* المجتمعات تفوض السلطة إلى طبقة منها تنتخبها، لكنها لا تنقل إليها إرادتها، فالسلطة مفوضة بتطبيق إرادة الأمة

* يفترض أن يكون المواطنون الأكثر حماسا وإقبالا على الانتخابات للحصول على تفويض قريب مما يريدونه

* الدولة في المنظور الليبرالي شر لا بد منه، وفي المنظور الماركسي مرحلة انتقالية تمهيدا للوصول إلى حالة سلام وعدل

* لأن عمليات الخصخصة لم تكن عادلة أو يُؤخذ في إدارتها عامل الاقتصاد الاجتماعي والمسؤولية الاجتماعية، فقد حرمت المجتمعات من المشاركة في امتلاك المشروعات والمؤسسات المخصخصة

* الخطوة التقدمية الممكن الحصول عليها في هذه الانتخابات هي الوعي بما نحتاج إليه، وبأولوياتنا وكيف تعكس الانتخابات هذا الوعي

نخبة بوست – إبراهيم الغرايبة

يفترض أن الانتخابات النيابية تعكس مصالح المجتمع؛ أي مجتمع في العالم أكثر من الدولة؛ أي دولة في العالم. فالدولة، أي دولة، تتطلع إلى سلطات شاملة وتفويض تام بالموارد والقرارات، والمجتمع، أي مجتمع، يتطلع إلى ولاية تامة على الموارد والقرارات.

لكن، وبالطبع، فإن المجتمعات تريد بشكل أساسي السلام، ولأجل ذلك فقد تنازلت للدولة لتتولى الدفاع والأمن، لكنها تريد ذلك بأقل تكاليف ممكنة وبأقل صلاحيات ممكنة للدولة. في المقابل، فإن الدولة تريد مقابل التزامها بأمن المجتمعات والمواطنين وتطبيق القانون تفويضا من المجتمع. هكذا ببساطة، فإن المجتمعات تفوض السلطة إلى طبقة منها تنتخبها، لكنها بالطبع لا تنقل إليها إرادتها، فالسلطة مفوضة بتطبيق إرادة الأمة.

ولأجل ذلك يفترض أن المواطنين أفرادا وجماعات وطبقات وأحزابا ومدنا وبلدات يجب أن يكونوا الأكثر حماسا وإقبالا على الانتخابات للحصول على تفويض قريب مما يريدونه، ولتكون عمليات جمع الموارد وإنفاقها وإصدار التشريعات والسياسات تعكس مصالح المجتمعات والأفراد. إن الدولة في المنظور الليبرالي شر لا بد منه، وفي المنظور الماركسي مرحلة انتقالية أو مؤقتة تمهيدا للوصول إلى حالة سلام وعدل تستغني بها الأمم عن الدولة، أو كما في سفر أشعياء عن اليوم أو الوعد المنتظر “وحينئذ تجعلون دروعكم سككا وسيوفكم مناجل”.

إن المجتمعات سابقة على الدول، فالدولة محصلة عقد اجتماعي للأفراد والمدن والجماعات لتدير علاقاتها وصراعاتها وخلافاتها ومصالحها، أو هي مرحلة من التطور الاقتصادي والاجتماعي للأمم لتحتكم إلى القانون بدلا من القوة، ولتكون السيادة للعدل وليس الهيمنة، وليكون العنف حكرا على مؤسسة أو جهة متفق عليها وضمن قواعد وقوانين تجعله مشروعا، ويكون الناس جميعهم آمنين على أنفسهم وأموالهم وبيوتهم حتى من يرتكب خطأ يستوجب العقاب من حقه أن يشعر بالأمان وأن يدفع الثمن ضمن قوانين ومؤسسات لا تلحق ضررا بحقوقه وأمنه ومصالحه وأسرته وأمواله.

فالانتخابات إذن تعكس عمليات فلسفية واقتصادية وسياسية واجتماعية معقدة؛ بما فيها من تعاون وصراع وتنافس وتقدم وفشل وتطلعات وأهواء ودوافع وقيم نبيلة ومصالح ومنافع محمودة ومذمومة وتناقضات ظاهرة وحقيقية، وتشارك فيها أطراف كثيرة؛ مرئية واضحة أو خفية؛ قواعد شعبية ومجتمعات وتشكلات وقيادات سياسية واجتماعية، وتقاليد وتشريعات وقوانين وتوازنات.

