نخبة بوست -إبراهيم الغرايبة

يحاول برنار شوفييه، مؤلف كتاب “المتعصبون، جنون الإيمان”، الاقتراب من مرتكبي العنف المتعصّب، للوقوف على الديناميكية النفسية لديهم؛ من خلال المظاهر والتضحيات والالتزامات نحو الدوافع اللاواعية التي تدفع المتعصبين إلى ممارسة أفعال نهائية قد يكونون أول ضحاياها.

المتعصّب يعرّفه المؤلف، وهو أستاذ علم النفس المرضي في جامعة ليون في فرنسا، بأنّه إنسان المقدّس، إنه يهب نفسه، جسداً وروحاً، في سبيل قضيته، إلى حدّ الإفراط؛ بل إلى غاية الوله الجنوني، والمقدّس المعني هو مقدس يضع نفسه في مقام المثال، الذي يفترض أن يكون بعيداً عنه أيّ مجال مدنّس، فلا يعود المتعصب يفرق بينهما؛ لأنّه تحوّل إلى كائن من كتلة واحدة.

يحدّد المؤلف، في كتابه الصادر عن دار نينوى 2017، ترجمة المقداد، أربعة نماذج من المتعصبين؛ المُلهَم المشبع بحضور الإله، ويذهب به الأمر إلى الموت الرمزي والجزئي. والمعظّم، أو المتعصب الامتلاكي؛ الذي يغرق في العمى الكلي، ولا يعود ملكاً لنفسه؛ بسبب حالة التثوير التي تنتابه والمحفزات الخارجية المستخدمة في الطقوس، مثل؛ الموسيقى والمخدرات، ويتحوّل إلى ممسوس مستحوذ عليه، ومن أمثلته؛ الهذيان المقدس. والمطلع (الفيثاغوري) الشغوف بالعقل؛ وهو إنسان مبدع، يتوق إلى تكوين حركة هدفها تأبيد مجده، والساخط؛ مثل الجماعات العسكرية والميليشيات.

يقول رونيه مانيللي، في كتابه “الحياة اليومية للمانونيين”: “إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه أبداً، فإنّ المتعصبين يعيدون أنفسهم دائماً، بمثابرة مدهشة”، وتلقي أبحاث جان كلوت، التي عكفت على توضيح الظروف التي أنتجت الرسوم الجدارية في مغاور لاسكو، الضوء على هذا النوع من التعصّب؛ حيث تؤشر الرسوم المشار إليها إلى وجود ممارسات شامانية يدخل من خلالها الأفراد في حالة رعدة، ويقومون ببعض التجاوزات.

وكما في المجتمعات التقليدية، التي ما تزال تحتفظ حتى اليوم بممارسات مماثلة، تظهر أحياناً بعض الانحرافات التي تفضي إلى اقتراف أفعال اغتصاب أو تعذيب أو قتل.

يقول روجيه كايوا، في كتابه “الإنسان والمقدس”: إنّ “الكون المدنّس هو عالم أشياء، بينما الكون المقدس هو عالم قويّ، فالمقدس من الناحية النفسية هو شحنة الطاقة غير الواعية ذات طبيعة غريزية، وضعت في شيء أو شخص، أو في مكان محدد يمنحها قوة كبيرة جاذبة أو نابذة، والالتقاء المقدس يعني الشعور بزلزلة داخلية في طبقات اللاوعي، أو في جزء منها، بدويّ عاطفي جاذب، أو رافض لبعض أشياء العالم الخارجي.

المكان لازم لترسيخ الإيمان وما يقتضيه من ممارسات، والنار ضرورية لتمنحه القوة المتخيلة، لكن كيف يتم الانتقال من المقدس إلى التعصب؟ الشعائر القديمة تبين درجة العنف الغريزي الذي يصل قوة الحياة بقوة الموت، وتوجيهه في هذه المظاهر المتعصبة، إنّ حماسة التابع التي تدفع حتى منتهاها تبحث عن منافس، فتجدها في أفعال طقوسية تشكل أولى عمليات الرعب، أي إلى حدّ يصعب التحكم به، بمعنى العنف المحض، المنفلت من عقاله؛ فلا يقف عند حدّ.

