نخبة بوست- من الصعب اختزال شخصية الدكتور أحمد مفلح صالح الحوراني في سطور قليلة، فقد كان شخصية استثنائية في كل مفاصل حياته؛ من طفولته وصباه إلى مسيرته التعليمية والمهنية وحتى الاجتماعية والشخصية.

كان الدكتور الحوراني قامة وطنية وعربية أصيلة، جمعت بين العبقرية الفذة وإرادة لا تعرف المستحيل. شخصيته جمعت بين العناوين الثلاثة: “الأكاديمي، رجل الأعمال، الإنسان” التي غلبت على مختلف مراحل حياته. كان رائداً من رواد العلم والاقتصاد والإدارة، وإنساناً عصامياً.

بدأ حياته العملية من الصفر وبنى بفكره النير وإدارته الناجحة إمبراطورية علمية واقتصادية، مؤمنًا بأن تذليل العقبات هو السبيل إلى النجاح، وأنها لا يجب أن تقف حائلاً دون تحقيق الإنجازات.

لم يعثر الدكتور الحوراني على كنز خارجي يقوده إلى النجاح، بل كان الكنز موجودًا بداخله في عقله وفكره وإرادته وحسن إدارته ومغامراته المحسوبة.

في المجالات التي عمل بها، كان اسم الحوراني يحضر دائمًا عند الحديث عن الشخصيات الكبيرة التي أحدثت فرقًا واختلافًا نوعيًا في الحياة.

تميز الراحل الحوراني بين رجال الأعمال بتنوع خبراته ومعارفه وثقافته. فقد كان تارةً أستاذًا وموجهًا، وتارة أخرى مبدعًا في الاستثمار المالي والمصرفي. حقق تألقًا غير مسبوق في مجال التعليم والتعليم العالي، حيث كان المؤسس لجامعة عمان الأهلية، التي أصبحت إحدى المعالم البارزة في مسيرته، ورمزًا لقوة إرادته وتميزه في قطاع وطني حيوي أسهم في رفد جهود التنمية والتحديث في المملكة الأردنية الهاشمية خاصة والدول العربية عامة.

لقد كانت حياة الدكتور أحمد مفلح الحوراني مثالاً يحتذى به في الإصرار والتميز والإبداع، وستبقى ذكراه خالدة في الأذهان كواحد من الرواد الذين أثروا في مسيرة الأردن والعالم العربي.

الحوراني .. نشأته وطفولته

يقول المرحوم الدكتور أحمد الحوراني في مذكراته بأسلوب قصصي رائع: “ولدت في قرية زراعية تُدعى “باقة الشرقية” إلى الشمال من مدينة طولكرم، في أسرة زراعية. كان والدي، الحاج مفلح الحوراني، يعتمد على زراعة الأرض وفلاحتها، تساعده في ذلك أسرتنا المكونة من والدتي، عاقلة محمد كتاني، وخمس بنات. وجدت نفسي محاطاً بنوع خاص من الرعاية والأهمية لأنني أول طفل ذكر للأسرة، وكانت أمي الزوجة الثانية لوالدي، الذي تزوجها بعد خلافات مع زوجته الأولى التي أنجبت البنات فقط، وذلك بهدف إنجاب الأبناء الذكور. تحقق له ذلك، وكنت باكورة الإنتاج في السابع والعشرين من كانون الأول من العام 1942. لدي ثلاثة أشقاء وأخت من والدتي: الدكتور أديب، الأستاذ محمد، الدكتور عايد، والأستاذة ناديا.

حياتي في الطفولة، قبل الالتحاق بالمدرسة الابتدائية للقرية، كانت في بيت مبني من الطين والحجر، يشتمل على أماكن لخزن الحبوب والتبن لغذاء الإنسان والحيوان. كان البيت مخصصاً لتلبية احتياجات الأسرة المعيشية والنوم. يحتوي على مصطبة للنوم، بينما الجزء الآخر من البيت منخفض ومخصص لنوم بعض الحيوانات التي تملكها الأسرة في الشتاء، كالحصان والحمار ورؤوس من الغنم. كانت هذه الحيوانات تلبي احتياجات الأسرة: الحصان لحراثة الأرض، الحمار لتنقل والدي، والغنم لإنتاج الحليب وإنجاب الجدي لذبحه في عيد الأضحى. تلاصق البيت غرفة مبنية من الحجر والأسمنت كانت تستخدم كغرفة نوم للوالد والوالدة واستقبال الضيوف، وغالباً ما يكونون من الأقارب أو أهل القرية أو القرى المجاورة، حيث يعرف الناس بعضهم بعضاً.

كانت حياة الناس ومعيشتهم متشابهة إلى حد كبير. الغذاء كان موحداً تقريباً للجميع، وكان العدس سيد الأطعمة خاصة في فصل الشتاء، بينما في الصيف كانت الخضراوات هي الأطعمة الأساسية. اللحم كان يُؤكل مرة واحدة في الأسبوع، غالباً يوم الجمعة، حيث يمارس الجزار عمله، ونادراً ما يُؤكل الدجاج أو الحمام أو الأرانب التي كانت الأسرة تتولى تربيتها.

أما اللباس فكان بسيطاً، لا يتعدى لباساً أصيلاً وبديلًا وحذاءً واحداً للسنة كلها، يتم شراؤه قبل العيد. ومعظم أوقات اللعب كانت بدون حذاء. في سن مبكرة، وعندما كان عمري لا يتعدى الست سنوات، كنت أساعد الأسرة في أعمال صعبة. على سبيل المثال، كنت أذهب لطحن القمح ليصبح دقيقاً في قرية قريبة تبعد كيلومترين عن قريتي. كان والدي يضع شوالاً من القمح على الحمار ويطلب مني الذهاب إلى وابور الطحين، ثم العودة بالدقيق. كنت أحتج على هذا العمل وأقول لوالدي لماذا لا يذهب أخي الأصغر، فيقول لي: “أنت أشطر منه وأقدر على إنجاز العمل”. كنت أعتقد أن هذا التصرف ضد راحتي ونوعاً من التمييز ضدي، لكن هذه الأعمال ساعدت في تكوين شخصيتي.

كنا ننتظر العيد ونفرح لمجيئه، لأنه كانت هناك أضحية وعيدية الأقارب الكبار. كنت أجمع في العيد قروشاً قليلة أستخدمها لشراء ما كنت أتمناه طوال السنة. كانت مناسبات الزواج في القرية أو القرى المجاورة فرصاً للاستماع إلى الفولكلور السائد “الحداء”، حيث يتبارز اثنان من شعراء الشعر الشعبي، وينقسم المتفرجون بين مشجع لهذا أو ذاك حتى تنتهي الحفلة ونعود إلى البيت.

كانت حياة الناس متشابهة إلى حد بعيد، فأكلهم ولباسهم وآمالهم ومساكنهم كانت متشابهة. ساد ما يُسمى “بهدوء البال والنفس”. ورغم قلة الموارد، كان الناس متحابين يحنون على بعضهم البعض، والتنافس محدود جداً. كان الإيمان الفطري مستوطناً في النفوس. كان والديَّ متدينين يؤديان الشعائر الدينية في أوقاتها، وسلوكهما منسجم مع المعتقدات الإسلامية دون تطرف أو تعصب. كانا يؤديان الصلوات في أوقاتها، ويصومان ويزكيان، علاوة على الحج، حيث حج والدي عندما كنت في العاشرة من عمري، وكان يحثنا دائماً على صلة الأرحام. تشربت هذه الأخلاق والصفات، ومنحتني المحبة الكبيرة من الأقارب والمعارف”.

