* الديمقراطية والانتخابات ليستا حكم الأغلبية؛ هما أيضا التزام بحقوق وحريات الأقليات من الاتجاهات والجماعات والفئات والطبقات التي لم تحصل على أغلبية أو حتى فرص الوصول إلى مجلس الأمة
* بدون ضمان حقوق وحريات الأقليات، تتحول الديمقراطية إلى إبادة سياسية وثقافية واجتماعية
نخبة بوست – إبراهيم الغرايبة
تعبر الانتخابات عن المساواة في الحقوق والاعتراف بـ “لامساواة” ضرورية لتحقيق النفع العام للجميع، لكن هذه اللامساواة هي محصلة تنافس عادل. فالناس جميعا بما هم أولياء بالتساوي على السلطات والموارد والتشريعات والمؤسسات ينتخبون من بينهم من يفوضونه بتطبيق هذه الولاية، لكنه تفويض يمنح امتيازات ومكتسبات لفئة من الناس تميزهم عن البقية برغم المساواة التامة المفترضة نظريا. هكذا فإن الانتخابات هي التوفيق بين المساواة المفترضة بين جميع المواطنين وبين ضرورة إدارة المؤسسات بما يقتضيه من اختيار وتميز.
لا تعمل الانتخابات باتجاه أهداف الأمة إلا في ظل فلسفة سياسية عقلانية للعدالة يتفق عليها جميع المواطنين ويلتزمون بها. لا عدالة عملية من غير فهم سياسي يجمع المواطنين. تستمد هذه الفلسفة كما يرى جون رولز من عقد اجتماعي قائم على الحس بالعدالة والخير، وفي ذلك فإنه يرى الأساس الأخلاقي للعملية السياسية أكثر ملاءمة من المنفعة.
إن المواطن الذي يذهب إلى صندوق الانتخاب تدفعه لأجل ذلك ولايته على السلطات، وهو حين يمنح صوته (ولايته) لأحد من الناس إنما يفوضه بتحقيق رؤيته؛ ما يحب أن يكون عليه وما يجب فعله ليكون ما يحب. وحين لا تعكس الانتخابات في نتائجها أو في أداء مجلس الأمة (التشريع والرقابة) أو في أداء الحكومة التي تعمل بتفويض وثقة النواب المنتخبين فلسفة سياسية للعدالة متفقا عليه بين الأمة؛ هي في أوضح فهم عملي تمثيل الأمة تمثيلا عادلا وكفؤا في اتجاهاتها وأفكارها وأولوياتها واحتياجاتها؛ فإن الانتخابات ومن ثم العملية السياسية تتحول إلى ضد نفسها.
لكن يجب أولا أن يدرك كل مواطن وبوضوح الفهم العملي والممكن للعدالة المفترض أن تنظم الانتخابات والسياسة بما هي في مؤشرها العملي القياسي: جمع الموارد العامة وإنفاقها بعدالة وكفاءة. وهنا يجب أن تحدد الأمة أو تكتشف في عمليات جدال وتجمع وتراصف متراكمة المسائل التي يدور حولها الخلاف، ثم مقاربة هذه الاتجاهات على النحو الذي يضمن التعاون والتضامن الاجتماعي والاحترام المتبادل بين المواطنين، وأن يفكر المواطنون ويتجادلوا حول مؤسساتهم وأهدافهم السياسية والاجتماعية، على النحو المؤدي إلى تسوية عملية وسياسية واكتشاف حدود الإمكان السياسي والعملي وتصور مستقبل مجتمعاتنا وأسواقنا وحياتنا.
ولذلك فإن العدالة بما هي تتحول إلى انتخابات عامة لن تكون إلا في مجتمع يصفه رولز بأنه “حسن التنظيم” هي عبارة تفيد كما يقول: مجتمع يقبل كل واحد فيه ويعرف أن كل واحد آخر مثله، وتصلح مؤسساته لتحقيق العدالة، ويتمتع المواطنون فيه بحس فعال للعدالة، يمكنهم من أن يفهموها ويطبقوها.
