نخبة بوست – فرح أبو عيادة (معهد السياسة والمجتمع)
تقف هيئة تحرير الشام على مفترق طرق رئيس؛ فمن الواضح أنّ محاولاتها ما تزال متعسّرة في محاولة تطبيع علاقتها بالخارج، والتخلص من إرث القاعدة وما جرّه عليها من عبء كبير، وفي الأثناء تحاول الهيئة السيطرة على الوضع في إدلب بعد توسع حركة الاحتجاجات الشعبية والسخط تجاه سياسات الهيئة هناك، في المقابل تعاني الهيئة خلال الفترة الأخيرة من أزمة في علاقتها بالقوى المحلية والإقليمية، ومن نزيف داخلي عبر تصفيات لقيادات بارزة، مثلما حدث في عملية اغتيال أبو مارية القحطاني، أو انشقاقات أو اتهامات داخلية كبيرة، فضلاً عن محاولات التكيّف الأيديولوجي والتحولات المتسارعة التي ما تزال تمرّ بها الهيئة، منذ أن تمّ إنشاؤها تحت اسم جبهة النصرة، وكانت جزءاً من تنظيم القاعدة آنذاك.
في الأثناء تشير تقارير متعددة، ما تزال في طور الاحتمالات، أنّ الهيئة تحاول أن توسّع نفوذها من خلال العودة إلى الجنوب إلى درعا، وهو ما يطرح بدوره تساؤلات رئيسية في تعريف الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها الهيئة من خلال عودتها إلى درعا! ولعلّ السؤال الرئيس الكبير يتمثّل في المفارقة في أن تكون الهيئة تواجه أزمات داخلية كبيرة وسياسية وتتعرّض لتحديات على درجة من الخطورة وتحاول في الوقت نفسه التوسع في الجنوب، كيف نقرأ ذلك؟!
تمتلك هيئة تحرير الشام عقلية براغماتية؛ وبدا ذلك جليًّا عليها منذ تأسست باسم “جبهة النصرة”، وهو أحد الدوافع الذي لطالما ساعدها في إعلان انشقاقها عن التنظيم الأم بالترافق مع دوافع وعوامل أخرى، وتم وصمها بوصمة الإرهاب، إلا أن ذلك لم يمنعها من الاستمرار في المشهد، إذ أنها أعادت التموضع والتكيّف مع البيئة السورية، والتخلص أولاً من العلاقة مع تنظيم داعش، ثم القاعدة، ثم تخلصت من بقايا القاعدة في أحشائها (والمقصود هنا التيار العالمي، الذي تحول لاحقاً إلى جماعة حراس الدين؛ والذين قُتلت قياداتهم بطرق متعددة!) وأعادت الهيئة بصورة مستمرة العمل على تكييف أهدافها وفقًا للأمر الواقع، وتصويب جل تركيزها على محاربة النظام السوري وحلفائه والعمل على إسقاطه، كما اتسمت علاقة الهيئة بكل من الروس والأتراك بالشد والجذب ومحاولات عقد الصفقات تارة والصراع تارةً أخرى.
أما على صعيد الجنوب السوري؛ فقد كان “لجبهة النصرة” هيئة تحرير الشام إلى جانب فصائل أخرى مثل أحرار الشام تواجدًا نشطًا في درعا – إحدى المناطق الحدودية مع الأردن -، وبرزت عملياتها في مناطق أخرى مثل الغوطة والقنيطرة؛ وخرجت نواة الهيئة من الجنوب بموجب اتفاقية التسوية في كل من العامين 2018- 2020، ويشار إلى بقاء بعض ممن كان يعمل في صفوف الهيئة سابقًا في درعا بشروط معينة، ومن الأمثلة على ذلك، ياسر خليل فلاحة الملقب بالحمش -تم اغتياله- ، ويتضح من ذلك؛ أن خروج الهيئة لم يكن خروجًا كاملًا، إنما قد يكون هناك خلايا نائمة تحمل الفكر ذاته الذي تحمله الهيئة، هنا لا بد من التطرق إلى مدى توافر الظروف المهيئة في درعا لتعود هذه الخلايا ليقظتها من خلال وجود حالة من الاستقطاب الفكري في ضوء تزايد انتشار الفصائل الإيرانية، لا سيما الجيل الذي نشأ خلال الحرب، مع عدم انتمائه لأي طرف.