الإمبراطور.. أحمد الحوراني (1942- 2016)

المدرسة في حياته: تحديات وإصرار

يروي المرحوم الدكتور أحمد الحوراني أنه قبل دخوله المدرسة:حدثت النكبة الفلسطينية عام 1948، واحتلت إسرائيل جزءاً من فلسطين، مما أدى إلى تهجير جزء كبير من سكانها. استقبلت قريتنا جزءاً من هؤلاء اللاجئين، وكان نصيب بيتنا عدداً من تلك العائلات، فأصبح المنزل يعج بالناس. اشتغل اللاجئون، وخاصة الذين لا مال لديهم، كعمال زراعيين أو في أعمال البناء، وكانت لديهم همة ونشاط في العمل فاق أهالي البلدة، فبدأت تتحسن أوضاعهم.

في هذه الفترة، التحقت بالمدرسة الابتدائية في القرية. كنت نبيهاً وجريئاً إلى درجة كبيرة، مما جلب علي حنق وغضب المدرسين. كان الضرب بالعصا الوسيلة الوحيدة للتعلم، فكرهت المدرسة. بعد أن كنت من أوائل التلاميذ في السنين الأولى والثانية، بدأت أرسب في بعض المواد حتى رسبت في السنة الخامسة الابتدائية، وأعدت السنة. بدأت أهرب من المدرسة ولا أرغب بالدراسة؛ فالمدرسة كانت سجناً، والذهاب إليها يعني الألم والمعاناة.

بعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية، انتقلت إلى الدراسة في قرية مجاورة لاستكمال المرحلة الإعدادية. كنت أذهب مشياً حوالي ستة كيلومترات ذهاباً وإياباً، وأحياناً نركب الباص. كان الشتاء بالنسبة لي معاناة حقيقية، فصممت على ترك المدرسة. لكن والدتي استخدمت دهائها في منعي من تحقيق رغبتي، يدفعها إلى ذلك حبها لي ورغبتها في أن تراني متعلماً كبقية أقراني. وعدتني بالسماح لي بممارسة العمل الذي أحب بعد الثانوية، على عكس والدي الذي لم يمانع إطلاقاً في ترك المدرسة. كان يقول لي: “عندما تترك المدرسة، ستساعدني في العمل للإنفاق على العائلة، ودراستك هي لنفسك ولا أستفيد منها شيئاً، بل هي عبء أتحمله”.

إصرار والدتي على استكمال تعليمي منعني من ترك المدرسة. خلال المرحلة الابتدائية، تحسن الوضع المالي لوالدي، فبنى بيتاً جديداً من الحجر والأسمنت مكوناً من خمس غرف. شعرت بتحسن المستوى المعيشي، لكن أسلوب الحياة في المنزل كان يتغير ببطء شديد، مما جعلني أصر على موقفي بترك المدرسة للعمل على تحسين أوضاعنا. أنهيت المرحلة الإعدادية بعد طول عناء، ولم أذكر أنني نجحت في سنة من سنواتها بدون إكمال في بعض المواد. كنت أتقدم للامتحان فيها قبل بدء المدرسة وأحصل على علامة النجاح لأرتقي إلى الصف الأعلى.

بعد ذلك، انتقلت إلى مدينة طولكرم للالتحاق بالمرحلة الثانوية بعد حصولي على خمسة دنانير كانت والدتي توفرها بتقليل بعض احتياجاتها. ذهبت إلى المدينة ووجدت فيها حياة مريحة بالمقارنة مع القرية، فبدأت أنسجم مع الدراسة وتحسن تحصيلي. في نهاية السنة، حصلت على نجاح بدون تقصير في أي مادة، وانتقلت إلى الصف الأعلى. في نهايتها، تقدمت لامتحان الثانوية العامة (المترك)، وهو أقل من التوجيهي بسنة واحدة، ولكنه يؤهل للقبول في بعض الجامعات، حيث كانت تقبل به جامعة دمشق، خلافاً للجامعات المصرية التي كانت تشترط دراسة سنة إضافية للحصول على التوجيهي.”

ذكريات دراسته الجامعية

يتابع المرحوم الدكتور أحمد الحوراني حديثه عن التحاقه بالدراسة الجامعية قائلاً: “فضلت الذهاب إلى دمشق للدراسة في جامعتها لأنها توفر سنة دراسية إضافية، وكان ذلك عام 1960. مما يجدر ذكره أن الأحوال تحسنت كثيراً في الستينات بفضل التحسن في أساليب الزراعة المروية نتيجة لاستخراج الماء من الأرض بواسطة الآبار الارتوازية، وأيضاً بفضل تحويلات العمال والمعلمين الذين ذهبوا للعمل في الكويت والسعودية.

بعد نجاحي في الثانوية، أقام أهلي احتفالات استمرت لثلاثة أيام، حيث كان الناس يقدرون العلم والمتعلمين. بدأت بعدها الاستعداد لاستكمال دراستي الجامعية، وكان السبب الأساسي هو المرتبة والراتب الأعلى اللذين سأحصل عليهما، والأهم من ذلك رغبة والدتي الشديدة في ألا أكون أقل من أقراني. وقع اختياري على جامعة دمشق حيث لم تكن توجد جامعة في الأردن في ذلك الوقت.

اخترت كلية الآداب/قسم التاريخ لسببين: الأول هو اعتزازي بتراث أمتي ودراسة تاريخ الأمم وحضارتها، والسبب الثاني هو أن العمل المتاح في ذلك الوقت كان معلمًا في وزارة التربية والتعليم، حيث كان الطلب شديدًا على المعلمين في داخل الأردن والخليج.

ذهبت للدراسة في جامعة دمشق وغادرت القرية يومها، وكان يتنازعني إحساس مؤلم لمفارقة أهلي وقريتي وإحساس بالنشوة والفرح لذهابي إلى مدينة دمشق للدراسة في جامعتها. كنت أسمع أيامها عن دمشق وجمالها والحياة المريحة فيها. أصبحت أتردد على الجامعة لتلقي المحاضرات، وكنت مجداً في دراستي لتحقيق النجاح الذي يرضي والدي ويزيد ثقتي في نفسي. وقد تحقق لي ذلك رغم صعوبة الدراسة والنجاح في تلك الأيام. ولولا الرسوم الرمزية القليلة التي كانت تتقاضاها الجامعة، لكنت حرمت من الدراسة، كما كان سيحدث لآلاف الطلاب أمثالي.

في العام الجامعي الأول 1960-1961 كانت الوحدة بين سوريا ومصر تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة. أود أن أذكر هنا رفضي للالتحاق بأي حزب من الأحزاب التي كانت سائدة في ذلك الوقت، لأنني رأيت فيها استغلالاً للبسطاء والفقراء والتسلق على ظهورهم، وبذلك نأيت بنفسي عن الانشغال بالسياسة وفضلت التركيز على مستقبلي الدراسي حتى أحصل على الشهادة التي اغتربت من أجلها. مضت الأيام سريعاً وعشت عصر الانقلابات في سوريا، فقد حصلت انقلابات متعاقبة كانت تهدر فيها الأموال والطاقات.

بعد انفصال سوريا عن مصر عام 1961، وكنت في السنة الثانية بكلية الآداب، سمحت الجامعة بإمكانية دراسة تخصص آخر، فاخترت الدراسة في كلية الحقوق. أصبحت أحرص على حضور محاضرات الحقوق التي استمتعت بها، وكان الدافع لذلك أنني وجدت في دراسة الحقوق دراسة للحياة من أوسع أبوابها، وكذلك لتوفير الفرصة أمامي لتغيير العمل الوظيفي الذي تؤهلني له دراسة الآداب/قسم التاريخ. بذلت جهداً مضاعفاً لأنني كنت أتقدم لامتحانين في الكليتين في وقت واحد، وكنت أنجح بفضل الله.

