نخبة بوست – لا يحتاج الحديث عن المنسف إلى مناسبة؛ فهو مادة كل المناسبات، يحضر في الأفراح والأتراح والولادة والزواج والسكن وفي ولائم الضيوف والأعياد وفي الانتخابات والأحداث السياسية والاجتماعية كافة. ولا يشعر الأردني بالتكريم والحفاوة ما لم يرَ المنسف متصدرًا المآدب، منفردًا، بلا شركاء ولا مقبلات. وتتعدى دلالات المنسف هذه المناسبات، فهو في أحد وجوهه عنوان أمان، إذا تناوله الضيف في منزل مضيفه، ولو كان عدوًا، فهو آمن.

وطالما شهدت مآدبه تبادل الرسائل السياسية والاجتماعية دون كلام. وللمنسف آداب وأخلاقيات لا يتجاوزها “المعزب”، ولا يتجاهلها الضيف.

وقد أدرجت منظمة اليونسكو، العام الفائت، المنسف الأردني ضمن قائمة التراث الإنساني، لما يحتويه من دلالات ثقافية وإنسانية عديدة وثرية. ولعلّ أفضل وأعمق ما كُتب عن المنسف، جاء في كتاب “المعزب رباح”، للمفكر الأردني الشهيد ناهض حتر، والباحث والأديب الأردني المتميز أحمد أبو خليل.

وبالاتصال مع الأستاذ أبو خليل، لاستئذانه بالاستفادة مما جاء في الكتاب، أذن مشكورًا، وأفاد أن مادة المنسف في كتاب “المعزب رباح” هي من شغل وكتابة وبحث الراحل حتر.

نترككم مع جزء من الدراسة المتعلقة بـ”المنسف الأردني”، دلالاته، معانيه، مكوناته وآدابه. ونؤكد أن المادة المنشورة تالياً محكومة بمساحات واعتبارات صحافية، ولا تغني أبدًا عن الرجوع إلى الكتاب المرجعي “المعزب رباح”، والتمعن في قراءته، بما يمثله من بحث علمي اجتماعي ثقافي اقتصادي واستثنائي بكل معنى الكلمة.

المنسف؛

سيد المائدة الأردنية

لا يزال المنسف (ذلك الطبق البسيط المكون من لحم الخروف أو الجدي المطهو باللبن المخيض أو بمريس الجميد مع جريش القمح المفلفل بمرق اللحم والسمن ـ وقد حل محله اليوم الأرز المفلفل المزين بالمكسرات المقلية) سيد المائدة الأردنية، والأكلة الألذ لدى الأردنيين، والطعام المعتمد في الأعراس والمآتم واللقاءات العشائرية والسياسية.

ورغم أنه تحوّل إلى طبق يُقدّم في مطاعم عامة أو يُطهى لغداء العائلة أو عشاء الأصدقاء، فإنه لم يفقد هالته الأسطورية في الثقافة الشعبية الأردنية. وقد كانت العشائر تتباهى بسعة السدور التي تقدّم عليها المناسف. يوضع أولاً الجريش المفلفل، ثم يُغطى بالشراك، ثم توضع فوقه قطع اللحم، ويشرب باللبن المطبوخ.

وبعكس العادات الحالية، كان الأردنيون يقطعون اللحم قطعًا صغيرة، وذلك بما يكفي أدوارًا عديدة من الآكلين المتتابعين على المنسف نفسه، وهو ما يدل على نزعة اقتصادية لا إسراف فيها، ويستلزم آدابًا في الأكل سيأتي الحديث عنها. ليس المنسف مجرد طبق، بل هو تكثيف ثقافي لشخصية شرق الأردن الاقتصادية والاجتماعية.

ففي هذا الطبق ـ المبجّل تقليديًا كطعام ذي رمزية ثقافية ـ يتحد عالمان: عالم البداوة المستقرة (ومنه لحم الضأن ومريس اللبن الجميد والسمن) وعالم الفلاحة البعلية (ومنه عويص الشراك وجريش القمح أو البرغل أو الفريكة).

