* الانتخابات ليست معجزة ولا مفاجآت، هي عملية سياسية واجتماعية معقدة؛ من تعاون وصراع وتنافس وتقدم وفشل ودوافع وقيم نبيلة ومصالح
* سنراقب هذا العام المشاركة الحزبية لنرى قدرتها على تقديم وإنتاج قيادات سياسية جديدة
* لا أحد يملك الإجابة بعد على سؤال لماذا لم تتشكل لدينا أحزاب سياسية مؤثرة تملك قواعد اجتماعية كافية لإحراز أغلبية برلمانية تقابلها معارضة سياسية
* المبدأ العام الذي يحكم حراك النخب هو قدرتها على أن تدفع إلى القيادة والتأثير أفضل الناس وأقدرهم
نخبة بوست – إبراهيم غرايبة
استخدم مفهوم “بناء الديمقراطية المتجددة” في الأوراق النقاشية لجلالة الملك عبد الله الثاني، وليس أهم من الانتخابات النيابية لتجديد الخطاب الديمقراطي للدولة والمجتمع، فالانتخابات بحد ذاتها عمليات مراجعة وتساؤل ونقد ذاتي.
ويبدو واضحا اليوم في مجريات التنافس الانتخابي أن الحياة السياسية، برغم استئنافها منذ عام 1989 على أساس انتخابات نيابية وبلدية متواصلة كل أربع سنوات منذ ذلك الحين، لم تطور نفسها إلى تعددية حزبية تنشئ تنافسا وتداولا سلميا للسلطة.
وهي مسألة يجب أن تلح علينا – حكومات وأحزابا وأفرادا ومجتمعات ومعارضات – لماذا لم تتشكل لدينا أحزاب سياسية مؤثرة تملك قواعد اجتماعية كافية لإحراز أغلبية برلمانية تقابلها معارضة سياسية مستندة إلى قواعد برلمانية ومجتمعية تراقبها وتظل مرشحة لتشكيل حكومة بديلة؟
الإجابة ليست جاهزة ولا يملكها أحد، ولو كانت متاحة لحل المشكلة، لكنها محصلة مراجعات طويلة ومعقدة لـ “لبناء الديمقراطي” وملاحظة العيوب والإنجازات والقوة والضعف، إنها ليست عملية جذرية تزيل البناء من أساسه وتقيم بناء جديدا، وليست نظاما سياسيا واجتماعيا جاهزا يهبط من السماء أو من وراء البحار أو من اختراع عظيم، لكنها شبكة معقدة من العيوب والإصلاحات والنجاحات والإخفاقات الصغيرة والكبيرة، ولن نحيط بها إلا بمعايشة واختبارات وملاحظات متراكمة.
سوف تشهد الانتخابات هذا العام قوائم حزبية على مستوى الوطن والدوائر، وسوف يكون للأحزاب السياسية 43 مقعدًا على الأقل، وربما يكون في مقدورنا في 10 أيلول القادم إعادة التساؤل والتقدير لنلاحظ الخريطة السياسية التي تشكلت ومدى قدرتها على الاستجابة لرؤية الملك وخطة التحديث السياسي والاقتصادي، لكن أيضا يقرأ المكتوب من عنوانه، فالانتخابات ليست معجزة ولا مفاجأة، لكنها تعكس عمليات سياسية واجتماعية معقدة؛ بما فيها من تعاون وصراع وتنافس وتقدم وفشل وتطلعات وأهواء ودوافع وقيم نبيلة ومصالح ومنافع محمودة ومذمومة وتناقضات ظاهرة وحقيقية، وتشارك فيها أطراف كثيرة؛ مرئية واضحة أو خفية؛ قواعد شعبية ومجتمعات وتشكلات وقيادات سياسية واجتماعية، وتقاليد وتشريعات وقوانين وتوازنات.