صادف أحياناً كثيرة أنني لم أكن أدرس جميع المتطلبات في المادة، ولكن الأسئلة كانت تأتي دائماً من المادة التي درستها. عندما تكرر هذا الأمر بكثرة، أصبحت أتوقع الأسئلة من المادة التي تم تحضيرها، وكان ذلك يحدث على الدوام. فخالجني شعور بأن خطواتي يحكمها القدر، وأنني أسير إلى مستقبل مشرق وواعد منذ ذلك الوقت.

في شهر يونيو حزيران عام 1964، حصلت على الشهادة الجامعية من كلية الآداب/قسم التاريخ، وبذلك انتهت المرحلة الأولى من دراستي. عملت مدرّساً للمرحلة الثانوية في المدرسة العربية الثانوية في مدينة جنين، إحدى مدن شمال فلسطين التي تخضع للسلطة الفلسطينية حالياً. قضيت عاماً في العمل في هذه المدرسة في عام 1965، وكنت حينها أتابع دراستي في كلية الحقوق للسنة الثالثة التي أنهيتها بنجاح.”

عمله في السعودية عام 1967

يتحدث الدكتور أحمد الحوراني عن عمله في السعودية قائلاً: “قررت السفر إلى السعودية للعمل كمعلم هناك، حيث كنت أتقاضى ضعف الراتب الذي كنت أتقاضاه في بلدي. أدخرت مبلغاً ممتازاً بمقاييس ذلك الوقت. عند بداية العطلة الصيفية في شهر يونيو 1967، توجهت بالطائرة إلى دمشق لعدم وجود رحلة مباشرة إلى عمان. نزلت في دمشق للاستراحة واستعادة بعض الذكريات، وما أن مر يوم واحد حتى نشبت حرب حزيران التي انتهت بالنكسة، والتي ضاع على إثرها ما تبقى من فلسطين وجزء من سوريا ولبنان ومصر.

عشت أياماً عصيبة، فقدت فيها كل شيء، الأهل والوطن. لكن ما الحيلة وما العمل؟ بعد مرور أسبوعين على توقف الحرب، أدركت أن الحياة يجب أن تأخذ مجراها وأنه لابد من العودة للكفاح بقدر استطاعتي. تجرعت آلامي وقلت لابد أن أستكمل مشواري في الحياة، فتقدمت لامتحانات السنة النهائية في كلية الحقوق، وحصلت على الشهادة الجامعية الثانية.”

زواجه.. وشريكة حياته

وعن زواجه قال الدكتور أحمد الحوراني: “بعد إنهاء دراستي، فكرت في الاستقرار، وكنت على يقين حينذاك أنه لم يكن بوسعي السفر إلى قريتي. بدأت بالبحث عن فتاة تشاركني الحياة بمرها وحلوها، فوقع اختياري على زوجتي الحالية. وجدت فيها الفتاة التي كنت أطمح للزواج منها؛ لفت نظري جمالها وابتسامتها التي لا تفارقها، واسمها باسمه، والبيئة المتمدنة التي تختلف عن بيئة القرية وظروفها.

تقدمت لخطبتها وحصل النصيب، وتزوجتها بعد ذلك بأسبوعين. أقام أهل زوجتي حفلاً للزواج في منزلهم، حيث كان معظم الحضور من أهلها وأقاربها. لم يحضر من أهلي إلا عدد قليل بسبب احتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين.”

العودة للعمل في السعودية

يعود الدكتور أحمد الحوراني للعمل في السعودية حيث يقول: “بعد شهر من زواجي، عدت إلى مكان عملي في أبها، في المملكة العربية السعودية. كانت أبها في ذلك الوقت مدينة صغيرة أشبه بالقرية الكبيرة. استأجرت بيتاً وسط بستان من الأشجار المثمرة، شبيهاً ببيوت قريتي، وكان يفتقر إلى الكهرباء. استخدمت مصباح الكاز (اللوكس) ذو الضوء القوي الذي كان أقرب ما يكون لنور الكهرباء، وبالتالي لم تكن هناك غسالة أو ثلاجة، لكن بقية الاحتياجات كانت متوفرة بكثرة. لم يكن الأمر مزعجاً بالنسبة لي، فكأني أعيش في قريتي، ولكن زوجتي وجدت اختلافاً كبيراً بين معيشتها في مدينة دمشق حيث كانت جميع وسائل الحياة المريحة موجودة في بيتها.

تأقلمت زوجتي مع هذا الجو الجديد، ولم ألاحظ عليها أي تذمر أو امتعاض، لكنها كانت تندهش لرؤية بعض الزواحف مثل العقارب أو الضفادع. لكن اعتيادي على التعامل مع تلك الزواحف هدأ من روعها وأمنت بجانبي منها.

انتهى العام، وكانت تسليتي الوحيدة لعب الورق وزيارة الأصدقاء والجيران. وجاء موعد العطلة الصيفية لنقضي الإجازة في دمشق، وكان ذلك في بداية شهر حزيران من عام 1968. قضينا الإجازة في بيت أهلها، حيث كانت زوجتي في الشهور الأخيرة من الحمل، فوضعت أول مولود ذكر في النصف الثاني من شهر آب 1968، وأسميناه ماهر. كان سروري كبيراً بمولده، فقد كان لدي إحساس بأنه سيكون الأنيس والمساعد.

عندما انتهت العطلة الصيفية، عدت إلى مقر عملي في مدينة أبها، وعادت الحياة إلى سيرتها الأولى مع فارق وجود الطفل الجديد وما فرضه من تغييرات خاصة بالنسبة لأمه، فقد شغل جزءاً أكبر من وقتها وأحست بالأمومة.

وفي منتصف العام، وصلني قرار بنقلي من مقر عملي في أبها إلى مدرسة عكاظ الثانوية في الطائف. ذهبت إلى الطائف، وكانت مدينة تشمل وسائل الراحة المعروفة في المدن. استأجرت شقة في بناية مزودة بوسائل الراحة، وكانت المدرسة كبيرة وفيها مدرسون وموجهون من أكثر من عشر جنسيات عربية وأجنبية. كانت الفرصة متاحة لي للاحتكاك بعدد أكبر من الناس أصحاب التجارب والخبرات المتعددة.”

حلمه بالدراسات العليا والتحديات

يقول الدكتور أحمد الحوراني عن بدء تحقيق حلمه بالدراسات العليا: “في أحد الأيام، وبينما كنت أجلس مع زميل لي كنت معجباً بخبرته ورأيه، نصحني بالالتحاق بالدراسات العليا والحصول على الدكتوراه. أخذت كلامه على محمل الجد وبدأت أفكر في التنفيذ. اتصلت ببعض المعارف الذين كانوا يدرسون في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وفعلاً تلقيت التشجيع للالتحاق بالدراسة خاصة وأن التكاليف كانت منخفضة. تقدمت بالأوراق المطلوبة وتم تسجيلي في كلية الحقوق في برنامج دبلوم التشريع الضريبي، الذي يعادل السنة الأولى من الماجستير.

في نهاية العام، صدر قرار بنقلي إلى مدرسة ثانوية في منطقة الباحة بالسعودية، فذهبت إليها بعد قضاء العطلة الصيفية في دمشق في منزل أهل زوجتي. بعد انتهاء العطلة، ذهبت إلى مقر عملي الجديد وبدأت أستعد للامتحان في نهاية العام. عندما اقتربت نهاية السنة والعطلة، بدأت بالاستعداد للسفر إلى القاهرة، فسافرت إلى دمشق أولاً وتركت زوجتي عند أهلها لتضع مولودها الثاني. وضعت زوجتي بنتاً وسميناها “سهير” بعد سفري للقاهرة لأداء الامتحان.