تقوم العدالة على مبدأين، هما: لكل شخص الحق ذاته، الذي لا يمكن إلغاؤه في ترسيمه من الحريات الأساسية المتساوية الكافية، ويجب أن تحقق ظاهرة اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية شرطين، أولهما يفيد أن اللامساواة يجب أن تتعلق بالوظائف والمراكز التي تكون مفتوحة للجميع في شروط مساواة منصفة بالفرص، وثانيهما يقتضي أن تكون ظواهر اللامساواة محققة أكبر مصلحة لأعضاء المجتمع الذين هم الأقل مركزا. وبما أن أي مجتمع حديث حسن التنظيم لا بد أن يعتمد على بعض حالات اللامساواة ليكون حسن التنظيم ويكون منظما بكفاءة، فإننا نسأل عن أنواع حالات اللامساواة التي يمكن أن يجيزها مجتمع حسن التنظيم، أو يكون مهتما اهتماما خاصا بتجنبها. وهناك أيضا لامساواة لا يمكن منعها ناشئة عن المكتسبات والالتزامات الاجتماعية والطبقية، والمواهب الطبيعية، والحظ الجيد أو السيء في الحياة.
في المحصلة نقيس الانتخابات بتمكين المواطنين من التطور الكافي ومواصلة السعي لتحقيق مفاهيمهم المحددة عن الخير والمصالح التي يحتاجون إليها باعتبارهم أحرارا ومتساوين ويحيون حياة في كاملة، وهي: الحقوق الحريات الأساسية، وحرية الحركة واختيار الوظيفة، وقوى وامتيازات وظائف مراكز السلطة والمسؤولية، والدخل والثروة، والأسس الاجتماعية لاحترام الذات.
تنطلق الانتخابات من الإقرار الإجماعي بأن يكون لكل مواطن حق متساو في أوسع مقدار من الحريات الأساسية يكون منسجما مع حرية مشابهة للآخرين، واللامساواة بمعنى يجب ترتيب عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، حيث تكونان متوقعتين توقعا معقولا بأنهما لمنفعة كل واحد، وأن تكونا متعلقتين بمراكز ووظائف مفتوحة للجميع. وبغير هذا الإجماع تتيه الانتخابات ولا تعمل باتجاه أهدافها المفترضة.
تساعدنا الفلسفة السياسية على الوصول إلى اتفاق على مفهوم سياسي للعدالة، لكنها لا تستطيع أن تبين لنا وبوضوح كيف يمكننا الحصول على اتفاق حر وعام، وهذا لا يعني عدم وجود مفهوم أفضل للخير، هي تقول فقط إننا نتوقع أن نتوصل إلى اتفاق سياسي ناجح حول ما يكون، وبما أن التعددية المعقولة تعد شرطا ثابتا من الثقافة الديمقراطية، فإن الديمقراطية والانتخابات ليست حكم الأغلبية كما يشاع ويسود في ثقافتنا السياسية، صحيح أنها إسناد الحكم إلى الأغلبية لكنه تفويض ليس شيكا على بياض، بل هو أيضا التزام بحقوق وحريات الأقليات (الأقليات بمعنى الاتجاهات والجماعات والفئات والطبقات التي لم تحصل على أغلبية أو حتى فرص الوصول إلى مجلس الأمة) لأنه بغير ضمان حريات وحقوق الأقليات تتحول الديمقراطية إلى إبادة سياسية وثقافية واجتماعية مزودة بشرعية الانتخاب والديمقراطية. وهنا نتساءل ويجب أن يتساءل جميع المرشحين والكتل السياسية من هم المستبعدون من العملية السياسية وكيف نضمن حقوقهم ومشاركتهم؟ المستبعدون بسبب طبيعة الانتخابات أو بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
تبلورت الأنظمة الاجتماعية والسياسية في أربع أو خمسة اتجاهات أساسية؛ هي الحرية الطبيعية، ورأسمالية دولة الرعاية، ومشاركة الدولة في الاقتصادية، والاشتراكية الليبرالية (الديمقراطية) وفي جميع الأحوال ومهما اختارت المجتمعات من نظام سياسي اجتماعي فإنها يجب أن تسائل نفسها تتأكد أنها تسعى إلى الحق والعدل، وأن مؤسساتها تعمل بكفاءة لأجل مقاصد وأهداف الأمة المعلنة. إن الخيارات والاتجاهات جميعها تحمل حسناتها وسيئاتها، وقوتها وضعفها، وفرصها وتحدياتها، وهذه صعوبة عمليات تحقيق العدالة؛ إذ ليس لدينا وصفة جاهزة واضحة ومجمع عليها، لكننا نلاحظ اليوم كيف تهيمن أقلية صغيرة جدا على معظم الفرص والموارد. وإذا لم تفكك الانتخابات والديمقراطية هذا الاحتكار الفظيع فإنها تتحول إلى لعبة هيمنة الأقلية على الأغلبية، ولم تعد حتى دكتاتورية الأغلبية كما ينتقدها دائما أنصار المساواة وضمان حقوق جميع الفئات والطبقات.