دور كيسنجر في تشكيل “النظام الشرق اوسطي” بعد حرب 73
- مع انهيار نظام صدام وصعود النفوذ الإيراني في المنطقة؛ انهارت بنى التوازن التي رسمها كيسنجر في ديبلوماسيته الشرق أوسطية
- أراد كيسنجر تدشين نظام أوسطي، وليس سلاماً أوسطيا؟ واستبعد “الخيار الأردني” في حل القضية الفلسطينية
- خالد الحسن التقى مبعوثاً من كيسنجر وأبلغه بأنّ الفلسطينيين في الضفة الغربية يرفضون عودة الحكم الأردني
- إثر مؤتمر الرباط 1974، أخبر الملك الحسين كيسنجر؛ إنّه سيركز جهوده في المرحلة القادمة على تنمية “الضفة الشرقية”
- رفض الحسين بشدة العرض الإسرائيلي لاستعادة الضفة الغربية وفقاً لصيغة “أريحا أولاً”، وهي الصيغة التي قبلها ياسر عرفات لاحقاً
نخبة بوست – د. محمد أبو رمان – يقدّم مارتن أنديك، السفير الأميركي السابق في إسرائيل، ومبعوث السلام الأميركي في الشرق الأوسط سابقاً، في كتابه “سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن ديبلوماسية الشرق الأوسط”، (ترجمة ياسر محمد صديق، دار نهضة مصر، 2023) تحليلاً سياسياً، متخماً بالتوثيق التاريخي المهم، للدور الذي قام به وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، في تشكيل ما أطلق عليه أنديك “النظام الشرق الأوسطي”، في مرحلة السبعينيات، تحديداً بعد حرب رمضان في العام 1973، وحتى مرحلة قريبة، ولعلّها تكون في العام 2003، أي عندما احتُل العراق، وانهار نظام صدام، وانطلق النفوذ الإيراني في المنطقة، فانهارت بنى التوازن التي أسسها نظام شرق أوسطي رسمه بعناية هنري كيسنجر في ديبلوماسيته الشرق أوسطية، منذ أن أصبح مستشاراً للأمن القومي الأميركي في العام 1969، ثم وزيراً للخارجية (1973-1977)، وهي الفترة التي شهدت حرب رمضان وبداية محادثات وقف إطلاق النار على الجبهات السورية- المصرية- الأردنية، ثم توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد، التي أدّت – وفقاً لأنديك- لإقامة نظام شرق أوسطي، يقوم على فكرة التوازن واستبعاد الحرب الإقليمية مرّة أخرى، فكيسنجر هو نفسه صاحب مقولة “لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا”.
كتاب أنديك مهم ومثير ومثري لكل مهتم بالديبلوماسية والسياسة الأميركية، وفهم تطور العلاقات التاريخية بين أميركا وإسرائيل، بخاصة بعد حقبة كيسنجر، التي اعتبرها أنديك المنعرج الذي نقل تلك العلاقات نحو مستوى استراتيجي أعلى، وجعلها وثيقة وعميقة، من خلال بناء فهم أوضح للمصالح المشتركة، وتعزيز دور إسرائيل في المنطقة، كحليف استراتيجي وقريب للولايات المتحدة الأميركية.
بالطبع غني عن القول بأنّ كيسنجر هو يهودي، من عائلة نجت بصعوبة من الهولوكوست، وقد قضى العديد من أصدقاء العائلة وأفرادها في تلك المحرقة، وكان كيسنجر قد عمل مع الجيش الأميركي في التحليل الاستخباراتي في أوروبا، وحصل على الدكتوراه من جامعة هارفرد وكان مسؤولاً عن إقامة حلقة بحثية تضم عدداً كبيراً من السياسيين المرموقين في العالم، فضلاً أنّ أنديك يربط بين فكرة النظام الأوسطي الذي رسمه كيسنجر بهدوء ودهاء وبين أطروحته للدكتوراه التي كانت عن النظام الأوروبي، الذي تمّ تدشينه بعد الحروب النابليونية في القرن التاسع عشر، واستمر حتى العام 1914 عندما بدأت إرهاصات الحرب العالمية الأولى. ولعلّ المفارقة أنّ النظام المفترض أنّ كيسنجر قد ساهم في إقامته في منطقة الشرق الأوسط استمر خمسين عاماً، منذ حرب الـ73، حتى طوفان الأقصى (وبالمناسبة توفي كيسنجر بعدها بأسابيع في تشرين الثاني 2023)، عندما دخل لاعبون جدد أقوياء مختلفون على اللعبة الإقليمية، وهدموا معبد كيسنجر، وحلّوا محل الدول العربية التي كانت تشكل حينها تهديداً لأمن إسرائيل الوجودي، في حرب الـ73، فجاءت طوفان الأقصى لتعيد طرح الأسئلة الكبيرة على أمن إسرائيل، كما يقرّ توماس فريدمان، الكاتب الأميركي المعروف.