لكن سوف يكون بمقدورنا أن نشير ونلاحظ إلى صعود وخروج الطبقات القيادية المعبرة عن التنافس والحراك والمطالب، هي ببساطة مثل مباراة ذات قواعد وتقاليد واضحة تتضمن مجيء قيادات جديدة وخروج أخرى، وهذا يعني وجود قيادات بالفعل، ويعني أيضا وجود جماعات نخبة (النخبة بمعنى القيادات السياسية والاجتماعية والاقتصادية) سوف تقاس العملية الانتخابية بمحصلتها وقدرتها على تحريك النخب والقيادات، ذلك أن تجديد النخب يعني تجديد الديمقراطية، لكن إذا بقيت جماعات النخب راكدة أو خاضعة لهيمنة واحتكار، فإن الديمقراطية لن تتجدد. المبدأ العام الذي يحكم حراك النخب (دخولها الى الجماعة أو خروجها منها) هو قدرتها على أن تدفع إلى القيادة والتأثير أفضل الناس وأقدرهم على تحقيق أهدافهم وحماية مواردهم ومصالحهم وتجديدها وإدامتها وتنميتها. كيف تعمل الانتخابات بنجاح؟ كيف نتأكد أننا نسير في الاتجاه الصحيح؟ ما القيادات السياسية والاجتماعية التي تتشكل وكيف تشكلت؟
لم يعد القطاع العام قادرا إلا قليلا على تقديم قيادات متجددة، بمعنى قدرة المواطنين الذين يتوصلون مناصب عامة (وزير، عين، سفير، رئيس جامعة، أمين عمان أو نوابه، أمين أو مدير عام، محافظ) على النجاح في الانتخابات النيابية استنادا إلى تجربته في الوظيفة العامة وتجربته وإمكانياته الشخصية والذاتية بالطبع. ولا نلاحظ إلا قليلا في القطاع الخاص تأثيرا في الانتخابات النيابية مستندا إلى طبقات وجماعات اقتصادية ومهنية، مثل رجال الأعمال والبنوك والاتصالات والتأمين وغرفة التجارة وغرفة الصناعة والنقابات المهنية والعمالية.
ولا نلاحظ إلا قليلا تطورا اجتماعيا بمعنى قدرة الوصول إلى مجلس النواب استنادا إلى العمل القيادي الاجتماعي متوسط المستوى، مثل رؤساء البلديات والجمعيات والأعمال التطوعية والاجتماعية والأندية الرياضية وقطاعات الثقافة والفنون.
إن القواعد الاجتماعية المتبقية على التأثير الفعال في الانتخابات هي العشيرة والتأثير الديني، والحراكية والفعالية الذاتية للأشخاص استنادا إلى طموحاتهم وقدراتهم الذاتية والمالية وعلاقاتهم السياسية والاجتماعية، لكننا نأمل ونراقب هذا العام المشاركة الحزبية لنرى قدرتها على تقديم وإنتاج قيادات سياسية جديدة.
ويمكن بالنظر إلى التاريخ السياسي المنظور والمشهود في بلدنا ملاحظة سلسلة طويلة من السياسات والاتجاهات التي عطلت حراك النخب والمجتمعات، ولم تأخذ في حسبانها التشكلات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الناشئة عن هذه السياسات ولا تداعياتها وتأثيراتها العميقة الممتدة، ولا يمكن تطوير الحياة السياسية لتكون بالفعل تنافسا سياسيا واجتماعيا من دون مراجعتها والتوقف طويلا عند آثارها وتداعياتها، .. ومن هذه السياسات: الحاق المجتمع بالدولة، وأمانة عمان كبرى، ودمج البلديات، والفصل بين النيابة والوزارة، وغياب الدور الاجتماعي القيادي للمسؤولين الرسميين والموظفين العامين، وسياسات التوظيف في القطاع العام والقطاع الخاص، والعزلة الاجتماعية للأسواق؛ او غياب الاقتصاد الاجتماعي والمسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص.
إن أسوأ ما يمكن أن يحدث (وأرجو ألا يحدث) كنتيجة للانتخابات النيابية هو ركود النخب، أو إغلاقها؛ ذلك أنها حالة تؤدي حتما إلى الاحتكار والهيمنة، ثم تتعرض النخبة نفسها للفشل والترهل والانقراض.
وفي المقابل فإن تدوير النخب مؤشر أساسي للديمقراطية المتجددة، فلا يمكن تجديد الديمقراطية والحياة السياسية إلا بآليات انتخابية وسياسات عامة تضمن دخول الأكفأ إلى القيادة السياسية وخروج الأقل كفاءة، أو في عبارة داروينية “البقاء للأصلح” .