أكبر خطأ أو خلل ذهني وسلوكي هو النظر إلى الانتخابات على أنها هبة أو فزعة أو احتفالات أو مشاعر وجدانية ووطنية جميلة. لسوء الحظ، إنها عمليات صعبة ومملة

تضمنت عمليات التحديث والتنمية تهميشا للمجتمعات، ولم تأخذ الدولة في حسبانها مسؤولية المجتمعات ومشاركتها في وتخطيط وبناء وتصميم المدن والبلدات والطرق والأحياء والأرصفة والحدائق والمشاريع والمؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية، والمرافق والخدمات الأساسية، مثل المياه والطاقة والاتصالات، واستولت على المؤسسات الثقافية والدينية. ثم، في مرحلة الخصخصة التي تخلت فيها الدولة عن تقديم الخدمات والسلع، ولأن عمليات الخصخصة نفسها لم تكن عادلة أو يؤخذ في إدارتها عامل الاقتصاد الاجتماعي والمسؤولية الاجتماعية، فقد حرمت المجتمعات من المشاركة في امتلاك المشروعات والمؤسسات المخصخصة. تحولت المجتمعات إلى كيانات ضعيفة وهشّة.

لم تعد المجتمعات قادرة على المشاركة والتأثير، ولا تملك مصالح وآفاقا لحياتها تسيطر عليها وتسعى لتحسينها وتطويرها، ومن ثم فهي لا تملك من أمرها شيئا، وليس لديها فرصة سوى الضغط والمطالبة بكل شيء، دون تمييز بين ما يجب أن تقدمه لنفسها وما يجب أن تقدمه الدولة، بين ما هو مسؤولية الدولة وما هو مسؤولية المجتمع، وما يجب أو يفضل أن يكون استثمارا وسلعة متداولة في السوق؛ ودون إدراك واضح لعلاقاتها الجديدة مع الشركات التي توفر الخدمات الأساسية أو تحتكرها، والتي امتدت لتصل حتى إلى التعليم والصحة. ما معنى الانتخابات النيابية والعامة للناس والمجتمعات في ظل هذه الحالة؟

المفترض أن المجتمعات تملك وتدير مجموعة من المرافق والخدمات، وتشارك القطاع العام في مجموعة أخرى، ولديها فرص وتحديات مع الشركات والقطاع الخاص، وهي في ذلك تسلك في الانتخابات وتختار القيادات والنخب على النحو الذي يوسع مشاركتها ويزيد مواردها وينظم العلاقة مع الشركات.

يكون هناك معنى وجدوى للانتخابات بالنسبة للناس، عندما يدركون أثرها المباشر على حياتهم ومصالحهم، ولأنهم على اشتباك يومي ومتواصل مع قضاياهم وتحدياتهم، ويملكون حلولا متنافسة

ولذلك فإن انتخابات صحيحة وعادلة تنطلق من وجود مجتمعات ذات كيانات حقيقية، تملك موارد ومؤسسات تدير وتنظم الطاقة والمياه والتعليم والسلع والرياضة والثقافة وتولد فرصا للعمل لا تقل عنها في القطاع العام والقطاع الخاص، ويكون في ظل هذا الحال قيادات ومصالح سياسية واقتصادية واجتماعية تتنافس وتتعاون، ويكون عندها معنى وجدوى للانتخابات بالنسبة للناس، لأنهم سيدركون أثرها المباشر على حياتهم ومصالحهم، ولأنهم على اشتباك يومي ومتواصل مع قضاياهم وتحدياتهم، ويملكون حلولا متنافسة أو متجادلة للاستجابة لهذه التحديات تعكسها بالطبع الانتخابات والتنافس الجاري فيها. الخطوة التقدمية الممكن الحصول عليها في هذه الانتخابات هي الوعي بما نحتاج إليه، وبأولوياتنا وكيف تعكس الانتخابات هذا الوعي!

تتشكل المجتمعات في المدن والبلدات حول الموارد والمصالح والتاريخ، وتنشئ في ذلك منظومتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ولذلك فإن مبتدأ الإصلاح في المدن، ومبتدأ السؤال عن الخلل والعيوب في الانتخابات النيابية والديمقراطية يكون في ملاحظة العيوب في عمل وتشكيل البلديات وأنظمة الحكم المحلي.

