نخبة بوست – كتب: بساط أحمدي

كان الأستاذ الراحل زياد أبو غنيمة (1937م ـ 2015م)، من أكفأ وأعمق من كتب في تاريخ العلاقات الاجتماعية والخلفيات العائلية في تاريخ الحكومات الأردنية، على مدى عقود. وامتاز بقدرة فريدة على التقاط المفارقات وتسجيل الملاحظات النوعية. وبرحيله، رحمه الله، توقف هذا المجال من البحث.

ربّما أن الشغف والاهتمام الشخصي للأستاذ أبو محمود رحمه الله، كان سبباً في تسجيل ملاحظات مهمة، ورصد علاقات اجتماعية، متداخلة، وحيثيات أخرى، لا تنقطع عن السياق السياسي، في تأليف الوزارات الأردنية. وترك إرثاً مكتوباً، جلُّه منشور، وبعضه مخطوط؛ يؤمّل من أنجال الفقيد، أن يخصصوا وقتاً وجهداً لجمعه وإعادة إصدار إنتاجاته في هذا المجال، وربما بدعم ضروري من وزارة الثقافة.
صحيح أن الأستاذ أبو غنيمة، كان متعلقاً بأهداب ماضيه الأخواني حتى آخر لحظة، وربطته بـ”الجماعة”، علاقة “حبّ من طرف واحد”، ذاق فيها الأمرّين.

الشيخ زياد؛ من يكمل المشوار..!
الأستاذ الراحل زياد أبو غنيمة

ولكنه، أيضاً، وهذه من مزاياه العديدة؛ لم ينقطع عن حيثيته الاجتماعية الثقافية؛ فهو حفيد صالح المصطفى التل، من جهة والدته، وخاله شاعر الأردن الخالد مصطفى وهبي التل “عرار”، وابن خاله شهيد الأردن وصفي التل، ووالده الأستاذ محمود، تربوي كبير له الفضل على أجيال من أبناء إربد درسوا في مدرسته “العروبة”، عندما لفظتهم المدارس الحكومية، وأعمامه عدنان وحسن، روّاد في التعليم والتنوير؛ كما أن شقيقه الناقد الفني المهم، والرائد في مجال النقد السينمائي في الأردن، المرحوم حسّان أبو غنيمة، كان، بحق، علامة فارقة، في الثقافة الأردنية..

يروي الراحل الأستاذ ملحم وهبي التل، في حوارات صحافية، منشورة؛ إن جده لأبيه صالح التل، استقدم، مطلع القرن العشرين، معلماً على آلة العود، من بيروت، ليعلّم كريماته (من بينهن والدة الأستاذ زياد أبو غنيمة) العزف والموسيقى، ويعدّهن، مدنيّاً، في موازاة حرصه على أن يحصلن على تعليم نوعي، تتيحه ظروف ذلك الزمان؛ حيث كانت مدينة إربد تشهد ظهور حركة أدبية وفنية، وثقافة اجتماعية مستنيرة، تعلي من قيم الفنون والآداب. بل، ويشير الراحل ملحم التل، في مذكراته؛ إلى أن مدينة إربد شهدت مع أواخر القرن التاسع عشر، انتشار ظاهرة حفلات الاستقبال، التي كانت تقيمها سيدات المدينة، على نحو مشابه لأحدث المدنيّات في الجوار.

هذا السياق العائلي المعرفي، وهذه النشأة المدنية الإربداوية، أتاحا للأستاذ زياد معرفة نوعية في الاجتماع الأردني وارتباطه بالسياسة والحياة العامة، بكافة مكوناتها، بالإضافة إلى امتلاكه الحسّ الساخر اللاذع، في كتاباته، والذي باعتقادي، يعود من حيث الجينات إلى خاله “عرار” وعمّ والده السياسي والأديب والطبيب الدكتور محمد صبحي أبو غنيمة.
ولذلك؛ كان لإسهامه في تقديم البعد الاجتماعي في تاريخيّة الحكومات الأردنية المتعاقبة، فضلٌ كبير في بثّ الروح في هذا المجال من البحث، وإحالته من مادة تاريخية سياسية جامدة، إلى مادة حيّة، شيقة، تربط الأحداث بسياقات وحيثيات، اجتماعية، تؤنسن هذا التاريخ، وتبرز الإسهامات الفردية والعائلية، في تشكيل مساراته. والأدلة كثيرة وغنية، وشواهدها عديدة في دراسات الأستاذ زياد.

مجال دراسة الحكومات الأردنية، أساسي ومهم، ويمثّل ضرورة علمية وتوثيقية في سياق قراءة تاريخ الدولة الأردنية، وتطور مؤسساتها، ومسار التنمية والتحديث والتشريع، والأحداث الكبرى، التي مرّت على الدولة وتعاملت معها الوزارات الأردنية المتتالية، منذ تأليف أول حكومة برئاسة المجاهد العربي رشيد طليع، في نيسان 1921، وحيثيات كل وزارة وأبرز التحديات التي تعاملت معها والإنجازات التي حققتها، أو تحققت في عهدها.

وكانت دائرة المطبوعات والنشر، أصدرت عام 2011م، وبمناسبة مرور تسعين عاماً على تشكيل أو حكومة أردنية، كتاباً، محدّثاً، استعرض كافة الحكومات، حتى تاريخه، وكل ما طرأ عليها من تعديلات، وأبرز ما عاصرته من أحداث وما قدمته من إنجازات. إلا أن هذا الجهد، للأسف، توقف. وربما تام استئنافه، مرة واحدة، عام 2021م، بمناسبة مئوية الدولة.
ويبقى القول: لدينا إرث كبير ونوعي، بعد 103 أعوام، على انطلاق مسيرة الدولة الأردنية الحديثة. وواجب مؤسسات الدولة المعنية، وفي مقدمتها وزارتا الاتصال والثقافة؛ أن يتم تدوين هذا الإرث وتحديثه، وتقديمه للباحثين والمختصين، ليشكل مادة تأسيسية لكل جهد لاحق، أكاديمي أو أدبي أو درامي تلفزيوني، وفي كل حقل من حقول العلم والإبداع؛ فالأردن ليس وليد صدفة تاريخية، ولا هو نتاج سايكس بيكو، بل هو وطنٌ بكل ما في الكلمة من تضحيات وعرق وجهد وبناء.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version