الأردن في رواية أنديك عن كيسنجر والنظام الأوسطي
حظي الأردن بنصيب وافر من صفحات الكتاب، التي زخرت بتوثيق تاريخي مهم وحساس لنقاشات كيسنجر مع الملك الحسين ومع زيد الرفاعي، وللقنوات الخلفية التي تمّ تدشينها في تلك المرحلة بين الأردن وإسرائيل لمناقشة استعادة الأردن للضفة الغربية، بعد حرب الـ73، وهي المهمة التي اتفق الحسين مع عبد الناصر على القيام بها، بعد حرب الـ67، كما يقرّ محمد حسنين هيكل نفسه، في روايته لتلك الحرب ولنقاشات الحسين مع عبد الناصر قبلها وبعدها.
يخصص أنديك فصلاً كاملاً لما سماها بـ”أزمة الأردن” والمقصود هنا مواجهات أيلول بين الدولة والجيش والفدائيين، ويوثق النقاشات الأميركية والإسرائيلية حولها، ويعتبر أنّها ساهمت في مزيد من الاعتماد الأميركي على إسرائيل كحارس للمصالح الأميركية في المنطقة، لكن الجزء الأكثر أهمية من الحديث عن الأردن فيتمثّل في مرحلة ما بعد حرب الـ73، ولقاءات كيسنجر بالملك الحسين، في عمان وأميركا منذ بداية العام 1974، خلال ترسيم كيسنجر للمرحلة المقبلة من وقف إطلاق النار على الجبهات العربية- الإسرائيلية.
القضية الأكثر أهمية هنا التي يطرحها أنديك أنّه اعتبر بأنّه بالرغم من نجاح كيسنجر الكبير في تدشين نظام أوسطي – ويصرّ أنديك في الكتاب أنّ كيسنجر كان يريد نظاماً وليس سلاماً- إلاّ أنّه أخطأ خطأ استراتيجاً كبيراً في استبعاده لـ”الخيار الأردني” في حل القضية الفلسطينية، فقد كانت هنالك إمكانية لتحسين وتطوير وجهات النظر بين الأردن وإسرائيل وصولاً إلى تسوية مقبولة فيما يتعلّق بالضفة الغربية، التي كانت ما تزال تعتبر جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وبدلاً من ذلك استهان كيسنجر بقيمة الأردن الاستراتيجية، وفضّل تركيز الجهود على مصر وسوريا، وقد نجح مع الطرف الأول لكنه تعثّر مع الثاني، وبالتالي – وفقاً لأنديك- فإنّ هذا الخطأ ظلّ بمثابة الفجوة التي أبقت القضية الفلسطينية محرّك الأحداث في المنطقة ومشعل التوترات والأزمات والحروب.
لماذا تجاهل كيسنجر الأردن؟! وفقاً لكيسنجر نفسه، كما يروي أنديك في مقابلات لاحقة، كان هنالك مشكلة في مدى تمثيل الأردنيين للفلسطينيين في الضفة، إذ التقى مبعوث من كيسنجر في تلك الأثناء مع خالد الحسن، وكان من مستشاري عرفات في المغرب، الذي أخبره بأنّ الفلسطينيين في الضفة الغربية يرفضون عودة الحكم الأردني، وأنّه “يجب التخلص من الملك الحسين”، وهو الأمر الذي أكّده موسى ديان لكيسنجر في لقائه معه في واشنطن، إذ أخبره أنّ عودة الحكم الأردني غير مرغوبة لدى الفلسطينيين.
الأمر الثاني الموقف العربي، إذ من الواضح أنّ الرئيس أنور السادات كان حريصاً على أن يكون الاهتمام لمصر أولاً، وكانت علاقته بالملك الحسين متوترة، وفي لقاءت الديبلوماسيين المصريين مع الأردنيين حينها كانوا يقولون بأنّهم لا يمانعون بتنشيط الجبهة الأردنية والوصول إلى تفاهمات، بينما مع الأميركان يرفضون ذلك، وهو الأمر الذي دفع كيسنجر بالاهتمام أكثر بالجبهات السورية والمصرية أكثر من الأردنية، يقول أنديك إنّ نظام كيسنجر يقوم على خلل معيب وهو احتواء “المشكلة الفلسطينية” وليس حلها “ونظراً لوجهة نظر كيسنجر بشأن الطبيعة المؤقتة لأي توازن دولي خاصة في الشرق الأوسط، كانت النتيجة معقولة، على الرغم من أن الإسرائيليين بدؤوا بشكل جدي خلال هذه الفجوة الزمنية أنشطة الاستيطان في الضفة الغربية”، مما عقد المشكلة وفرص الحل، فقد كان كيسنجر يهتم بتوازن القوى الإقليمي وليس بمن يحكم رام الله!
