* التجربة الحزبية أصيلة في الحالة الأردنية ورافقت تأسيس المملكة

* نجحت الأحزاب في مرحلة ما في تحقيق انزياح مجتمعي مهم، خلال فترة كان الحضور الطاغي للبنى العشائرية

* الأحزاب في حالتها هذه غير قادرة على إحداث تغيير “حميد” في البنى الاجتماعية

نخبة بوست – هزاع البراري (امين عام وزراة الثقافة الأسبق)

ليس من الدقة عند الحديث عن التجربة الحزبية اعتبارها حراكًا حزبيًا حديث النشأة، وأن هذا الزخم المربك أحيانًا في التأسيس والانتساب هو نتيجة مباشرة لتحول مجتمعي يرى في الأحزاب السبيل الأفضل والمنهج المدني للتغيير وتحقيق التحديث السياسي المنشود.

فالتجربة الحزبية أصيلة في الحالة الأردنية، إذ أن حزب الاستقلال السوري الذي تأسس في فترة الحكومة العربية في دمشق “حكومة الملك فيصل” وافتتح فرعًا له في الأردن عام 1921، رافق تأسيس الدولة الأردنية منذ الخطوات الأولى على يد الأمير عبد الله بن الحسين. تلاه تأسيس حزب الشعب الأردني عام 1927، ثم عقد المؤتمر الوطني الأول عام 1928.

د. هزاع البراري (امين عام وزراة الثقافة الأسبق)

كما لا بد من الإشارة إلى الإرهاصات الأولى للتجربة الحزبية في بلاد الشام أواخر عهد الدولة العثمانية، مثل الجمعية العربية الفتاة التي أُسست في باريس عام 1911 من قبل عدد من مثقفي بلاد الشام ومصر والعراق، والجمعية القحطانية كذلك، ومن ثم تأسيس حزب اللامركزية الإدارية العثمانية في القاهرة عام 1912، كل هذا الحراك الذي مهد لانطلاق الثورة العربية الكبرى على الشريف الحسين بن علي عام 1916، وهي الثورة التي صهرت كل هذه القوى السياسية والثقافية والعسكرية في بوتقة مشروع واحد، يهدف إلى استقلال البلاد العربية وتحقيق الحرية والحياة الفضلى بالتنمية الحقيقية.

إن دخول رجالات من حزب الاستقلال السوري في الحكومات الأردنية التأسيسية الأولى، وما تلا ذلك من توسع طبيعي في تأسيس الأحزاب الجديدة من قبل الأردنيين، هو توسع متسق مع حركة تطور المجتمع ومتماشٍ مع الإرادة العامة للدولة، ليصبح الحراك الحزبي منذ عقد أربعينيات القرن الماضي حركة شعبية بارزة، خاصة في العاصمة عمان والحواضر الأساسية مثل الكرك والسلط وإربد وغيرها

كان هذا الحراك مؤثرًا وشكل زخمًا كبيرًا ترافق مع حالة الوعي الجماعي والحالة الثقافية التي وصل إليها أبناء المجتمع في تلك الفترة. ولا شك أن للقضية الفلسطينية في أعقاب نكبة 1948 أثرها في تأجيج هذا الوعي ليس في الأردن وحده بل في المنطقة كلها، إلى أن تم تشكيل أول حكومة برلمانية عام 1956 والتي عُرفت بحكومة سليمان النابلسي.

وهذا يدل على نضج الحالة الحزبية الأردنية وإيمان الناخب في طبقات المجتمع المختلفة بالأحزاب ودورها في وقت مبكر نسبيًا سبق تأسيس الجامعة الأردنية عام 1962.

