نخبة بوست – فريدريك ايفانز

“قد يشير انتصار حزب العمال الساحق إلى تحول محوري في سياسة المملكة المتحدة تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مما يوازن السياسة البريطانية بين الدعوة لإقامة دولة فلسطينية، وإعادة بناء الثقة مع الجالية اليهودية في المجتمع البريطاني”.

حقق حزب العمال فوزًا ساحقًا في الانتخابات العامة في المملكة المتحدة في يوليو/تموز 2024، ومن المرجح أن تتغير السياسة الخارجية البريطانية فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وحيث ما يزال هذا الافتراض محل تساؤل، إلا أن بعض المحللين يستبعدون أن يكون نهج رئيس الوزراء السير كير ستارمر مختلفًا عن نهج الحكومات المحافظة السابقة، وحتى الآن، يؤكد ستارمر على نهج أكثر واقعية وعقلانية بتوازن، مما يدعو للتساؤل حول ماهية النهج الجديد؟

التحول في حزب العمال عن الكوربينية

من أجل بناء تصور حول نهج حكومة حزب العمال في المملكة المتحدة، من المهم تتبع مواقفها السابقة، ففي عهد جيريمي كوربين (2015-2020)، تبنى الحزب موقفًا يُوصف بالمعادي للصهيونية بشكل واضح، مما أدى لظهور اتهامات واسعة النطاق وَصفته حينها بـ”معاداة السامية” وأحدثت انقسامات داخلية. حيث أنتج ذلك نفورًا عبر ديمغرافيات الناخبين في المملكة المتحدة، وإلحاق الضرر بسمعة حزب العمال، مما دفع الحزب للعودة نحو سياسة أكثر وسطية تحت قيادة ستارمر.  ويشمل ذلك ابتعاد الحزب عن الخطاب المثير للجدل السابق، والعمل على إعادة بناء الثقة مع المجتمع اليهودي في بريطانيا، ويُقيَّم بنجاحه في ذلك. ومن المتوقع أن يمتد هذا النهج الوسطي والبراغماتي للسياسة الخارجية لحكومة حزب العمال في المملكة المتحدة تحت قيادة وزير الخارجية ديفيد لامي. وبالتالي، فإن موقف لامي قد لا يختلف اختلافًا جذريًا عن موقف كير ستارمر، لكونه أكثر توازنًا وبراغماتية. وفيما يتعلق بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؛ فكلاهما يرغب في إعادة بناء الثقة مع المجتمع اليهودي والابتعاد عن خطاب العمال في عهد جيريمي كوربين. كما يرغب كلاهما في عملية سلام مستدامة، تدين التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، حيث يدعم لامي الجهود الدولية من أجل السلام ويؤيد الأمم المتحدة، وبما يتماشى مع التزام ستارمر بحقوق الإنسان ومبدأ حل الدولتين.

ديناميات حزب العمال الداخلية

على الرغم من أن هذه القضايا السابقة قد حُسم النقاش فيها داخل الحزب على ما يبدو، إلا أن الصراع الداخلي والانقسام البيني في حزب العمال، مع حلفاء جيريمي كوربين ما يزال قائمًا فيما يتعلق بغزة، والتي ما تزال تتحدى قدرة الحزب على الانسجام. ففي 24 يوليو/تموز، تم تعليق سبعة نواب من حزب العمال لمدة ستة أشهر بعد التصويت ضد حكومة المملكة المتحدة على تعديل لإلغاء سقف استحقاقات الطفلين في المملكة المتحدة، وبعد ذلك أشار جيريمي كوربين وأربعة نواب مستقلين آخرين إلى أنهم يرغبون في العمل عن كثب مع أعضاء البرلمان السابقين في حزب العمال الموقوفين. قد يكون العديد من نواب حزب العمال أكثر انسجامًا مع النواب الموقوفين وجيريمي كوربين. في حين أن اليسار العمالي، سواء في إزلينغتون نورث حيث ترشح جيريمي كوربين كمستقل وهزم مرشح حزب العمال الرسمي، وفي ليستر، دوسبري، بلاكبيرن وبرمنجهام، حيث دعم ضمنيًا المرشحين المسلمين المستقلين الذين يسعون للانتخابات فقط على أساس برنامج عمل مؤيد لغزة، وفي كل حال، خسر مرشحو حزب العمال. كما انخفضت أصوات الحزب بالمتوسط بنسبة 23% في المقاعد التي يعرف عن أن 20% أو أكثر من سكانها بأنهم مسلمون. كما شهد كبار نواب حزب العمال في المناطق ذات الكثافة السكانية المسلمة انخفاضًا كبيرًا، بما في ذلك ستارمر وويس ستريتينغ (وزيرة الدولة للصحة والرعاية الاجتماعية الآن) وشبانة محمود (الآن اللورد المستشار ووزيرة الدولة للعدل). 