في نهاية الامتحان، حصلت على علامة النجاح التي أتاحت لي فرصة استكمال السنة الثانية في دبلوم القانون العام. أرسلت استقالتي إلى وزارة المعارف بالسعودية وبدأت بالاستعداد لامتحان الدبلوم العام وحضور المحاضرات. تأثرت شخصيتي في هذا العام بعدد من الأساتذة الكبار، ومن أشهرهم الدكتور حامد سلطان، أستاذ القانون الدولي، والدكتور عبد الحكيم الرفاعي، أستاذ المالية، والدكتورة عائشة راتب، أستاذة القانون الدولي العام. بذلت الجهد المطلوب ونجحت بتفوق في نهاية العام، وقد كنت متفرغاً للدراسة.

أثناء دراستي، في شهر نوفمبر 1971، وضعت زوجتي مولودها الثالث عند أهلها في دمشق وأسميته عمر. بعد حصولي على درجة الماجستير من كلية الحقوق بجامعة القاهرة، بدأت التفكير في استكمال درجة الدكتوراه. بدأت بالاستعداد لاختيار الموضوع المناسب والأستاذ المناسب، فوقع اختياري على موضوع مالي واقتصادي بعنوان “دور المعونة الأجنبية في تمويل التنمية الاقتصادية مع دراسة تطبيقية على الأردن” مع الأستاذ الدكتور عاطف صدقي الذي قبل مشكوراً بالإشراف على رسالتي.

بدأت بعد ذلك بالتفكير في تدبير أموري المالية، خاصة وأن المدخرات التي جمعتها أشرفت على النفاد. قررت أن أعمل لسنتين لجمع بعض المال، ولكن قبل ذلك قمت بزيارة أهلي في الأراضي المحتلة في صيف عام 1971. عبرت جسر الملك حسين على نهر الأردن برفقة زوجتي والأطفال. عندما وصلت البيت، وجدت والدتي بانتظاري ولم تتحمل الصدمة، فلم تقدر على الوقوف على قدميها حيث دب فيها المرض منذ ذلك الوقت. انشغلت طول فترة إقامتي بعلاجها والجلوس معها، وكانت تعرف أن أيامها الباقية معدودة والأيام التي سأقضيها معها أقل من ذلك. بعد ذلك، تحسنت صحتها قليلاً، فرجعت إلى القاهرة. وكانت قد تحسنت النواحي المالية لوالدي، فمنحني بعض المال الذي يكفي لسنة واحدة، وعدت إلى القاهرة لاستكمال دراستي.”

السفر للعمل في ليبيا لتأمين مصاريف دراسة الدكتوراه

يقول الدكتور أحمد الحوراني: “في تلك الأثناء، حضرت البعثة التعليمية الليبية للتعاقد مع عدد من المدرسين، فتعاقدت معهم وسافرت إلى بنغازي. كانت مدينة جميلة تتوفر فيها وسائل الحياة الكريمة. لم أضع الوقت وانشغلت بدراسة المراجع المتعلقة بموضوع الدكتوراه. بقيت في بنغازي حتى صيف عام 1973، حيث قدمت استقالتي للتفرغ لاستكمال درجة الدكتوراه.”

الدكتوراة وعن تحقيق الحلم والحصول على الدكتوراه، قال المرحوم في مذكراته:

“توجهت إلى القاهرة واستأجرت شقة مفروشة في شارع مصدق بحي الدقي، حيث استقدمت العائلة (الزوجة والأطفال الثلاثة) وأدخلت ابني ماهر مدرسة قصر النيل حتى أنهى السنة الأولى الابتدائية. مكثت سنتين في القاهرة، وخلال هذه الفترة، بالتحديد في عام 1975، رزقت بطفلة أسميتها إيناس، وبذلك أصبحت العائلة مكونة من الزوجة وأربعة أطفال: ماهر (1968)، سهير (1970)، عمر (1971)، وإيناس (1975).

في الشهر الخامس من عام 1975، تلقيت خبراً من فلسطين المحتلة يفيد بوفاة والدتي رحمها الله، حيث توفيت في 29-5-1975 إثر إصابتها بسكتة قلبية في مستشفى مدينة طولكرم، وهو امتداد للمرض الذي أصابها عندما ذهبت لرؤيتها أول مرة. تم دفنها في باقة الشرقية. حزنت لوفاتها حزناً شديداً، لكن بدأت أعود لطبيعتي بمرور الأيام، وتلك هي سنة الحياة.

مكثت سنتين في القاهرة حتى أنهيت متطلبات درجة الدكتوراه، وتشكلت لجنة المناقشة من الأساتذة: دكتور عاطف صدقي (المشرف)، وعضوية كل من الدكتور مصطفى السعيد (أستاذ الاقتصاد في كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة) والدكتور يسري مصطفى (رئيس الجهاز المركزي للمحاسبة). حصلت على درجة الدكتوراه في الاقتصاد والعلوم المالية بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف الثانية. بعد انتهاء دراستي في القاهرة في 18/11/1975، عدت إلى عمان”.

مسيرة العمل والعطاء في عمان

يضيف المرحوم بعد عودته إلى عمان: “بدأت بالبحث عن وظيفة، حيث استقر الأمر على اختياري للعمل في البنك المركزي الأردني. كانت الوظيفة في دائرة أبحاث البنك المركزي الأردني براتب شهري بلغ حوالي 250 ديناراً أردنياً. مكثت في البنك المركزي لمدة ست سنوات، تم خلالها انتدابي للعمل كمستشار في وزارة العمل، ومدير لبنك تنمية المدن والقرى، ومساعد مدير عام الضمان الاجتماعي. بلغ راتبي في نهاية عملي الوظيفي حوالي ثمانمائة دينار.

خلال عملي، قمت بتأليف كتاب في التشريع الضريبي، بالإضافة إلى عملي كمحاضر في الموضوع الضريبي.”

تأسيس معهد العلوم المالية والمصرفية

يتابع المرحوم حول تأسيس معهد العلوم المالية والمصرفية قائلاً: “من خلال عملي في البنك المركزي، لاحظت أن بعض التجار يعتمدون على الاقتراض من البنوك التجارية لتمويل تجارتهم. بدأت أفكر في الانتقال للعمل في القطاع الخاص، ولكن قبل الانتقال جربت بعض الأعمال من خلال الوظيفة. أول هذه الأعمال كان في عام 1980، حيث قمت بتأسيس معهد العلوم المالية والمصرفية، الذي أصبح يُعرف فيما بعد بكلية الأندلس في عمان، وأتبعته بفرعين أحدهما في مدينة الزرقاء والآخر في إربد.

أما سبب تأسيس هذا المعهد فيعود إلى أنني كنت أعمل مدرساً في معهد العلوم المصرفية والمالية التابع للبنك المركزي خلال الفترة المسائية بأجر إضافي. ولكن مدير المعهد، الذي كان يعمل مديراً تنفيذياً في البنك المركزي، استبدلني بمدرس آخر لأسباب لم أقتنع بها. تأثرت كثيراً وبادرت إلى تأسيس معهد للعلوم المالية والمصرفية. جمعت عدداً من الأصدقاء العاملين في قطاع البنوك، وكان العدد ثمانية بمساهمة بلغت ثلاثة آلاف دينار لكل واحد. لم يكن لدي هذا المبلغ، فاستلفته من أحد البنوك وكنت المحرك لهذا المشروع والمشرف الأساسي عليه. استأجرت مبنى في جبل عمان (الدوار الخامس)، وتم تأثيثه وتجهيزه بمتطلبات الدراسة. كان ذلك في الشهر السابع من عام 1980، وبدأ التسجيل لخريجي الثانوية العامة الذين لم يحالفهم الحظ بالالتحاق بالجامعات. تم تسجيل حوالي ألف طالبة وطالب تلك السنة، وأصبح لدينا سيولة تقارب مئتي ألف دينار، مما مكننا من تعيين أفضل المدرسين وإحضار التجهيزات المناسبة.