المنسف ليس طبقًا بدويًا بالتأكيد. فلا لبن الإبل صالح للخض والجميد والطبخ، ولا لحم النياق صالح ليطهى في اللبن، لأنه في هذه الحالة يشد ويقسو ولا يؤكل، بل يطبخ لحم النياق بالماء، ويصب مرقه على فتيت الخبز الشراك، ويوضع فوقه اللحم المسلوق. وهذا هو الثريد المشهور عند العرب.

المنسف هو تكثيف للتركيب الاجتماعي الأردني التقليدي الرئيسي المنسوج من عشائر نصف بدوية ـ نصف فلاحية (بالأساس: مزارعي حبوب ومربي ضأن وماعز). هنالك بالطبع انزياحات بدوية (يربون الإبل أيضًا، وهو ما يسمح لهم بمساحة تحرك أوسع) وفلاحية (يزرعون البساتين والخضروات ويربون البقر والدجاج أيضًا، كما تحديدًا في الشمال الأكثر اقترابًا من عالم الفلاحين).

ينقل الدكتور يوسف غوانمة عن مصادر أصلية «أن المنسف كان من الأكلات الشائعة في الفترة المملوكية (…) ومن الطريف أن الأردنيين، في تلك الفترة، كانوا يستخدمون الأرز إلى جانب البرغل في إعداد المنسف. وربما كان ذلك بسبب ازدهار الصلات السياسية والتجارية وقتذاك مع الديار المصرية» (يوسف غوانمة، «التاريخ الحضاري لشرقي الأردن في العصر المملوكي»، 1982، ط2، دار الفكر الحديث بعمان).

المطبخ الأردني التقليدي

البشر هم أبناء الأرض. وتضاريس شرق الأردن هي التي شكّلت المجتمع المحلي عبر آلاف السنين. حركات أرضية عنيفة أدت إلى التصدع الغوري، ورفعت سلاسل من الهضاب العالية التي تحولت إلى جزيرة رطبة من المرتفعات تطل على شاهق من الجروف غربًا باتجاه وادي الأردن ووادي عربة، وتتهادى بانسياب إلى الصحراء المفتوحة شرقًا، تفصلها وديان داخلية لم تؤثر على بنيتها المتصلة من الهضاب العالية الرطبة.

تشابكت الأنماط الفلاحية والبدوية، وتكثفت في سيادة نمط موحد يتألف من زراعة الحبوب، وخصوصًا القمح (وإعداد وحفظ مشتقاته للغذاء كالطحين والجريش والبرغل والفريكة)، وتربية الأغنام، ومعالجة تدفق الكميات الضخمة من الحليب في الموسم الربيعي من خلال تحويل الحليب إلى سمن وجميد.

وهنالك بالطبع منتجات أخرى عديدة تدخل في التقليد الغذائي، بعضها أساسي كمنتجات الكروم والنباتات البرية والخضروات والمقاثي، وبعضها ثانوي كاللحوم الحمراء والبيضاء، وبعضها موقوت في موسمه فقط ـ لا يحفظ ـ كالألبان والزبد والقشدة. الحبوب والحليب هما عماد المطبخ الأردني التقليدي. ومنهما تتنوع المائدة، أطباقًا عديدة، ومنها الطبق الاحتفالي، المنسف المحاط بهالة ميثولوجية، وخصوصًا أنه يرتبط بالذبائح. ولا ذبيحة، في التقليد الغذائي الأردني، من دون ميثولوجيا المناسبات الحياتية، كالزواج والولادة والوفاة والسكن إلخ. لكن في قمة المناسبات الميثولوجية تأتي الضيافة.

ميثولوجيا الضيافة

كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع نصف البدوي ـ نصف الفلاحي، يمكن تكثيفها في ميثولوجيا الضيافة. فالضيف ليس هو الشخص الزائر، بل هو تجسيد لزيارة المطلق إلى المطلق في المطلق. الضيف هو «ضيف الله»، والضيافة ضرب من عبادة. الضيافة، كما لاحظ جاك دريدا، هي «قانون إنساني مطلق وغير مشروط ويتسم بالغلوّ؛ أنْ نعطي للقادم كل مأواه وذاته وخصوصيته وخصوصيتنا من غير أن نطلب منه اسمه ولا مقابلاً»، إنما في «تناقض (مستمر ومستحيل) مع قوانين الضيافة ذاتها» التي تجعلها مشروطة بتفصيلات معقدة.