النظام السوري أثبت عدم قدرته على إدارة المجتمع أو ضبطه
أفرزت التسوية في الجنوب السوري حالة من عدم الاستقرار، والانفلات الأمني، إذ اثبت النظام السوري عدم قدرته على إدارة المجتمع أو ضبطه، بل أصبح هناك تواجد وتغلغل إيراني في مناطق متفرقة من الجنوب، بالتزامن مع الحرب الروسية الأوكرانية التي خلفت إعادة تموضع للقوات الروسية، تحديدًا في درعا، كما أنها خلفت فاعل أمني هو اللواء الثامن الذي يعد من أهم مفرزات التسوية، ومدعوم من قبل روسيا، ويتبع الفيلق الخامس.
يقوم المشهد في درعا في الوضع الراهن على العمليات الأمنية المحدودة مثل الاغتيال والقتل المجهول ومعروف المصدر على حد سواء، وعلى اقتصاد الحرب من خطف وإتاوات، وتنامٍ لشبكات انتاج وتهريب المخدرات، حيث لم تتبلور أوضاع مستقرة أمنيًا لأهالي درعا. وعليه؛ توجد مجموعة من المؤشرات التي تبين مدى جاهزية البنية في درعا لتواجد كيان يعتبر نموذجًا في بسط النفوذ والقوة بدرجة ما ويشكل طرف مناوئ لكل من النفوذ الإيراني، والنظام السوري، وشبكات الجريمة المنظمة، ومنها؛ التوغل الإيراني متعدد الأشكال، المباشر أو غير المباشر على شاكلة الفصائل الموالية لها في الجنوب السوري من خلال استخدامها للقوة الناعمة والخشنة، الذي يسهم في التغيير الديمغرافي طويل الأمد، إذ أصبح الارتفاع واضح في أعداد الشيعة ” السياسية والدينية” في سوريا، ما قد يقابله رد فعل نتيجة الاستشعار بإقصاء الهويات السورية، على أبعاد متعددة منها البعد الديني السني، فلكل فعل رد فعل معاكس له في الاتجاه، مساوٍ له في المقدار.
على صعيد آخر، أشارت تقارير إلى ظهور نشاط من قبل مجموعات صغيرة مكونة من عناصر سابقين في هيئة تحرير الشام وانضم لها شبان من أبناء المحافظة، ونفذت هذه المجموعات عدداً من الاغتيالات ضد مهربي وتجار مخدرات، وضد عدد من قوات النظام السوري والميليشيات التابعة له، وقد أشار أحد التقارير إلى وجود علاقة ما بين اللواء الثامن والمجموعات النشطة، إذ تتواجد في نقاط محددة إلى جانب اللواء الثامن، ويقدم لهم أمن التنقلات، ووقف عمليات اقتحام ضد مقرات اشتبه النظام السوري بأنها تابعة لهيئة تحرير الشام؛ ومن الجدير الإشارة هنا إلى تخفيض التمويل الروسي عن المجموعات المحلية السورية من بينها اللواء الثامن، ما يمكن ربطه بالعلاقة ما بين اللواء والهيئة، وهو خاضع للاختبار، من جانب قدرات الهيئة لدعم اللواء الثامن ماليًا، أو وجود روابط ولاء فكري ما بين الطرفين ولو كان في جزئيات محددة.
حال ثبت ذلك؛ يستدل على أن هيئة تحرير الشام في صدد توسعة نطاق عملها، لغياب بديل حقيقي عنها، وهو ما يعيه البعض، كما يوجد قواسم مشتركة للمصالح والأهداف التي يسعى كل من الهيئة واللواء الثامن إليه، مثل انتهاجهما لسياسة البقاء في ضوء المتغيرات التي تشهدها إدلب في الشمال من مظاهرات ومطالبات، والتخفيضات الروسية في دعم اللواء الثامن، إضافةً إلى قضايا تجار المخدرات وعناصر داعش وضباط في قوات النظام.