عملت مدرساً في الفترة المسائية في المعهد وألفت العديد من الكتب لدراسة الطلاب. تابعت الدراسة في المعهد وأداء المدرسين، وكنت أعقد اجتماعات أسبوعية مع الشركاء، وجميعهم من الأساتذة ومدراء البنوك لمتابعة نشاط المعهد. تخرجت الدفعة الأولى في صيف عام 1981، وكانت على سوية عالية، مما أكسب المعهد مصداقية وسمعة عالية. ازداد الإقبال عليه، وتحسنت الربحية وازداد دخلي من خارج الوظيفة حتى تجاوز الألف دينار في الشهر، وهو دخل جيد بمقياس الوظيفة.

في هذه الأثناء، ومن خلال ارتباطي بالبنك المركزي ورغبة في توفير السكن الملائم للموظفين، اقترحت أنا ومجموعة من الموظفين على محافظ البنك المركزي تمويل مشروع للإسكان يتناسب ودرجات الموظفين تبعاً لرتبهم. أسسنا جمعية تعاونية لإسكان موظفي البنك المركزي وانتخبت رئيساً للجمعية. عملت أربعة نماذج للشقق تبعاً لراتب الموظف في عام 1978، وفرغت من بناء الشقق وتجهيزها للسكن في عام 1980. كنت أول السكان الجدد في المشروع، وكانت شقة واسعة بالمقارنة مع الشقة التي كنت أسكن فيها، وجهزتها بأفضل الأثاث. ساعدني على ذلك الدخل الإضافي الذي كنت أحصل عليه من المعهد نتيجة للعمل والربح، وشعرت يومها بإنجاز لم أكن أحلم به وارتحت لهذا السكن.

في تلك الفترة، فكرت بضرورة إنجاب طفل خامس، فوضعت زوجتي طفلة أسميناها “عبير” عام 1981، ثم وضعت طفلة أخرى أسميناها “ريم” في عام 1982، وقلت: كفى لحد هنا.”

وفاة والده الحاج مفلح الحوراني

وعن وفاة والده الحاج مفلح الحوراني قال: “كان والدي يزورني وإخوتي مرة في السنة بعد وفاة والدتي، وكانت زيارته دائماً في الصيف. كان يقول لي دائماً: ‘أنت محظوظ ومرضي الوالدين، فوالدتك كان لسانها يذكرك دائماً وقلبها متعلق بك، وتوفيت على هذه الحال’. كان يزيد إعجابه بتصرفاتي عندما استقدمت أختي الصغرى ناديا لاستكمال تعليمها في عمان ورعايتها كأحد أبنائي. حضرت ناديا إلى عمان عام 1981 بعد أن أنهت المرحلة الثانوية في القرية.

في صيف عام 1984، مرض والدي مرضاً شديداً في قريته وكأنه أحس بدنو أجله، فطلب من أحد أصدقاء العائلة أن يأتي به إلى عمان. حضر إلى بيتي في إسكان البنك المركزي، وفرحت برؤيته ولكنني حزنت لما آلت إليه صحته. رغم ذلك، كان حاضر الذهن وذاكرته ممتازة. ما أحزنني حقاً هو فقدانه لشهيته، بخلاف ما كان عليه سابقاً، حيث كنت أحب أن أطعمه ما كان يحب.

في آخر عشرة أيام، اشتد مرضه ونقلته إلى المستشفى حيث كنت أمضي معه بعض الوقت. عندما كنت أتأخر معه، كان يقول لي: ‘اذهب، لديك أعمال كثيرة، اذهب وتابع عملك’. في التاسع من أكتوبر سنة 1984، اشتد به المرض، فحدث هبوط في القلب وتعطلت الكلى عن العمل، وبدأ قلبه بالوهن والضعف المتواصل حتى توقف عن النبض صبيحة يوم 10 أكتوبر 1984.

كنت أرغب في دفنه في عمان ليبقى قريباً مني، وقد اخترت له مقبرة ياجوز، وهي الضاحية القريبة من مسكني.”

تأسيس مدارس الجامعة

لم يعد بإمكان المرحوم الدكتور أحمد الحوراني الجمع بين الوظيفة والعمل في القطاع الخاص، لذا قرر الاستقالة والتفرغ للعمل الخاص. قدم استقالته من العمل في البنك المركزي في الشهر الخامس من عام 1982.

ومنذ بداياته في القطاع الخاص، آمن الدكتور أحمد بأهمية الاستثمار في التعليم، وكان مدركاً لضرورة تأسيس مدارس خاصة تستوعب أعداد الطلبة، لا سيما في العاصمة عمان. لذلك، أسس مدارس الجامعة الثانوية في عام 1979 في منطقة الجبيهة، والتي شملت جميع المراحل الدراسية من الروضة وحتى الثانوية العامة. وسع بعدها الفروع في عمان، حيث أنشأ مدارس الجامعة الثانوية الأولى في الجبيهة، ثم مدارس الجامعة الثانية في طبربور، وتلاها إنشاء مدارس الجامعة الثالثة في منطقة تلاع العلي.

حرص الدكتور أحمد على دعم مدارس الجامعة وتوفير احتياجاتها وجميع المستلزمات الضرورية لقيامها بتأدية رسالتها التربوية لإعداد جيل من أبناء وبنات الوطن المنتمين إلى الأردن بلداً، وإلى الأمة العربية وطناً، جيلاً مسلحاً بالعلم والمعرفة. لتحقيق ذلك، ركز على توفير كادر تعليمي وإداري مؤهل في جميع التخصصات، قادر على تخريج طلبة يحملون فكراً وخلقاً وديناً ومنهجاً. كما عمل على توفير البنية التحتية المادية والبشرية المناسبة لإيجاد بيئة تعليمية حديثة تواكب مستجدات وتحديات العصر.

وفي إطار سعيه الحثيث لإضافة كل ما يستجد، قامت المدارس بتنفيذ توجيهات مؤسسها، حيث صممت الغرف الصفية ضمن مواصفات فنية متميزة، وحوسبت باستخدام Smart Board من الصف الأول إلى الصف العاشر، إضافة إلى صفوف الروضة KG1 وKG2، والقسم الدولي. كما أعدت غرف مجهزة للطلبة الكبار لتطبيق الحصص المحوسبة لجميع المراحل العليا، بالإضافة إلى المختبرات العلمية والحاسوب.

ولأنه الإنسان الذي عاش حياته رؤوماً رحيماً، تبنت المدارس سياسة دعم الطلبة المتميزين والمتفوقين دراسياً. حققت مدارس الجامعة نتائج مرموقة في نتائج طلبتها، وكان من بينهم طلبة الثانوية العامة الذين حققوا مراتب متقدمة على مستوى المملكة. كل هذا لم يكن ليتحقق لولا حنكة الإدارة وبعد النظر الذي حباه الله للراحل الكبير أبو ماهر، حتى أصبحت اليوم تحتل مرتبة في مقدمة وطليعة المؤسسات التربوية الوطنية.

تأسيس وإدارة شركة داركو للاستثمار والإسكان

بعد استقالته من العمل الحكومي، بدأ المرحوم الدكتور أحمد الحوراني في تأسيس وإدارة شركة داركو للاستثمار والإسكان في بداية عام 1983. في نهاية العام، قام ببيع أسهمه في هذه الشركة. كانت فكرة الشركة تعتمد على إنشاء شقق سكنية للمغتربين الأردنيين في الخارج وأصحاب الدخل المتوسط في الداخل. بدأت الشركة بثلاثين مساهماً رغبوا في أن يكونوا من المؤسسين، وغطوا 50% من رأس المال الذي قدر آنذاك بحوالي ثلاثة ملايين دينار.