من هو المعزب؟

النسبة الغالبة من الأردنيين هي ذلك البدوي الذي تحوّل منتجًا فلاحياً، وبقي عضوًا في عشيرة. إنه نصف بدوي ـ نصف فلاح، متحرر من الاشتراطات البدوية والفلاحية معًا. وهكذا، سيكون لدينا المضيف المنسجم مع قانون الضيافة المطلق. رجل حر يملك غذاءه وشرابه، يغادر مستقرّه القروي إلى عزب ناء عن بيته الدائم، في حقلٍ لزرعهِ أو كرمٍ لدواليه وتينه أو مرعىً لغنمه. هنا، حيث يقيم في مصفوفة من الحجارة الغشيمة يدعوها «قصرًا» أو في كهف أو في خيمة، وحيدًا عَزَبًا، سوف تمرّ به لتلقى الضيافة. الضيافة، في هذه الحالة، ليست خياره.

إنها واجبه المحتم المؤكد الذي لا فكاك منه إزاء الغريب. إنه، وقد تموضع في عِزْب للعمل وأعدّ عدة الإقامة في الخلاء، موئلاً ومأكلاً ومشربًا، منذورٌ كليًا لكي يكون مضيفًا. ليس بمستطاعه ألا يكون مضيفًا، وليس على الغريب المارّ أن يسأله الضيافة أو حتى أن يخطر في باله ألّا يلقى الترحاب الأكيد من مضيف مطلق، يد الله هي التي صاغته كمضيف ليس له خيار. ليس كريمًا، بل هو موجود، هنا والآن، لكي يستضيف الغريب المارّ في خلاء لا يتركه الله بلا مستراح أو نار أو طعام أو شراب، لدى مضيف هو المسمى المعزّب – المعزّبين.

المعزّب ـ المكرَّس للعمل في العزب ـ لا يُعرَّف بعمله أو بشروط عمله، ولكنه يتماهى مع كونه المضيف الخاضع لاشتراطات وظيفة مطلقة لا يعاندها، والكلّي الجود، الرّحب المراح والصدر، والمُلهَم بكرم اللسان، بالبشر يطفح من وجه مأمور بتلقّي عيون الضيف بعبودية الضيافة. «وإني لعبدُ الضيف…»، هذا ما يُسمّى «الملاقاة». تغدو هذه الوضعية مطلقة، بالانتقال من العِزَب إلى المستقرّ.

فالمضيف، في منزله الدائم، هو معزّب أيضًا. وحالما يحلّ الضيوف يصبح أهل البيت معزّبين، بل تنتقل الوضعية إلى الزوجة، فهي معزّبة لزوجها. وفي ذلك معنيان: أن بيت الزوجية هو بيت الزوجة، وأن زوجها مكرّمٌ في جنباته كضيف، وله، إضافة إلى حقوق الزوج، حقوق الضيف أيضًا! لكن المرأة التي ترافق الرعاة أو الحراثين، في العزب، لتطهو طعامهم، تدعى عزبيّة وجمعها عزبيات. ولكن، لمَ يكون المعزّب ـ المضيف، رابحًا، بل ربّاحًا؟ إنه، كذلك، لأنه، أولاً، يستجيب للواجب المطلق، يربح الضيف ويربح كرامته الإنسانية في مجتمع يلتئم على الضيافة. ثم إنه يربح، ثانيًا، التكريم المعنوي، وثالثًا، التكريم الفعلي حين ينقلب بدوره إلى ضيف، ليس على أمل السداد، ولكن في سياق مطلق أيضًا.

آداب الضيافة وحقوقها

وللضيوف حقوق أساسية، معنوية ومادية، حتى لو كانوا على خصومة أو عداوة مع المعزّب. ومن حقوق الضيوف: التهلّي والترحيب، وربط الخيل، وتقديم العلف لها، وبسط الفراش، وتقديم القهوة، وتقديم الطعام، والإكرام، والمساواة بين الضيوف في الإعزاز، وتلبية الطلب، وقبول الاستجارة والدخالة والطنابة.