ومن هنا، فإن طرد ستارمر الفوري لمنتقديه في 24 يوليو/تموز كشف عن التشقق داخل حزب العمال، وأحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك هي الحرب في غزة. أما في الوقت الحالي، فيبدو أن غالبية ستارمر البالغة 158 (151 بعد الإيقاف) تضعه في موقف لا يمكن تعويضه. حيث حذر طرده من النواب السبعة في 24 يوليو/تموز الآخرين الذين لم يعلن دعمهم لسياسة الحكومة البريطانية الأكثر راديكالية الموالية لغزة بشكل علني بعد.

الرأي العام والسياسة الخارجية للمملكة المتحدة

يمكن تحليل كيفية تفكير حزب العمال تجاه الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني من خلال استطلاع للرأي العام البريطاني، والذي أجري قبل فوز حزب العمال بالانتخابات، وكشف عن انقسام عبر الأجيال في الرأي العام البريطاني، حيث أن 59٪ من جيل الألفية (يوصف باسم “الجيل Z”، ويشمل أولئك الذين هم في العشرينات لأوائل الأربعينات)؛ بأنهم مؤيدون لاستمرار الاحتجاجات لوقف إطلاق النار في غزة، مقارنة بـ 46٪ من أولئك الذين هم في الستينيات والسبعينيات (يوصفون باسم “جيل طفرة المواليد”)؛ والذين يعارضون الاحتجاجات بالفعل. ومع تأييد 73% من “الجيل Z” لوقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل، سيحتاج حزب العمال للتفكير في تأثير الرأي العام البريطاني للحفاظ على دعم الناخبين الأصغر سنًا.

أما ثقة حزب العمال المتجددة مؤخرًا مع الجالية اليهودية البريطانية، لا تعني في رأي حزب العمال الصراع في دعمه للدولة لإقامة دولة الفلسطينية، يوضح ذلك بيان الحزب. وليس الأمر واضحًا مثل بيان حزب العمال في الانتخابات العامة في المملكة المتحدة عام 2019 الذي تعهد بالاعتراف الفوري والأحادي بدولة فلسطينية مستقلة، ولكن ستارمر يقدم بدلا من ذلك في عام 2024 موقفًا أكثر عملية، حيث يدين الأعمال أحادية الجانب التي تقوض السلام، مثل: التوسع الإسرائيلي ببناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. وبذلك يقترح حلًا مستدامًا للصراع ويدعو لإقامة الدولة الفلسطينية  كجزء من عملية سلام أوسع للتعايش والاعتراف المتبادل، كما يفضل اتباع نهج أكثر دبلوماسية، بالإضافة للحفاظ على موقف قوي فيما يتعلق بالتزام الحزب تجاه الدفاع عن حقوق الإنسان والاعتراف بالقانون الدولي في تسوية تفاوضية، وبالمحصلة معارضًا لجميع أشكال الضم، حيث يشدد على “الحاجة الواضحة والملحة لوقف إطلاق النار في غزة”.

وبعد فوزها في الانتخابات، قررت حكومة العمال البريطانية إعادة التمويل لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ولعل من أبرز وجهات النظر، تناول القرار بصورة مثيرة للجدل بسبب مزاعم حول علاقة الأونروا مع حماس. ومع ذلك، فإن ستارمر وحكومة العمل في المملكة المتحدة مدفوعان بالتزامهما الراسخ بالأممية، ودعم النظام الدولي القائم على القواعد (على سبيل المثال،  يواصل لامي دعم سعي المحكمة الجنائية الدولية لإصدار مذكرات اعتقال ضد القادة الإسرائيليين)، ودعمه للأمم المتحدة. ويهدف بهذا النهج لمعالجة الأزمة الإنسانية الفورية في غزة، مما يعكس موقفًا أكثر توازنًا لحكومة حزب العمال البريطاني تجاه احتياجات كل من الإسرائيليين والفلسطينيين، وبالتالي دعم أكبر للجهود الدبلوماسية لحل الصراع.

وعلاوة على ذلك، فإن ملخصات سياسة حزب العمال المنشورة تؤيد دعمها للتمويل الدولي للسلام الفلسطيني الإسرائيلي، الذي يشمل المشاركة الثلاثية للاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية والولايات المتحدة؛ لبدء محادثات السلام والتخفيف من الآثار المروعة للصراع على المدنيين، بما في ذلك الآثار الاقتصادية والاجتماعية.

لكن العوامل الخارجية لها تأثير كبير على نهج حكومة العمل في المملكة المتحدة، فعلى سبيل المثال،  العلاقة الحرجة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وتعني أنه في هذه القضية بشكل خاص؛ فمن المرجح أن تبقى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة متماثلتين في التوجهات، خاصة أن هناك اعتماد إضافي على الولايات المتحدة لتعويض تبعات خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بتخفيف الخسائر التجارية مع الاتحاد الأوروبي، والخالية من الاحتكاك مع سوقه الموحدة. وبالتالي، فإن التجارة الثنائية المتنامية مع الولايات المتحدة، والسياسات الأمنية والخارجية مهمة جدًا للمملكة المتحدة، كما يمكن أن تؤدي اتفاقيات التجارة الحرة الجديدة مع البلدان الأخرى، بما في ذلك إذا نجح الاتفاق مع الهند، في نهاية المطاف لإحداث بعض التعديلات في درجة اعتمادية المملكة المتحدة على الولايات المتحدة.