الألم الجسدي بالاعتداء على الذات؛ هو دلالة نوعاً ما على الإلهام الإلهي، الذي يتم الاعتراف به على هذا النحو، ويؤكده الأتباع الآخرون، فالرجل أو المرأة القادران على مثل هذا التخلي عن “أناهما” (ego)، من أجل معتقدهما جديران بالتصديق والاحترام من الطائفة التي ينتميان إليها، ولهذا يتحول هذا، أو ذاك، نفسه إلى صورة للمقدس، فشخصه عابد ومعبود، ويعترف له بأنه بمثابة “شفيع” فاعل لدى الإله، ويصبح موقراً؛ أي صورة رمزية انتدبتها الجماعة (الطائفة) لتمثيلها، لأنّها أولاً موقرة لقدرتها الحقيقية والمرئية والمحسوسة على التواصل مع الإله، ونقل رسائله من خلال آلية الرعدة الذاهلة، والرعدة حركة جسدية ذات طبيعة تنويمية، تعزز لسلطة الإيمان لدى الشخص؛ لأنّها تزيد من قدرته على التلقي وتطور الشعور بالتواصل مع واقع آخر.

يطبق المتعصب الألم والتدمير على نفسه، في محاولة منه لتأكيد عمق تعلقه بالمعتقد، ويُظهر علامات ملموسة على ذلك، وهو ما يمكن فهمه في إطار تعزيز معتقدات الجماعة كلّها، وكلّما كان المتعصب خاضعاً لقانون المعبود الذي يسكنه تزداد حاجته إلى المطابقة بينه وبين الواقع الخارجي أو معتقده؛ فسفح الدم، وبتر العضو، فعلان يبينان للآخرين مقدار قناعة الشخص وإيمانه بمعتقداته.

في التعصب الامتلاكي، أو الاحتكاري الأوليغاركي؛ يتحالف المؤمن المتعصب مع المعبود، لنيل بركاته، ويتميز هذا التعصب بالحشد والتعبئة العمياء، ويتحول البطل الأسطوري إلى كاهن، أو خادم، متحمس للدين، وتبدو في الأمثلة العليا لهذا النوع من التعصب قصة يسوع المسيح وديونيس، اللذين توحّدا بالإله، بعد استعادة رمزية لموت الجسد الإلهي، فديونيسوس، كما يسوع، هو ابن الإله، وولد من جسد امرأة عذراء خلال عملية الروح القدس، ويكون البرق الإلهي في قصة زيوس هو التمثل الإلهي، وبعد أن دفع كلاهما ثمن خطيئته، عادا إلى السماء للجلوس إلى يمين الربّ.

وفي النموذج العلمي، أو المعرفي “الفيثاغوري”، يقوم التعصب على تقدير زائد للعقلاني، ولمكانة العقل – الحقيقة، والمبالغة في العقلانية المترافقة بالمنطق المركب لمجتمع اطلاع الأسرار، ويقود ذلك حتماً إلى تعصّب فريد، لا يختلف عن الأشكال الأخرى من التعصّب.

وضع فيثاغورس، في القرن السادس قبل الميلاد، أفكاراً لبقاء الجماعة قابلة للحياة والاستمرار بعد التأسيس، مثل المعرفة الدقيقة المتكونة والقابلة للنقل التدريجي، والقواعد الدقيقة الواضحة التي تتيح الاطلاع على الأسرار، وتكوين مجموعة نخبوية مغلقة على نفسها عرف طريقة عملها، وخضوع هرمي ومتدرج لقائد في مستوى القدسية، ومالك للحقّ الخير والجمال.

سيطر فيثاغورس وجماعته على مدينة كروتونيا، وأنشأ نظاماً اجتماعياً دقيقاً وصارماً، ثم هاجم الفيثاغوريون مدناً أخرى؛ بهدف إقامة مجتمع مثالي ومنظم، ثم انشق سيلون، حاكم سيبارس التابعة للفيثاغوريين، عنهم، وأنشأ حركة ديمقراطية قضت على الفيثاغوريين، ودمّرت مدارسهم وأماكن اجتماعاتهم، لكنّ الجماعة الفيثاغورية ابتعثت بعد مئة عام، بقيادة الفيلسوف أرشيتاس؛ الذي مارس سلطة بلا منازع، ويقال إنّ أفلاطون التقى أرشيتاس في تارانتا، عام 388 ق.م، واستوحى منه نموذجه في سلطة الفلاسفة في المدينة المثالية، التي وصفها في كتابه “الجمهورية”.

ويمثّل التعصب الناشئ عن الالتزام لجماعة مسلحة أو عسكرية منظمة تنظيماً مضبطاً ودقيقاً، نوعاً خطيراً من التعصب، لدرجة أنّ فولتير يقول: أليس من العار أن يفتقد العقلاء إلى الحميّة التي يتمتع بها هؤلاء المتعصبون، وهم في العادة يبذلون قوتهم الضاربة لخدمة القائد، ويتفانون في سبيله جسداً وروحاً؟

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version