نخبة بوست – فرح أبو عياده، حسن جابر ( معهد السياسية والمجتمع)

نتج الصراع المعقد في سوريا جملة من التحولات والتغيرات المهمة، خاصة على مستويات محورية كالدين والدولة والمجتمع، ومع امتداد هذا الصراع لأربع عشرة سنة، واستمرار حالة حكم الأمر الواقع التي تعكس تقسيمًا لسوريا بين أربع مناطق نفوذ وسيطرة؛ تزداد أهمية فهم هذه الحالة بثلاث عدسات هي عدسة التحول في الدين والمذهبية، وعدسة الدولة ومناطق السيطرة، وأثر ذلك على صورة المجتمع كنتيجة للتحولات ككل، وفي سبيل ذلك عقد معهد السياسة والمجتمع بالتعاون مع مركز عمران للدراسات الاستراتيجية؛ ندوة عامة عُنونت بـ”الدين، الدولة، والمجتمع في سوريا بعد 2011″، في عمّان – قاعة المركز العربي للأبحاث والدراسات والتي القاها الدكتور نجيب الغضبان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أركنسا – الولايات المتحدة الأميركية، وقد حضر الندوة سياسيون وأكاديميون وطلبة من الدراسات العليا في الأردن، وتناولت الندوة قضايا مختلفة تتصل بتحولات الدين والدولة والمجتمع في سوريا عقب الثورة السورية منذ 2011، وفيما يلي يستعرض التقرير التالي أهم الأطروحات والأفكار التي تطرقت لها الندوة.

الدين في سوريا؛ توظيف سياسي وتحولات مجتمعية

في دول الصراع، قد يكون من الطبيعي والمتوقع عودة الأفراد للدين، وارتفاع نسب التمسك بالتعاليم الدينية والعبادات وغيرها، وفي سوريا؛ يمتد الصراع للسنة الرابعة عشر على التوالي، حيث أن النظام السوري لطالما كان يعاني من إشكاليات في مسائل الدين والتدين بشكل أو بآخر، فمع بداية نظام الأسد في سوريا سنة 1970؛ كان توجه النظام علمانيًا بحسب أيديولوجيا وفكر حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تبناه النظام، ولم يكن هناك مساحة للنشاط الديني على نطاق واسع، كما أن دستور سنة 1973 نص على أن دين رئيس الجمهورية الإسلام، وهو ما سبب معضلة للشرعية السياسية في ذلك الوقت، خاصة أن حافظ الأسد ينتمي للطائفة العلوية، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع بأنها لا تنتمي للإسلام، وقد حُلت الإشكالية عبر توصل حافظ الأسد لاستصدار فتوى من موسى الصدر تنصّ على اعتبار العلويّين النصيريين في سوريا ولبنان فرقة تنتمي للجعفرية الإمامية الاثني عشرية (الشيعية).

تبع ذلك تشكل نمط تحالف وتعاون ترسخ مع بعض النخب الإسلامية، حيث هدف لضمان استقرار وشرعية النظام السياسية عبر توظيف السلطة الدينية لخدمة السلطة السياسية، وتحديدًا العلاقة مع شاغلي منصب مفتي سوريا، كأحمد كفتارو، ومحمد البوطي، وأحمد حسون، وهم ممن كانت لهم مواقف وظفها النظام لتثبيت الشرعية السياسية، وبشكل رئيسي عند حدوث تحولات مجتمعية، ومن أبرز الأمثلة تاريخيًا: تعامل النظام مع المكون السني الذي يمثل الأغلبية الكبيرة بعنف في “أحداث حماة” سنة 1982، التي قضت على أي نشاط سياسي إسلامي، وموقف النخب الدينية من هذا الحدث بالتبرير عبر الخطاب الديني.

على صعيد الواقع الحالي؛ يحمل المشهد الديني في سوريا جملة من التعقيدات، حيث تنتشر تصورات مبنية على مشاهدات حول تشييع أهل السنة في سوريا تبعًت للانتشار الإيراني، والذي يعتبر الدعوة للتشيّع ركيزة مهمة لانتشاره، إلا أن الوصف الأكثر دقة لحركة التشيع في سوريا لا ينبغي أن يتم المبالغة بها، حيث يمكن فهم هذه العملية بأنها تشبه التبشير المسيحي القائم على المساعدات المالية والإغاثية، لا سيما في ضوء تفشي الفقر.