وعلاوة على ذلك، فإن أحد العوامل التي يحتمل أن تشكل تحديًا قد يهدد هذا الحل التعاوني، هو نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في تشرين نوفمبر/تشرين ثاني 2024، حيث أن الديمقراطيين ومرشحتهم نائبة الرئيس بايدن كامالا هاريس  يشيران إلى الموقف العملي والدبلوماسي لحكومة حزب العمال في المملكة المتحدة في المنطقة، على العكس من ذلك، فإن فوز ترامب ونائبه فانس قد يؤكد على التوافق الوثيق الحالي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على وجه الخصوص، فيما إذا كان تركيز الرئيس السابق دونالد ترامب على الدعم غير المشروط لإسرائيل، فكثيرًا ما يزعم ترامب أنه الرئيس الأكثر تأييدًا لإسرائيل في التاريخ الحديث، ومن شأن ذلك تقويض حل الدولتين. ومع هذا، فإن علاقة ترامب برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو معقدة، وأصبحت مريرة بعد الانتخابات الرئاسية عام 2020، خاصة تهنئة نتنياهو للرئيس جو بايدن على فوزه مباشرة. وكثيرًا ما قال ترامب إنه سيسعى لوضع نهاية سريعة للصراع، دون تحديد كيفية تحقيق ذلك، وفي المناظرة الرئاسية في يونيو/حزيران، استخدم ترامب خطابًا يُعتبر مهينًا تجاه الفلسطينيين.

خاتمة

في الختام، قد تعني عواقب فوز ترامب الجمهوري ضغطًا كبيرًا على حكومة حزب العمال في المملكة المتحدة، لاتخاذ موقف أكثر تأييدًا لإسرائيل من أجل الحفاظ على علاقات آمنة مع الولايات المتحدة، وعلى الرغم من التحديات الصعبة في السياسة العامة للحكومة البريطانية، والتي ربما تؤدي لبعض الامتثال فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. ومع ذلك، فمن المرجح أن تدعو حكومة حزب العمال في المملكة المتحدة لتحقيق التوازن من خلال مواصلة دعم حقوق الإنسان وحل الدولتين، وعلى أي حال، فإن تحقيق ذلك قد يتم من خلال استخدام الاستراتيجيات الدبلوماسية متعددة الأطراف، فضلًا عن السعي للحصول على الدعم من شركاء آخرين مثل الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية لصالح السلام، مع محاولة تجنب التحدي المباشر مع الولايات المتحدة.

ومع ذلك، تواجه حكومة العمل في المملكة المتحدة تحديات محلية كبيرة أيضا، انطلاقًا من كون المملكة المتحدة مثقلة بالديون إلى حد كبير، بسبب القيود الكبيرة على الميزانية ومحدودية الموارد. وبالنسبة لحكومة حزب العمال في المملكة المتحدة؛ فلتنفيذ أجندتها والحفاظ على السلطة، سيكون للرأي العام دورًا حاسمًا في تأييدها. ومن غير المرجح أن تؤدي الانقسامات الحزبية الداخلية إلى تعريض أغلبية ستارمر للخطر، على الأقل في الوقت الحالي، نظرًا لتوفر أغلبية كبيرة مؤيدة له، وأما الأقلية النسبية فهي مستعدة للتعبير علنًا عن آراء قوية مؤيدة لغزة ومؤيدة لكوربين. ومع ذلك، سيحتاج حزب العمال للموازنة ما بين دعمه الواضح لإسرائيل والدعوة لإقامة دولة فلسطينية، والتي ستواجه انتقادات من الرأي العام المؤيد لغزة. وسيكون الحفاظ على هذا التوازن الصعب أمرًا حاسمًا لحكومة حزب العمال في المملكة المتحدة، خاصة في سياق الآراء الشعبية السائدة على نطاق واسع في المجتمع المسلم في المملكة المتحدة. وبالإضافة لما سبق، فإن كيفية معالجة هذا الأمر ستؤثر في نهاية المطاف على سياسات حزب العمال للمضي قدمًا، حيث تحاول حكومة الحزب ممارسة الضغط بهدف التوصل لوقف إطلاق النار في غزة، سعيًا منها لمنع توسع الصراع وانتشاره نحو لبنان بشكل خاص، ووقف المزيد من التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، وبالتالي، الامتثال للقوانين الدولية، وتحقيق حل الدولتين في نهاية المطاف. ويمكن أن يؤدي ذلك -من بين عوامل أخرى-، لاتخاذ تدابير دبلوماسية، وإصدار بيانات عامة، وربما دعم عقوبات الاتحاد الأوروبي ردًا على المزيد من الانتهاكات الإسرائيلية.

معهد السياسة والمجتمع


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version