المفارقة الصارخة.. اختلاف المنهجية والمرجعية
المفارقة الصارخة هي اختلاف منهجية ومرجعية وأيدولوجية كل من الهيئة واللواء الثامن، إلا أنه لا يمكن التعويل على ذلك كثيرًا بحيث يصبح الهدف الرئيسي لهما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، تحديدًا مواجهة المد الإيراني من ميليشيات وحزب الله؛ وعليه، قد ترتبط أسباب عودة الهيئة إلى الجنوب بمحاولة تصدير أزمتها الداخلية، وإكساب لنفسها شرعية، لا سيما أن اللواء الثامن من فصائل التسوية الأكثر قبولًا لدى اللاعبين في الجنوب، تحديدًا درعا. وفي اليد الأخرى يطرح تساؤل فيما لو لم يكن اللواء الثامن على علم بتواجد هكذا خلايا، ما مدى قبول اللواء لتنامي أنشطة الهيئة.
من الأسباب الأخرى المحتملة لعودة هيئة تحرير الشام إلى درعا، تطويق النظام السوري والضغط عليه من أجل تطبيق الحل السياسي أو استمرار العمل على اسقاطه، كما يمكن أن يكون هناك أسباب اقتصادية، إذ تشير بعض المصادر إلى القدرة الاقتصادية للهيئة التي تُمارس بشكل منظم على عكس الفصائل العسكرية الأخرى مثل فصائل الجيش الوطني، ويعتبر العامل الاقتصادي أحد العوامل الخفية التي تكون وراء اندلاع بعض الاشتباكات بين الفصائل في الشمال، إذ تسيطر الهيئة على معبر باب الهوى، أحد أهم المعابر التي يسعى النظام السوري للسيطرة عليه، إضافة إلى أنشطة اقتصادية مختلفة مثل الاستثمارات والتجارة والرسوم والإتاوات، وتحصل على 10% من الحصص الإغاثية الموزعة من قبل بعض المنظمات الإنسانية، من خلال وضع يدها على قطاع الاتصالات، التابع لحكومة الإنقاذ، وبلغت أرباح الهيئة السنوية في تقرير نشر عام 2022 ما يقارب 8.8 مليون من سلع محددة، ما يدلل على قدرة الهيئة لتمويل نفسها والاستثمار بذاتها، ويشير إلى قدرتها على تمويل ودعم أنشطة في درعا، إلا أنه يتبقى حجم التمويل بناءً على عدد العناصر التي يتم تجنيدها لغياب مصادر دقيقة توضح ذلك حتى الآن – حال ثبوت المسار الذي تنتهجه الهيئة.
يتواجد نشاط عملياتي لهيئة تحرير الشام في العديد من المواقع، كالرقة ودير الزور الخاضعتين لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وتنشط فيها نشاطًا أمنيًا لا يهدف إلى عملية تجنيد عناصر جدد، بل تهدف لجمع المعلومات ونقل أموال وغيرها، إلا أن الأنباء التي تداولت من مصادر محلية عن التواجد في درعا يختلف عن طبيعة النشاط الذي تقوم به في مواقع أخرى، الجانب الذي يثير تساؤلات عن موقف دول الجوار من هكذا انتقال، لا سيما أن الأردن يواجه جبهة ساخنة على حدوده الشمالية من محاولات مكثفة ومتكررة لتهريب المخدرات والأسلحة من قبل الميليشيات الموالية لإيران وغيرها، إضافة إلى أن النظام السوري وحلفاءه في الجنوب لا يرغبون بالقيام بعمليات عسكرية في القرى والمدن، ويتمركز اهتمامه على المحافظة على الحدود، والثكنات والقواعد للفرق العسكرية، وغياب مواجهات كبرى، إنما يقوم بعمليات تدخل جراحية صغيرة، بحيث لا تثير المجتمع المحلي في درعا بالشكل الذي يمكن أن يشكل حراك متصاعد ومستمر.