تم طرح الأسهم في وسائل الإعلام وخاصة الصحافة، وأُعلن عن تأسيس الشركة ودعوة الأشخاص الطبيعيين والمعنويين للاكتتاب. كان الإقبال جيداً، وتمت تغطية رأس المال ثلاث مرات. ساهم المرحوم في المشروع بمبلغ مائة وخمسين ألف دينار. نجحت الشركة في شراء الأراضي السكنية وتصميم المباني عليها، وتم تداول أسهم الشركة في بورصة الأوراق المالية في سوق عمان المالي. بدأت الشركة تحقق نجاحات متتالية في مشاريعها السكنية، مما أدى إلى ارتفاع قيمة الأسهم.

ونظراً للاستقطابات وبوادر الانشقاقات داخل الشركة، قرر المرحوم بيع جميع أسهمه وحقق ربحاً يقارب رأس ماله.

تأسيس الشركة الأردنية المتحدة للاستثمار

بعد تجربته الناجحة في الشركة الأولى، قام المرحوم الدكتور أحمد الحوراني بتأسيس الشركة الأردنية المتحدة للاستثمار، مع توسيع نطاق استثماراتها لتشمل أنشطة اقتصادية متنوعة. حققت الشركة نجاحاً طيباً في جميع مشاريعها، وكان المرحوم يمتلك 50% من أسهم الشركة.

ومع بداية الركود الاقتصادي منذ نهاية عام 1985 وتقلص الأرباح بشكل كبير، أبدى المساهمون رغبتهم في بيع أسهمهم. اضطر المرحوم إلى الدخول في البورصة الدولية وتجارة العملات والمعادن الثمينة والأسهم والسندات، مستفيداً من خبراته. حقق في هذه الصفقات أرباحاً طائلة، استخدم جزءاً كبيراً منها في شراء أسهم الشركاء في الشركة، حتى وصلت مساهمته إلى أكثر من 90% من رأس مال الشركة.

تأسيس جامعة عمان الأهلية “أولى الجامعات الخاصة في الأردن والمنطقة”

في مطلع التسعينات، تحقق الحلم الأكبر للدكتور أحمد الحوراني على امتداد مساحات الوطن، حيث قام بتأسيس درّة الجامعات الخاصة في الأردن وأول جامعة خاصة في المنطقة، “جامعة عمان الأهلية”، التي افتتحت أبوابها أمام الطلبة في عام 1990. سرعان ما غدت الجامعة في مقدمة الجامعات المتميزة في مجال التعليم الجامعي والبحث العلمي محلياً وإقليمياً ودولياً، وما زالت تلعب دوراً فاعلاً في تنمية ونهضة المجتمع الأردني والعربي.

أولى الدكتور أحمد الحوراني الجامعة اهتماماً كبيراً منذ نشأتها، وسعى إلى توفير أفضل الفرص التعليمية والبحثية للطلبة والأكاديميين، بما يتماشى مع المعايير الدولية. كان هدفه تقديم خدمة فعالة للمجتمع الأردني والعربي من خلال التعليم والبحث والاستشارات وخدمة المجتمع بمستويات عالية، وإدماج مفهوم الجودة الشاملة والتحسين المستمر في مختلف المجالات التعليمية والبحثية والإدارية بالجامعة. كما حرص على توفير بيئة تعليمية صحية داعمة، تعمل على الحفاظ على موقع الجامعة المتقدم كموئل للعلم والمعرفة والفضيلة، وتنمية شخصية الطالب بما يجعله قادراً على الابتكار والعمل الجماعي والمنافسة محلياً وإقليمياً ودولياً.

ومنذ تأسيسها، واكبت الجامعة التطورات المتلاحقة في شتى الميادين. عمل الدكتور أحمد الحوراني على استحداث برامج أكاديمية متنوعة واستقطاب أعضاء هيئة تدريس على درجة عالية من الخبرة العلمية والعملية والكفاءة، ومن خريجي أعرق الجامعات العالمية. بعد أن كانت الجامعة تضم ثلاث كليات فقط هي: كلية الحقوق، كلية الآداب والعلوم، وكلية العلوم الإدارية والمالية، فقد أصبحت اليوم تضم ثماني كليات، هي:

  1. كلية الآداب والعلوم: (تخصصات اللغة الإنجليزية وآدابها، اللغة الإنجليزية والترجمة، علم النفس، التربية الخاصة)
  2. كلية الحقوق: (تخصص الحقوق)
  3. كلية تقنية المعلومات: (تخصصات علم الحاسوب، الشبكات وأمن المعلومات، هندسة البرمجيات)
  4. كلية العلوم الإدارية والمالية (كلية الأعمال): (تخصصات المحاسبة، إدارة الأعمال، العلوم المالية والمصرفية، التسويق، نظم المعلومات الإدارية، الأعمال والتجارة الإلكترونية)
  5. كلية التمريض: (تخصص التمريض)
  6. كلية الصيدلة والعلوم الطبية: (تخصصات الصيدلة، التحاليل الطبية، السمع والنطق، علم البصريات)
  7. كلية الهندسة: (تخصصات هندسة الحاسوب، هندسة الإلكترونيات والاتصالات، الهندسة الطبية، الهندسة المدنية، الهندسة الكهربائية)
  8. كلية العمارة والتصميم: (تخصصات الهندسة المعمارية، التصميم الجرافيكي، التصميم الداخلي)

استمراراً لنهج التطور، ترجم الدكتور أحمد الحوراني رؤاه الثاقبة في استحداث برامج دراسات عليا. طرحت الجامعة، بعد موافقة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، برامج ماجستير في الحقوق، علم النفس الإكلينيكي، العلوم الصيدلانية، هندسة الاتصالات، وماجستير إدارة الأعمال المشترك مع جامعة هيريوت-وات في إدنبرة.

تنفيذاً لرؤاه الشاملة، جسدت جامعة عمان الأهلية مبدأ “الجامعة في خدمة المجتمع”، وطورت عملية تنمية وتطوير الشراكة والخدمة المجتمعية. لم تتقوقع الجامعة على نفسها، بل كانت رائدة في الانفتاح على الوطن ككل، وشاركت وما زالت تشارك في إحياء المناسبات الوطنية والاجتماعية والدينية. كل ذلك لأن مؤسسها كان رجلاً وطنياً أحب الأردن وقيادته الهاشمية، وأخذ على عاتقه ألا تحيد الجامعة يوماً عن المشروع النهضوي الوطني. قامت الجامعة بتعزيز قيم الحب والولاء والانتماء للوطن أرضاً وقيادة هاشمية وشعباً.

اليوم، وبعد مرور ستة وعشرين عاماً على تأسيس الجامعة، التي تقف شامخة على مدخل السلط الشماء، فإنها تواصل رسالتها بثقة وعزيمة واقتدار. رفدت الجامعة السوق المحلي والعربي بنخبة من الخريجين الذين احتلوا مراكز مهمة في المؤسسات المحلية والإقليمية في القطاعين الحكومي والخاص. ورغم غياب جسد مؤسسها، فإن توجيهاته ورؤاه لا تزال محط اهتمام وعناية من قبل أبنائه البررة. ها هي الجامعة تمضي في رسالة العلم والعطاء، بعد أن أصبحت معروفة ليس على المستوى الأردني فحسب، بل على مستوى دول الجوار والمنطقة العربية والعالم. تستحق الجامعة أن تتزين بقلادة رائدة الجامعات الخاصة في الأردن، ويستحق الدكتور أحمد الحوراني أن يُعتبر رائد التعليم الخاص في الأردن.

