الفقراء وإثراء الأثرياء، وصناعة سياسات اقتصادية قاسية ومبرمجة لإفلاس دول وشعوب، وإدخالها في مختبر اقتصادي مجحف في شروط التمويل والمعونات والمساعدات.

وقد أوصلت الليبرالية الاقتصادية دولاً إلى حروب أهلية وتشظٍ وانقسام داخلي وفوضى أهلية. وانتهى مشروع العولمة، وأفل أفكاره، التي حاولت أن تستبدل شجرة التين والزيتون والرمان بشعارات لماكدونالدز وفورد ومالبورو، وهي ترمز إلى ثقافة الترفيه والاستهلاك.

حرب غزة طرحت صدمة وزلزالاً في اللايقين العالمي، وحملت بذور عودة إلى فلسفة الحق والقيم الإنسانية، وإعادة اختبارها. وحدة الإنسانية، ووحدة عقيدة الإنسان، وتلاقي جوهر الأفكار والإيديولوجيات الكبرى على قيم احترام الاختلاف والتعددية.

**

مما أنتجت حرب غزة في الثقافة العسكرية والاستراتيجية:

ما هو معنى النصر والهزيمة؟ كلاسيكياً، الحرب والنصر مرتبطان بالقوة العسكرية، سلاح وعتاد ومال، وجندي مدرب بأحدث التكنولوجيا العسكرية والاستخباراتية. وهذه هي عوامل الحسم والفصل في المعركة، وهي من يقرر النصر والهزيمة.

لكن حرب غزة أعادت نهوض الروح في مفهوم الحرب والنصر، والروح هي المقاتل، وهذا ما يتسلح به محاربو المقاومة في غزة ولبنان واليمن. وهكذا وجدت إسرائيل نفسها عاجزة عن تحقيق نصر وحسم لمعركة الحرب.

جاءت حرب غزة لتُظهر قوة إسرائيل العظمى والمطلقة، وكيف التقطت المقاومة لحظة الضعف الاستراتيجي والتراجع في جبهة إسرائيل، وكيف أن أمريكا مثخنة بجراح استراتيجية، وتتراجع على منصات العالم عسكرياً واقتصادياً واستراتيجياً.

إسرائيل في أسوأ أحوالها، وفي مأزق وجودي، وجيشها تلقى هزيمة مدوية في لبنان وغزة، وفشل في إعادة الاعتبار للقوة والردع.

حرب غزة جاءت في ظلال حرب أوكرانيا، وكيف تحسم روسيا المعركة، والناتو يندحر. حرب غزة غيرت قواعد اللعبة التقليدية، وأحدثت ابتكاراً في دوائر تحدٍ ومواجهة إسرائيل إقليمياً.

في غزة، الشعب صنع عامل إبهار في المقاومة والصمود، والقدرة على مواصلة القتال بعد تسعة أشهر، رغم الجراح والإبادة وحرب التجويع.

حتى أن أمريكا وبريطانيا وإسرائيل تيقنوا أن لا سبيل للخروج من عنق الزجاجة إلا بوقف إطلاق النار، والبحث عن مخارج لسيناريوهات اليوم التالي.

لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، أمريكا تخسر نفوذاً في البحار. اليمن وحدها هزت عرش أمريكا في أعالي البحار وزعزعت هيمنتها وسيطرتها في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

لهذه النقاط الساخنة في البحر الأحمر والمحيط الهندي ورأس الرجاء الصالح أبعاد دولية كبيرة وخطيرة على مكانة أمريكا ومنازلتها مع الصين وروسيا.

ثمة حقائق يصعب إخفاؤها، فحرب غزة قلبت مفاهيم وأفكار الإعلام، وقدمت نموذجاً في كيفية ربح معارك الرأي العام. وكيف أن شباباً وشابات يافعين بهواتف خلوية متواضعة ألحقوا هزائم في كبرى مؤسسات الإعلام الغربي وانتصروا لمظلومية السردية الفلسطينية.

حرب غزة قدمت مشاهد لصور الحروب القادمة وكيف ستكون: الطائرات المسيرة والصواريخ والمشاة البرية، وهي ثلاثية عسكرية في الحروب الجديدة. تحتل مكانة الدبابة والطائرة والمدفع، وإن بقيت أدوات فعالة في الحرب، ولكن بساط الحسم العسكري ينسحب تدريجياً من تحت أقدامها وفوهات نيرانها.

السلاح الجديد توزعت أهميته العسكرية في حرب غزة وجبهات المقاومة، وظهرت الطائرات المسيرة كقوة مهينة في المواجهات البرية والبحرية.

عن حرب غزة يكتب الكثير، ومازالت الحرب حبلى بالأفكار والاستنتاجات من وحي ميادين المعركة. ومن حرب غزة يتعلم الكثير في التنظيم والعقيدة اليقينية والقتال والقيادة.

ما يُقرأ بعين ثاقبة وحادسة وموضوعية لنصر قيد النضوج، هي أول حرب وتجربة متكاملة للمقاومة العربية، وقد استطاعت أن تتقن بناء مسارات لتجاوز العقد المستعصية في فوارق القوة بين المقاومة وإسرائيل وحلفائها.

شاركها.
Exit mobile version