لا شك أن حالة الاستقطاب العالمية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية كقطبين متنافرين أيديولوجيًا ومصلحيًا، ودخول قوى عالمية وإقليمية على خط الأحزاب في فترة بالغة الحساسية والتعقيد السياسي والعسكري

ناهيك عن حالة التخندق الداخلي، كانت نتيجته أن توقف الحراك الحزبي بشكل رسمي مع بقائه فاعلًا لدى كثير من النخب ولو بشكل غير ظاهر للعلن. وهذا يؤكد على تجذر الحالة الحزبية لكثير من النخب الأردنية في تلك المرحلة.

لقد نجحت الأحزاب في مرحلة ما في تحقيق انزياح مجتمعي مهم، في فترة كان الحضور الطاغي للبنى العشائرية. لكن ذلك لم يحل أبدًا دون أن تأخذ الثقافة الحزبية حظها الوافر، وتحظى بدعم أبناء العشائر بشكل أساسي، دون إحداث خلط معطل أو محاولة لإعطاء الأحزاب صبغة عشائرية، أو سعي الأحزاب إلى التقليل من شأن العشيرة، التي هي من أهم ركائز المجتمع الأردني في كل المراحل.

الآن، ما هو الواقع الماثل؟ من يقود الآخر ويوجه بوصلته ويفرض رؤاه ومناهجه؟ هل الأحزاب اليوم هي من يقود المجتمع؟ هل هي من يضع البوصلة ويؤشر نحو البوابات الكبرى للتحولات المفترضة سياسيًا وثقافيًا وبالتالي مجتمعيًا واقتصاديًا؟

إن حالة الوهن الحزبي بيّنة ولا تخفي نفسها، فالمراقب لما يجري على الساحة الحزبية بعامتها، وأحزاب الوسط تحديدًا، سيجد أن الأمور معكوسة رغم عمليات التجميل التي لا تحسن

 فهذه الأحزاب في حالتها هذه غير قادرة على إحداث تغيير حميد في البنى الاجتماعية التي لا تتسق مع الحالة الحزبية ودور الحزب وأهدافه ومنهجيته. ولا أتحدث هنا عن التنظير المكتوب في برامج وأدبيات الأحزاب، بل عن الممارسات الواضحة لكل مراقب.

فقد هيمنت هذه البنى الاجتماعية نفسها على الأحزاب، إلا من بعض الاستثناءات القليلة. صار الحزب في تفكيره وتصرفاته وتواصله، بل حتى في بناء قوائمه الانتخابية، خاضعًا بدرجة كبيرة لهذه البنى، التي يفترض أن يكون الحزب ككيان سياسي ثقافي فكري هو من يقودها إلى الضفة الأخرى، في سبيل تحويل هذا الحراك السياسي الحزبي إلى ما يفضي بالضرورة إلى صيرورة ديمقراطية حقيقية تؤثر في المجتمع وتطوره، وتعيد إنتاج النخب في كل القطاعات، وألا يكون الحزب فقط بوابة لخوض الانتخابات، سواء برلمانية أو بلدية أو اللامركزية أو اتحاد الطلبة، رغم الفعالية الخجولة في كل هذه المسارات.

أما لماذا حدث كل هذا؟ فهذا يحتاج إلى كتابة منفردة، ولكن ليكن من الواضح أن حالة الاستعجال في التأسيس والرغبة في إشهار هذا الكيان الحزبي قبل إيجاد فكر وبرنامج ناضجين، وذلك رغبة في استثمار فرصة الكوتة الحزبية في قانون الانتخابات، وتحول الحزب إلى محلل شرعي لبناء قائمة حزبية من أجل اغتنام هذه الفرصة، أضف إلى ذلك حالة النكوص المجتمعي وعدم قناعته بجدوى الأحزاب مرحليًا، وسقوط بعض التجارب في الانتهازية الفردية، بالإضافة إلى ترحيل كثير من البنى الاجتماعية إلى الحالة الحزبية بمسميات وذرائع مختلفة.

كل هذا وغيره يدفعنا إلى القول أننا بحاجة إلى الكثير من الوقت والعمل والتحولات البطيئة، وهي السرعة الحقيقية لأي تغيير مجتمعي.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version