لقد ألغى مشروع عمان الكبرى مدنا وكيانات ومجتمعات كانت قائمة تشكلت حولها موارد وقيادات ومصالح وألحقت في مشروعات مركزية لا علاقة لها بها ولا مصلحة واضحة لها في قيامها، ما علاقة مدينة صويلح بالأبراج المقامة، وما مصالح أهل أبو نصير في الجسور العملاقة المقامة على شارع المطار؟ وما مكاسب العمانيين من مدينة العبدلي؟ وبالطبع فإن التساؤل هنا لا يعني بالضرورة الاعتراض على هذه المشاريع أو الخطأ والقصور فيها (ربما تكون مشروعات رائعة، وربما تكون مليئة بالعيوب والأخطاء) ولكن الفكرة الأساسية هي عن العلاقة بين المواطنين ومدينتهم، وبين الانتخابات ومصالحهم.

لقد تحول معظم الأردنيين (أهل عمان وسكانها) إلى تجمعات غير مرئية في المدينة، لا يبدو لها حضور في مخططاتها وتصميمها ومرافقها وميزانياتها وإنفاقها، ولا يلاحظون علاقة بين مشروعاتها وبين مصالحهم وتطلعاتهم، وليس لهم رأي ولا حول ولا طول.

يبدأ تفعيل الديمقراطية وتجذيرها بالمحافظة على طبيعة المدن والمناطق المشكلة لعمان الكبرى، والإبقاء على مجالسها المنتخبة ومواردها المستقلة، ثم تشكل هذه المجالس معا مجلس عمان الكبرى، وتدير مجتمعة الشؤون المركزية والمشتركة للمدينة

باعتبارها مدينة يقيم فيها سكان يحتاجون أولا وقبل كل شيء إلى أسواق ومدارس ومراكز صحية واجتماعية وشوارع وأرصفة وحدائق ومكتبات، أو لنقل مدن مصممة ومخططة لأجل الناس!

فإذا كان المواطنون غير قادرين على التأثير والمشاركة في أولوياتهم واحتياجاتهم الأساسية، كيف يُطلب منهم أن يشاركوا في انتخابات سياسية وتشريعية تفضي إلى حكومات برلمانية؟

في ظلّ هذه التشكلات تنشأ أسواق ومصالح وأندية ومؤسسات وشركات يملكها الناس لإدارة وتوفير احتياجاتهم وسلعهم، وتظهر أيضا قيادات اجتماعية وسياسية وتيارات واتجاهات متنافسة تسعى للحصول على تأييد الناخبين.

وكانت الضربة الثانية للبناء الديمقراطي هي “دمج البلديات”، لقد كان ذلك القرار تدخلا قسريا في علاقات البلدات الاجتماعية الداخلية وفي علاقات البلدات ببعضها

وأضر ببقايا النسيج الاجتماعي والعلاقات والمصالح والتفاهمات التي كانت قائمة في البلدات. ذلك برغم صحة كل ما يقال عن التطوير المؤسسي والتنظيمي الذي أدخله دمج البلديات.

لننظر في المدن والبلدات القائمة التي تتشكل على نحو متراكم ومتواصل منذ مئات السنين، والتي تحمل تاريخا في المكان نفسه منذ آلاف السنين، لنتذكر أسماء البلدات والمدن الواردة في التوراة والشعر الجاهلي والأحاديث النبوية والتاريخ الموغل في القدم والتراث القائم والعميق، ثم تشكلاتها الحديثة القائمة على البلديات والانتخابات منذ القرن التاسع عشر (إربد 1881، السلط 1882، الزرقاء 1904، مادبا 1904، عمان 1909، …) ثم وبعد أكثر من مائة سنة من الانتخابات البلدية وآلاف السنين من النمو والتشكل التاريخي والاجتماعي يصدر قرار لوزير أو لمجلس وزراء يصادم هذه التشكلات العملاقة الراسخة، ألا تبدو العملية مثل محاولة تحويل مجرى نهر الأردن لينبع من البحر الميت ويصب في جبل الشيخ؟


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version