تدشين مجمع الأرينا الثقافي الرياضي في الجامعة

بهدف استكمال دور الجامعة الثقافي والاجتماعي، تم في عام 1995 إنشاء مجمع ثقافي رياضي اجتماعي باسم “مركز الأرينا”. اكتمل إنجاز المجمع في عام 1999 وتم افتتاحه بحفل للمطربة فيروز. يعتبر هذا المركز من أكبر وأحدث المجمعات الثقافية والرياضية في المنطقة العربية، حيث تزيد مساحته عن 25 ألف متر مربع. يشتمل المجمع على مسرح يتسع لأكثر من خمسة آلاف متفرج، وقد تشرف باستقبال جلالة الملك عبد الله الثاني، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، بمناسبة تتويجه ملكاً.

استضاف مسرح المجمع العديد من الحفلات لفنانين عرب كبار مثل جورج وسوف، كاظم الساهر، مارسيل خليفة، وغيرهم. بالإضافة إلى ذلك، يُقام في المجمع العديد من المناسبات العلمية والاجتماعية في الجامعة، مثل حفلات التخرج وغيرها.

يضم المجمع أيضاً مختلف الصالات الرياضية، وأحواض السباحة، والتجهيزات المختلفة لمعظم الألعاب الرياضية، مما يجعله مركزاً متكاملاً للأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية في الجامعة.

شركة الألبان الأردنية “مها”

في العام 1996، قرر المرحوم الدكتور أحمد الحوراني الاستثمار في شركة الألبان الأردنية “مها” من خلال شراء الأسهم المطروحة للتداول في السوق المالي، حيث كانت الشركة مملوكة مناصفة تقريباً بين القطاعين الخاص والحكومي. بفضل قدرته المعروفة على اتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، استمر في شراء أسهم الشركة حتى تمكن خلال العام 1997 من امتلاك 40% من أسهم الشركة والسيطرة عليها، وتبوأ منصب رئيس مجلس إدارة الشركة.

هذا التمكين أتاح له رسم سياسة جديدة للشركة وفق التصور والتطلعات التي وضعها، وترجمت رؤيته إلى واقع ملموس من خلال تحسن نتائج أعمال الشركة بشكل ملحوظ في الأعوام التالية. أصبحت الشركة تحقق معدلات ربحية جيدة، وتم تجديد مصنع العبوات البلاستيكية بمواصفات عالية وطباعة حديثة، مما عزز منتج الألبان في السوق المحلي.

استمرت قصة نجاح الشركة بفضل القرار الحكيم الذي اتخذه الدكتور أحمد الحوراني بتأسيس مزرعة أبقار حلوب لتزويد مصنع الألبان بالحليب الطازج، المادة الأساسية للإنتاج، وفق مواصفات تفوق المعايير المعتمدة، مما انعكس إيجابياً على جودة المنتج النهائي للشركة.

شراء شركة الألبان الدنماركية

قام المرحوم الدكتور أحمد الحوراني بشراء شركة الألبان الدنماركية التي كانت آيلة للاندثار والإفلاس. استفاد من شهرة الشركة والثقة العالية التي اكتسبتها من بلد المنشأ، واتخذ عدة قرارات لإعادة الحياة إلى الشركة. قام بتغييرات شاملة في الإدارة الوسطى وشدد على الالتزام بمستوى الجودة بصورة لا تقبل المساومة. كما عدل سلم الأسعار بما يتناسب مع المنتجات الجديدة.

نتيجة لهذه الجهود، استعادت الشركة مكانتها وبقوة. واصل المرحوم تطوير الشركة بمساعدة أبنائه، حيث ساعده ابنه ماهر في البداية، والآن الأستاذ عمر الذي يتولى أمور الشركة مباشرة. بذل جهوداً كبيرة في متابعة المزرعة وزيادة الطاقة الإنتاجية للشركة لتصل اليوم إلى ما يقارب 60 طناً يومياً.

تنتج الشركة اليوم تشكيلة رائعة وواسعة من الألبان والأجبان ومشتقاتها، والحليب طويل الأمد، والحليب المنكه، والعصائر الطبيعية ذات الجودة العالية والمشهود لها سواء منتجات “كارولينا”، “بلدنا”، أو “الحياة”.

الاستثمار في القطاع الفندقي والسياحي

انطلاقاً من قناعة المرحوم الدكتور أحمد الحوراني بأن الأردن متحف مفتوح ومقصد سياحي من الطراز الأول، وهو بحاجة إلى بنية تحتية ترفد السياحة بمختلف أنواعها الدينية والعلاجية والتاريخية، شرع في إنشاء منظومة سياحية تمثلت في تشييد العديد من الفنادق الريادية.

تولى المرحوم رئاسة مجلس إدارة “شركة الشرق للمشاريع الفندقية والسياحية”، التي تمتلك فندق الهوليدي إن. كما أسس “شركة الأرينا للاستثمارات الفندقية والسياحية” واشترى فندق أرينا سبيس في منطقة الجاردنز، أحد أجمل مواقع عمان. بالإضافة إلى ذلك، امتلكت الشركة ثلاثة فنادق من فئة الأربع والخمس نجوم في بلغاريا، تحديداً في فلنجراد، سمولن، وفارنا.

الحوراني .. الأستاذ والكاتب

كان المرحوم الدكتور أحمد الحوراني أستاذاً جامعياً بارعاً، قام بتدريس العديد من المقررات الجامعية ضمن تخصصاته. أحبه طلبته كثيراً، وألف العديد من الكتب والمقررات الدراسية التي خدمت رسالته التعليمية.

علاوة على ذلك، كان الدكتور الحوراني صاحب إحساس مرهف وكاتباً مبدعاً. كتب العشرات من المقالات التي نشر بعضها ولم ينشر الكثير منها، وتنوعت مواضيعها بين السياسة والاقتصاد والتعليم والجامعات والاستثمار والحياة. من بين هذه المقالات: “المجلس النيابي والانتخابات”، “نحو مجتمع آمن وأكثر إنتاجية”، “أسعار الفائدة ومصلحة الاقتصاد”، “العلاج الجذري لتراجع السوق المالي”، “أوروبا واليورو”، و”الحياة بين الغد القريب والأمس البعيد”.

كتب أيضاً العديد من المقالات حول التعليم والتعليم العالي والجامعات، منها: “عقبات الاستثمار في قطاع التعليم الخاص”، “معوقات العمل في الجامعات الخاصة”، “ألا تكفي درجة النجاح في التوجيهي لدخول الجامعة الخاصة؟”، “إلغاء امتحان التوجيهي”، “رفع معدلات القبول في الجامعات الخاصة قرار خاطئ”، و”الخطوات الحاسمة نحو إصلاح التربية والتعليم”.

بالإضافة إلى ذلك، كتب الدكتور الحوراني العديد من الخواطر والانطباعات، منها: “تركيا بين الأصالة والحداثة”، “دبي التي رأيت”، و”أيام في الكويت”.

الحوراني .. الإمبراطور

قصة حياة الدكتور أحمد الحوراني وتجربته الغنية، التي لامسنا جزءاً منها في عرضنا السابق، تم تجسيدها في مسلسل “الإمبراطور”. قام بتجسيد شخصيته الفنان حسين فهمي تحت اسم “أحمد العربي”. لقي المسلسل رواجاً كبيراً على قناة “MBC”، حيث عرض مختلف جوانب حياته التي وجد الجمهور العربي فيها تطابقاً مع مظهر أو أكثر من مظاهر الحياة التي عاشها المرحوم. تضمن المسلسل العديد من المواقف والخبرات التي اكتسبها الدكتور الحوراني على مدار حياته الحافلة، مما جعله يحظى بإعجاب وتقدير واسع من مختلف فئات المجتمع.