كما أن بوادر “انفراجة” قد لاحت في الأفق في إدلب مؤخرًا، حيث تنتشر هيئة تحرير الشام، والتي ارتبطت قيادتها سابقًا بتنظيم القاعدة عبر “جبهة النصرة”، وهي السردية التي تريد هيئة تحرير الشام التخلص منها بكافة الوسائل الممكنة، وإنتاج سردية تعكس واقع أكثر مدنية، وهو -إذا ما حدث- سيساعد الهيئة في البقاء، ويتيح لها مساحة علاقات واعتراف أكبر، وحملت “الانفراجة” نمط تخفيف التشدد الديني أتت بمواكبة سياق الاحتجاجات المستمرة في إدلب، إلا أن سعي الهيئة لإرضاء تيارات متشددة بعضها من النخب تجلى بإصدار “قانون الآداب العامة”، وهو ما يعيد جدلية التشدد الديني، ومدى إمكانية الهيئة على التمدن والبقاء كإدارة سياسية كما تهدف.

وتستمر إشكالية تهديد داعش وفرص عودة العمليات الإرهابية في سوريا، فمن حيث الطبيعة هناك تفريق بين عناصر داعش في سوريا وهم بشكل رئيسي من المتطوعين القادمين من الخارج، وبين عناصر داعش الذين كانوا في العراق، وهم من العراقيين بشكل رئيسي ومن المنتمين سابقًا لنظام حزب البعث العراقي، وهنا تظهر إشكالية في سوريا من حيث أهداف المقاتلين وطبيعة العمليات والقيادات.

أما في شمال شرق سوريا، حيث مناطق سيطرة ونفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؛ فإن استناد قسد في أيديولوجيتها على الإلحاد الماركسي الماوي؛ يضعها في إشكاليات مع المجتمع المحلي، حيث أن نسبة مهمة من الأكراد ينتمون للإسلام السني، كما أن مناطق سيطرة قسد تضم مكونات أخرى غير كردية، خاصة العشائر العربية والسريان، وهو ما يفتح إشكالية التعددية الثقافية في هذه المناطق سواء عرقيًا كالعرب والكرد والسريان، أو على مستوى العلمانية مقابل الإسلام.

أما في الشمال السوري؛ تقع مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون” وتُعرف بـ (المناطق المحررة)، حيث تدير هذه المناطق مجالس محلية تنافس فيها مرجعيات دينية متعددة، ويوجد تنسيق مع تركيا وينتشر مستشارين أتراك، وتشهد هذه المناطق حالة تدين وظيفي واجتماعي مهم، حيث يلجأ الناس إلى الدين في ظل الظروف المعيشية الصعبة، كما يضم المجلس الإسلامي في تركيا تحالفًا من العلماء يمثلون الصوفية والسلفية المعتدلة، ولم ينجح في أن يكوّن حتى اليوم مرجعية موحدة للسنة، إلا أنه يلعب دورًا من خلال تقديم التمويل والدعم المتنوع من المتعاطفين وبعض السوريين، مما يعكس تعقيدات الوضع الديني والسياسي في هذه المناطق.

الدولة، تفكك المفهوم وغياب الوظائف الأساسية

حدث تفكك في مفهوم الدولة التي سادت ما قبل 2011، وبشكل مهم على مستوى شرعية النظام السوري، فحيث قمع النظام المطالب المجتمعية التي بدأت في محافظة غير متوقعة بتاتًا وهي درعا، وواكبت إطارًا أوسع على المستوى الإقليمي عُرفت بـ”الربيع العربي”، ومع استمرار القمع؛ انعكست الأحداث على مفهوم الدولة التي تسود المجتمع السوري، وتوفر الأمن والاستقرار.