في تلك المرحلة كان الصراع على أشدّه بين الملك الحسين وعرفات على من يمثّل الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو الأمر الذي انتهى لصالح عرفات في قمة الرباط في العام نفسه (1974)، (وكما يسجّل لاحقاً عدنان أبو عودة، فقد شكّل ذلك مرارة للملك الحسين، الذي كان يطمح بإعادة القدس والضفة الغربية)، وعندها أخبر الملك كيسنجر في 12 اكتوبر 1974 أنّ السادات والأسد انقلبوا عليه، وأنّه سيركز جهوده في المرحلة القادمة على تنمية “الضفة الشرقية”.
بالعودة إلى “الفرصة الضائعة”، وفقاً لأنديك، فقد كان بالإمكان تقريب وجهات النظر الأردنية- الإسرائيلية، والوصول إلى حل متدرج لعودة الضفة للحكم الأردني، مع ذلك يبدو استنتاج أنديك بحاجة إلى مراجعة ونقاش أعمق، فبالعودة إلى المفاوضات في تلك اللحظة التاريخية الدقيقة والحساسة؛ من الواضح أنّ العرض الإسرائيلي للحسين ولاحقاً للفلسطينيين لم يتغير حتى الآن، فهم رفضوا عودة الحكم الأردني إلى الضفة، وعرضوا بدلاً من ذلك مشروع “أريحا أولاً” مع قنوات تصل بينها وبين التجمعات السكانية في الضفة الغربية، وهو الأمر الذي رفضه الحسين بشدة، وقال إنّ المطلوب هو إدارة مدنية أردنية لاحتلال صهيوني، وسيطرة أردنية على التجمعات البشرية وليس على الجغرافيا، ويرى أنديك بأنّ المفارقة أن الحسين رفض تلك العروض في العام 1974 فيما قبلها الراحل ياسر عرفات لاحقاً يقول أنديك ” من المفارقات أن رابين عرض على ياسر عرفات في اتفاقيات أوسلو ذات الاقتراح الذي قدمه مائير وآلون للملك الحسين في عام 1974 بشأن “جيب في أريحا يليه مرحلة ثانية يسيطر فيها عرفات على القرى والمدن المأهولة بالسكان في الضفة الغربية، وبينما لم يقبل الملك ذلك العرض الإسرائيلي في العام 1974، حصل عرفات على الشرعية والدعم الكامل من الولايات المتحدة للقيام بذلك بعد تسعة عشر عاماً”.
يلخّص أنديك تصور كيسنجر عن العرب بوصفهم حالمين رومانسيين، من خلال لقائه بالملك الحسين في نوفمبر- تشرين الثاني 1973، إذ قال له كيسنجر ” هناك عقلية عربية لديها نوع من الرومانسية حيال ذلك (ويقصد اختلاط الأحلام بالاستراتيجيات) وهذا أمر رائع، إلا أنها تؤدي إلى نفاد الصبر، فتصبح الفكرة يوماً ما اقتراحاً في اليوم التالي، وخطة في اليوم الذي يليه”!
أين روايتنا التاريخية؟
من المؤسف أنّنا لا نجد سرديّة أردنية تقدّم روايتنا لتلك المراحل والحقب التاريخية المفصلية، ونقرأ غالباً عن ذلك من الوثائق الأميركية والإسرائيلية، بينما نحتاج إلى وثائق أردنية وإلى تقديم وجهة نظرنا كدولة في تلك الأحداث والقصص، وهو أمر لم يعد بالإمكان تجاهله في دولة تحتفل بمائة عام على تأسيسها، وتعدّ من أقدم الأنظمة الحاكمة في المنطقة، وتمتلك موقعاً استراتيجياً خطيراً ومهماً، فقد آن الآوان أن تكون هنالك رواية أردنية تستند إلى جهود ودراسات علمية معمّقة، يقوم بها مؤرخون وسياسيون، لأنّ ذلك يرتبط بالذاكرة والعقل الجمعي والرمزيات التاريخية والوطنية، وبفهم أيضاً الأسس التي تقوم عليها السياسات الأردنية، بخاصة فيما يتعلق بالعلاقة الجدلية التاريخية العضوية بالقضية الفلسطينية، أو بالعلاقة بالجوار العربي أو بالقوى الكبرى، بريطانيا وأميركا!
يكشف أنديك حجم الاهتمام الذي أعطاه كيسنجر لتاريخ الأمم والشعوب والأنظمة النفسية للحكام والقادة الذين تعامل معهم، وجعل من هذه المعرفة مفتاحاً استراتيجياً للتفاوض والديبلوماسية، وهذا هو الذي قصده أنديك بوصف كيسنجر بـ”سيد اللعبة” The Master of the Game، يضيف أنديك ” إن كانت الديبلوماسية تعني إحضار القادة السياسيين إلى الأماكن التي يترددون في الذهاب إليها، فلا شك أن كيسنجر كان سيد اللعبة”!