الضيف، عند الأردنيين، أمير إذا أقبل، له إكرام الأمير، وأسير إذا جلس، فهو ملزم بالأدب والحشمة والتمثل بالعادات والقيم المرعية في المجلس والكلام والطعام، وشاعر إذا رحل، يلهج بمديح المعزبين لما لاقاه من حفاوة. يقدم المعزّب القهوة للضيف حالما يحلّ، ثم الطعام بغض النظر عن ساعة حضوره، ويكون من حواضر البيت، على أن يذبح له ويولم ويدعو الأهل والجيران لمشاركة الضيف طعام المنسف.

وحين يدعو المعزّب الضيف للأكل، يلزمه الأدب، الاعتذار عن التقصير، فيقول: «اعذرنا من القصور»! يقدَّم الضيف على سواه، ومعه كبار السن والقدر، ولا يبدؤون الأكل، حتى يسمح المعزّب بالقول: «سموا بالرحمن على واجبكو». وللمعزّب إزاء الآخرين ما يسمى «حق الملحة»، أي الاعتراف المعنوي بالحماية الشاملة التي يسبغها المعزّب على ضيفه، فلا يُهان الأخير ولا يُطلب ولا يُؤذى، ما دام في ضيافة المعزّب. ومالح يمالح ـ رغم أنها تشير في الأصل إلى الحليب، وهو من معاني الملح ـ هو من أكل لقمة أو شرب لبنًا أو ماءً في بيت، فيملك عندها حق الحماية من قبل صاحب البيت. ولا ينتهي هذا الحق إلا حينما يمالح الضيف بيتًا آخر. لكن البيوت لا تتبارى في الضيافة، فالمناصاة في الكرم مذمومة، لأنها تمسّ مبدأ المساواة.

إلا أنّ على الضيف واجبات أيضًا، فلا يستغلّ قانون الضيافة لكي يُلحِز، أي يقيم رغماً عن رغبة المعزّب، فيصبح (مُلْحِزا وملحزة). ولذلك، يقال: «ضحكة السنّ بتجيب الضيف المخمّ». ولا يستطيع الضيف رفض تناول الطعام حين يقال له: «افلح». ذلك أن الفلاح لا يُلطَم.

ومن المعيب على الضيف ـ والآكلين معه ـ أن يمس رأس الذبيحة ـ فيُطلَب عندها للحق ـ أو أن يستخدم يده اليسار، أو أن يمد يده إلى اللحم في أعلى المنسف أو اللحم عند جاره. لكن الرجل الكريم الذي يقطع اللحم من أمامه، يدفنه تحت الجريش ليجد الآكل اللاحق شيئًا يأكله، أو يعطيه للذي وراءه ممن ينتظرون الطورة التالية على المنسف. ولذا يُقال: «اقعد وراه وانشد خاله». فمن كان خاله ردياً لا يتذكّر صحبه ممن ينتظرون في الطورة التالية. وثلثا شخصية الرجل، عند الأردنيين والعرب بعامة، تعود، سلبًا أو إيجابًا، للخال.

ويؤكَل المنسف باليد بأصابع ثلاثة، وفي وضع انتصاب القامة، ومن دون لشّ (كثرة الأكل). وذلك، حفاظًا على كرامة المنسف الذي يتمتع بمعنى ميثولوجي مضمَر، وكذلك حفاظًا على جودته ونظافته وكثرته، حيث يؤكل المنسف على طورات متتالية من الآكلين.

وعلى الضيف ألا تصيب أصابعه في الغموس، الآدام، ولا تغمس اللقمة كلها في الآدام، بل طرفها فقط. ولذلك، يقول قانون الضيافة إن نقص الخبز عار على المعزّب، بينما نقص الغماس عار على الضيف.

ومن معايب الضيوف والآكلين، الَّلهْمَطَة (السرعة وعدم التركيز) والفغم (للخضار محدثاً صوتاً ومشهداً منفراً) واللغّ (للبن بسرعة ولهوجة) والفنش (التغميس بلا أدب) واللشوطة (التعجل على الأكل الحار) والنفخ في الحليب واللش (كثرة الأكل).ومسح اليد بطرف الصحن، وإعادة اللقمة أو بعضها بعد أخذها. ومن حقوق الضيف المبيت، إلا إذا كان رجل البيت غائبًا. فللضيف على المرأة حقوق الإكرام والطعام، القهوة والذبيحة والمنسف، دون حق المبيت.

نخبة بوست

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version