كما يتمايز الواقع السياسي الحالي بين مناطق السيطرة والنفوذ الأربعة في سوريا، إلا أن هناك سمة عامة في معظم المناطق وهي تفشي حالة الفقر وتراجع الخدمات، إذ أن 90% من سكان الجغرافيا السورية يعيشون تحت خط الفقر وفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، وهو ما يطرح إشكاليات أعمق وأعقد من القضايا السياسية، ولكن على صعيد الخدمات المقدمة للشعب، تظهر المفارقة التي يمكن مشاهدتها كقضية انقطاع الكهرباء، ففي مناطق الشمال المحرر والغربي في إدلب يكاد التيار الكهربائي ألا ينقطع، إلا أنه في دمشق يأتي لمدة ساعة ونصف فقط يوميًا، وهذه الحالة من التباين تُظهر تحولات مثل مفهوم شرعية الخدمات أو “الإنجاز” في مناطق على حساب أخرى.

ومن حيث مستقبل المعارضة السورية، فبحكم تجربة الدكتور نجيب الشخصية في العمل السياسي ضمن (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية)، فإن تشكل الائتلاف السوري كان بتأييد من فاعلين دوليين وإقليميين معتمدًا على دعم سياسي خارجي، إلا أن المعارضة لم تتمكن من تقديم بديل موضوعي للنظام، ولم ينفتح النظام على الحوار والنقاش، مما دفع بعض القوى الدولية لإدخال تنظيمات متطرفة مثل داعش والنصرة، وأما الأخطاء التي ارتكبتها المعارضة فهي ضمن انعكاسات غياب خبرة الممارسة السياسية لعقود، والاعتماد على دعم دول عربية متفرقة، مما أدى إلى عدم توحيد الجهود وإضعاف التحالفات البينية في المعارضة، كما أن تأسيس المجالس المحلية كمحاولة لخلق بديل للنظام لم يكن كافيًا لتحقيق الاستقرار، وزادت الصراعات الداخلية بين الفصائل المعارضة، وعقد ذلك من الوضع الراهن وفعالية الدور، واليوم تتأكد أهمية حاجة سوريا لحوار شامل يعيد تشكيل الدستور ليكون جامعًا لكل الأطراف والأطياف، وبعيدًا عن العنف والتطرف والانقسام والمصالح الخارجية التي لا تراعي مصالح الشعب السوري وتطلعاته. 

الغضبان: تثبيت الوضع الراهن يخلق نتائج خطيرة في سوريا وقد تمتد تداعياتها لدول الجوار

وفي الختام، فُتح باب النقاش بمجموعة من الأسئلة والمداخلات، حيث ناقش الحضور أطروحات مختلقة تتعلق بسوريا الدين والدولة والمجتمع بعد 2011، بما في ذلك دور الفاعلين المحليين والخارجيين في مسار ومستقبل الصراع في سوريا، كما تم تحليل دور الدين المهم والمؤثر في الصراع، وأهمية قراءته ضمن سياقات محددة لفهم كيفية توظيفه سياسيًا، وكيفية تشكيل سمات واضحة للعلاقة بين الدين والدولة نظرًا لديناميكية هذه العلاقة في المجتمع السوري بشكل خاص، وأشار بعض الحضور إلى ضرورة تعزيز التنمية والعدالة الاجتماعية عند الحديث عن الحكم والإدارة، وضرورة رأب الصدع الذي انتجته سنوات الصراع على مستوى التعددية الثقافية للمجتمع السوري، كما طرحت تساؤلات حول مستقبل الدولة السورية في ظل التعقيدات المحلية والإقليمية والدولية، وفي ظل تراجع الاهتمام الدولي نتيجة الصراعات الدولية المختلفة، علاوة على ذلك، تناول النقاش دور الائتلاف الوطني وإمكانية مراجعة دوره ومدى تأثيره الحالي على المشهد السوري، وفي الختام، أكد الغضبان على ضرورة تعميق فهم فئات المجتمع السوري لمفاهيم الهوية الوطنية الجامعة واحتواء التعددية الثقافية، مما سيساهم في تحقيق السلم والأمن المجتمعي، والتأكيد على دور الأبحاث والدراسات التي تعزز التنمية والوعي بالقضايا ذات الصلة.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version