نخبة بوست – كتب: بساط أحمدي
في قرية وادعة، متربعة في جبال عجلون، تشكّل وعيُ الباحث والمفكر الأردني، إبراهيم الغرايبة، وتفتحت عيناه، وحواسه كافة، على أفق واسع يتيحه الجبل، بكل ما فيه من علوّ وأسرار..
نشأ إبراهيم غرايبة في أسرة تقليدية متدينة، تعلي قيمة العلم. ورغم الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها في سائر قرانا الأردنية؛ فإن ربّ الأسرة ومعيلها، استثمر بتعليم أبنائه، وهيأ لهم بيئة مواتية قدر الإمكان.
لاحقاً، يصف إبراهيم غرايبة البيت الذي بناه، تدريجياً وعلى مراحل، والدُه الفلاح بيديه العاريتين، ومعونة بعض الأقارب والجيران، بأنه، أي هذا البيت؛ أتاح، على بساطته، لكل فرد في العائلة، خصوصية ما؛ ومنح العائلة جميعها، ألفةً ورضا. ويضيف؛ إن ذلك البيت كان نديّاً في الصيف دافئاً في الشتاء؛ وفّر، كذلك، مساحة للاكتفاء المنزلي، والاعتماد، المبالغ به، على الذات..
واليوم، وأنا أطالع سيرة ونتاج فكر ولمعات إبراهيم غرايبة؛ لا يغيب عن ذهني البيت، وأظن أن الغرايبة هو نتاج ذلك البيت، الذي أتاح له استقلالية مبكرة وخصوصية، و؛ خلوات، طالما احتاج إليها المختلِفون، خلوات لا تكون إلا في قمم الجبال، لا تعرفها المدن ومنازلها الساخنة صيفا والباردة شتاءً..
وبقدر ما ساهم ذلك البيت بتشكيل شخصية وخيال إبراهيم غرايبة؛ فإنه أعطاه كثيراً من سماته وشخصيته؛ لتشعر، لوهلة، أن إبراهيم نسخة آدمية عن ذلك البيت، بخصوصيته ودفء فكره وانزوائه واستقلاله، مع اندماجه التام بمحيطه، وحرصه أن يكون عضواً فاعلاً في مجتمع متكافل يقبل التطور والتكيف؛ هو المجتمع الذي يحتاج نتاج عقول تعرف معنى التحولات، أو، ما يسميها إبراهيم غرايبة في بعض تعليقاته؛ القدرة على التكيّف مع الكون والعالم وتطورات علومه..
إبراهيم غرايبة صاحب التجربة الثرية والمتنوعة بالعمل الإسلامي، تنظيما ودراسة وإعلاماً وبحثاً؛ لم يقف عند البدايات وسحرها وقيودها. بل انطلق إلى أفق أوسع، محكماً الفكر النقدي، والشك والجدل.. ومتخصصاً الى حد عميق بالاجتماع ودراساته، مع موهبة أدبية وتقنيات حرفية، جعلته من صفوة الكتاب والأدباء الأردنيين، وربما العرب؛ لو أننا ممن يعرفون كيف يقدمون نخبتهم الثقافية ومفكريهم ومبدعيهم.
خلال مسيرته، مرّ إبراهيم غرايبة، مروراً طويلاً من حيث الزمن، عابراً من حيث الأثر، بتنظيم الأخوان المسلمين؛ مروراً وإن استطاع أن يتجاوز تأثيره، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يتجاوز نُدبَه؛ إن قرر أن يواصل طريقه ولا يبقى أسيره.
ميزة إبراهيم غرايبة ومشكلته الرئيسية، في آن واحد، هي؛ زهده الزائد عن حده، بكل شيء بما في ذلك الأضواء وبريقها وامتيازاتها.
صحيح، أن الزهد بالأضواء يوفر سلاماً داخلياً، يحتاجه مَن احترف التأمّل وقراءة الكون والأحداث؛ لكنه، في المقابل، آخر ما يحتاجه المثقف العضوي، المفكر، صاحب المشروع الكبير، والذي، لعقود طويلة كان العمل في الإعلام مصدر دخله الوحيد.
وإبراهيم غرايبة، بحق، مفكر محترف ومثقف محترف ومقاتل محترف، لا تخونه شجاعته ولا تستهويه الأضواء الكاذبة، لأنه يستعين بالنور، نور الفكر والخيال والرضا.
يقدم الأستاذ إبراهيم غرايبة، منذ سنوات، قراءات مختلفة، هي ثمرة تحولات كبيرة، ومتابعة حثيثة وتكيفاً مع العلم وثورة الاتصال الرابعة. وهذه القراءات هي في جوهرها مادة مشروع كبير لإصلاح الخطاب الديني والاجتماعي الاقتصادي والثقافي، وهي، في بعض جوانبها، لمعاتٌ عبقرية، يجدر التقاطُها والبناء عليها.
ولأنه باحث غير تقليدي، ولأنه مفكر مختلِف، ضاقت به المنابر التقليدية والزوايا المتماثلة، فلجأ إلى أفق جديد، أفق رقمي، لا زوايا فيه ولا مربعات، ووجد فيه، كذلك، مجالاً رحباً للتجديد والتنوير..
أبو جهاد، إبراهيم غرايبة، بالإضافة إلى كل ما تقدم؛ مسكونٌ بالتنمية.. عقل تنموي وطني أردني، يؤمن بدور الأفكار في تطوير المجتمع الأردني وأدوات إنتاجه وربط الثقافة بالاقتصاد وكل مجالات الحياة..
وما نحتاجه اليوم، ما يحتاجه الأردن، وهو يجدد شباب دولته ويتمسك بقيمها ورسالتها؛ نخبة “مختلفة” من مثقفين عضويين متجذرين كأشجار الزيتون في عجلون، قادرين على تقديم الفكر الجديد والمراجعات اللازمة والأفكار الشجاعة، وبلا شك؛ أبو جهادنا في المقدمة منهم.