الحوراني .. والعائلة

في الحديث عن الإطار العائلي في حياة الدكتور أحمد الحوراني، فقد أولى رحمه الله عائلته اهتماماً كبيراً وحرص على تعليم أبنائه وبناته أفضل تعليم. كان الرجل الذي لم يدع باباً للعلم إلا ودخله، ولأنه كان يؤمن بأن العلم وحده هو الذي يقود الإنسان إلى تحقيق مراميه وأهدافه في الحياة الفضلى الكريمة.

رُزق الدكتور أحمد الحوراني بثلة من البنين والبنات الذين يعملون اليوم على آثار والدهم، ويواصلون مسيرة التفوق والتميز والنجاح في شتى الميادين التي عمل بها. زوجته الفاضلة باسمه الشيخ أوغلي، التي تحملت معه مسيرة الكفاح الطويلة والرحلة الشاقة المليئة بالمفاجآت، ساعدته في تربية أبنائهم:

  • الدكتور ماهر: ولد في العام 1968، درس تخصص الحقوق وتخرج من جامعة حلب، وحصل على درجة الدكتوراه في إدارة الأعمال من جامعة صوفيا. متزوج من الفاضلة لمياء رشيد ولهما أربعة أبناء.
  • الأستاذ عمر: ولد في العام 1972، درس إدارة الأعمال وتخرج من جامعة عمان الأهلية، ويحضر للدراسات العليا والدكتوراه. متزوج من الفاضلة شيرين حرب ولهما أربعة أبناء.
  • السيدة سهير: ولدت عام 1971، درست إدارة الأعمال ولديها ثلاثة أبناء.
  • السيدة إيناس: ولدت عام 1975، درست الأدب الإنجليزي، وتعمل حالياً مديرة لدائرة العلاقات العامة والدولية في جامعة عمان الأهلية.
  • الأستاذة عبير: ولدت عام 1981، درست إدارة الأعمال وتخرجت من جامعة عمان الأهلية.
  • السيدة ريم: ولدت عام 1982، درست إدارة الأعمال وتخرجت من جامعة عمان الأهلية، ولديها أربعة أبناء.

بقدر ما كان الدكتور أحمد الحوراني حازماً في التربية، إلا أنه كان حنوناً وعطوفاً، ذا بال طويل، يمازح أفراد العائلة في كثير من الأوقات وخاصة عندما لا يكون مشغولاً، ويتناقش معهم في شؤون كثيرة كل حسب اهتمامه. كان يصطحب زوجته وأبناءه إلى الحفلات الغنائية والعروض المسلية، وكذلك السفر في الإجازات للاطلاع على ثقافات الشعوب. سافر مع العائلة إلى العديد من الأقطار العربية والأجنبية، وكان متحيزاً للفن العربي عموماً، والفن المصري واللبناني والفلكلور الفلسطيني خصوصاً.

الحوراني .. الإنسان

الحديث عن شخصية متنوعة الثقافات والمعارف بحجم وقامة الفقيد الكبير الدكتور أحمد الحوراني، يقود الباحث إلى اكتشاف جوانب أخرى في حياته غير الجوانب الاستثمارية والاقتصادية التي شغلت معظم مراحل عمره. فقد زاوج -رحمه الله- بين العمل العام والمال والأعمال، وبين البعد الإنساني الذي أضافه إلى شخصيته. انعكست هذه النظرة في تعامله مع الطلبة غير المقتدرين، ومع العاملين لديه في مشاريعه.

كان الدكتور الحوراني من المشهود لهم بالقرب من الله، ووجّه عمله خالصاً لله سبحانه وتعالى. لم يُعرف عنه أنه رد سائلاً أو أن يداه عكفتا عن مساعدة طالب علم. كان المرحوم أبو ماهر يخصص جزءاً كبيراً من ماله سنوياً لمساعدة الناس والعاملين في مجموعاته الاستثمارية المتنوعة.

كان يقوم بتوزيع حق الفقراء من ماله بصورة عينية، كالزيتون والزيت والجبنة وغيرها، أو بصورة نقدية للمحتاجين من أصحاب الأسر الكبيرة، أو المرضى، أو الذين يتعرضون لعوادي الزمن، انطلاقاً من إيمانه بأن الله لا يضيع مثقال ذرة، وأن هذا العمل هو نوع من الشكر للنعمة التي أنعم الله بها عليه.

مرضه في كانون الأول 1999

في عام 1999، ارتفع ضغط الدم عند المرحوم الدكتور أحمد الحوراني فجأة. بعد الفحص والتصوير في المستشفى، تبين أن هناك نزيفًا شديدًا في الدماغ، حيث تجاوزت البقعة 5 سنتيمترات مربعة. عمل الأطباء على وقف النزيف أولاً، ثم معالجة الآثار التي تركها. تماثل الدكتور الحوراني للشفاء في زمن قياسي، وصمم على الخروج من المستشفى في أقرب فرصة سنحت له. عاد إلى مكتبه في الشركة وإلى الجامعة التي كان مرتبطاً بها ارتباطًا معنوياً وعاطفياً.

وفاته في 11 كانون الثاني 2016

في الحادي عشر من كانون الثاني من العام 2016، انتقل رجل الأعمال العصامي والإنسان الدكتور أحمد مفلح الحوراني إلى رحمة الله تعالى بعد صراع مع المرض، وعن عمر يناهز اثنين وسبعين عاماً مليئة بالبذل والجد والاجتهاد والعطاء.

كان لوفاته صدى كبير بين مختلف الأوساط الوطنية والسياسية والأكاديمية والاجتماعية، التي رأت في رحيله خسارة وطنية ثقيلة تركت فراغاً واسعاً. كان الدكتور الحوراني رجلاً استثنائياً بامتياز، حقق نجاحات متعددة في مجالات التعليم والسياحة والأعمال، حتى رفدت أعماله ومشاريعه خزينة الدولة، ووفّرت ما يزيد على خمسة آلاف فرصة عمل لأبناء وبنات هذا الوطن. بفضل جهوده، وصل عدد المستفيدين من مشاريعه إلى نحو عشرين ألفاً، الذين عاشوا في ضمير ووجدان أبا ماهر رحمه الله.

كلمة أخيرة..

إن التوثيق لسيرة حياة عبقري ورجل أعمال وإنسان بحجم وقامة فقيد الوطن الكبير المرحوم الدكتور أحمد الحوراني هو توثيق وكتابة عن شخصية فذة متفردة. شخصية انشطرت بين عبقرية جسدت أرقامها على أرض الواقع وعبّدت الطريق إلى المستقبل، وأسطورة حققت أحلامها في زمن قياسي كأنها ضرب من الخيال. تمثلت في سلسلة مشاريع متلاحقة، متنوعة ومتباينة عكست عقلية متعددة الأبعاد والرؤى. فلا غرابة أن يصفه من يعرفه أو سمع عنه بأنه طراز فريد. رجل علم وعمل يمتلئ بالطاقة الإيجابية التي ترسل ذبذباتها الجميلة إلى من حوله.

ويبقى أي حديث عن هذا الرجل الظاهرة حديثاً منقوصاً إذا لم نقل إنه كان رجلاً وطنياً بلا تقوقع ولا انعزال، وعروبياً بلا إيديولوجيات ولا تعصب، وتقدمياً بلا مزايدات ولا صخب، وإنسانياً بلا تحفظات. ولئن كان الموت حقاً ونهاية لا بد منها، فإن الخلود يبقى بالإرث والأثر الطيب. ولأبي ماهر نقول: نم قرير العين، فإن أبناؤك اليوم على العهد ماضون، وعلى درب نجاحك يسيرون واثقين الخطى، محافظين على مجدك، معززين لإنجازاتك. رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version